سأموت في المنفى..” جرحنا القديم المتجدد : محمد الروبى

المصدر : محمد سامي موقع الخشبة

أخيرا منحني حظي فرصة أن أشاهد عرض الصديق العزيز غنام غنام “سأموت في المنفى” الذي كنت أتوق لمشاهدته وأنا أتابع أخبار جولاته في مدن عربية مختلفة، وها هو يعرض على هامش مهرجان “الصواري” الدولي الذي شرفت بالمشاركة في فعالياته، وخاصة الندوة الفكرية التي دارت حول (المسرح وما بعد الإنسانية).
(سأموت في المنفى) إقرار مسرحي من أحد كبار المنفيين.. اختار له صاحبه شكلا يتسق وكونه إقرارا.. شكل الحكي.. حيث يقف منفردا وسط مستطيل تشكل من جمهور يستمع ويتفاعل وربما في لحظات يود لو غادر المكان – كما حدث معي – لا مللا أو اعتراضا، ولكن هربا من قسوة حقائق يلقيها هذا الحكاء في وجوهنا بقسوة قد يغلفها أحيانا بمزحة أو سخرية.
في العرض الذي اعتمد المونودراما شكلا والحكي أسلوبا، صاغ غنام غنام من حكاياته الشخصية عملا دراميا مكتمل العناصر تحولت ببراعة الصياغة واختيار المحطات من مجرد سرد لحكايات شخصية إلى هم عام نشعر به جميعا، لكننا كنا نهرب من مواجهته دوما حتى جاء هذا الحكاء ليكشفنا أمام نفوسنا.
في مساحة فارغة إلا منه، يستدرجنا غنام خطوة خطوة إلى جحيم معاناة لا يحياها وحده بل كل فلسطيني على وجه البسيطة حتى أولئك الذين بقوا داخلها.. معاناة لا يشعر بها إلا أصحابها.. ولا يلمس نارها إلا من عايشها. ولأن راويها يعي ويؤمن بأن (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) تلك التي كانت (تسمى فلسطين) وصارت (تسمى فلسطين).. فطن إلى أن بقاءها مرهون بأن تروى حكاياتها دوما.. تلك الحكاية التي تتشكل من حكايات صغيرة أو كما قال إدوارد سعيد (على كل فلسطيني أن يحكي روايته).. واختار غنام حكاية عن حلمه وحلم كل نازح ومهجر ومطرود ولاجئ، حلم أن يدفن في الوطن… ولأن الراوي لا يستهدف عطفا أو شفقة ولأنه يرفض أن يكون المقابل لسماع حكايته مصمصة شفاه أو طبطبة على ظهر مثقل بالأوجاع، حرص أن ياتي حكيه مبتعدا تماما عما يثير الشفقة.. مكسورا بتغييرات أدائية تخطفك من حافة البكاء لتلقي بك فجأة في أتون وعي يزيدك ألما ونقمة على ذاتك العاجزة ويحيل شفقتك إلى سخط على كل من تسبب في عجزك عن فعل شيء تجاه هذا الذي تشاهد وتسمع أنه حدث.
سيأخذك غنام ليعرفك على أبيه وأمه وأخيه ورفاق المنفى والوطن.. سيتجول بك في ثنايا ضيقة تخرجك إلى عوالم أرحب مشحونة بالمعلومة والمفاجأة.. وهو يفعل ذلك بمقدرة كاتب ومؤدٍ يعرف من أين وكيف يقبض على عقلك وروحك، فالانتقال من شخصية لأخرى محسوب بدقة.. والخروج من حكاية إلى حكاية مقنن بمنطق يحدده هدف الكاتب المؤدي.. والنكتة التي سيلقيها سيحدد لها مكانا ووقتا يحيلانها إلى خنجر مضاف.. والكرسي الذي استعان به والذي يشبه تماما كراسي المتحلقين حوله، سيتحول ببراعة ساحر إلى حقيبة وعربة وشاهد قبر و..و، ستصدق كل هذه التحولات ببساطة ودون اجتهاد.
(سأموت في المنفى) عرض قاس رغم بساطته، جاذب رغم خلوه من بهارات الاكسسوار والديكور.. جارح إلى حد الغضب.. والأهم أنه يؤكد على ما قد نسيه البعض: أن المسرح هو في الأخير مساحة تجمع بين مؤدٍ ومتلقٍ.. وبهذه البساطة وحدها يتفرد المسرح عن كل أشكال الفنون الأخرى… فشكرا غنام غنام.. وشكرا مهرجان الصواري.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *