جواد الاسدي /رعاية د.سلطان القاسمي للمسرح أثمرت جيل مسرحي عربي جديد/حاوره عبد الجبار خمران

صرنا بلا مدن لان القتل صار هو المفردة الأكثر سطوعا.

قررت إغلاق مسرح بابل ليس فقط بسبب الوحش المالي وقسوة الحياة المعيشية في بيروت إنما لانهيار الذائقة العامة.

–  “الهيئة العربية للمسرح قدمت طاقات كتابة وإخراج لمبدعين  مجتهدين يقدمون عروض ملفتة”.

جنته المسرح والبروفة حبه الاول. نحث بحضوره، كمخرج مسرحي وكاتب لنصوص استثنائية داخل المشهد المسرحي العربي المعاصر، تجربة مسرحية بحثية ومختبرية ذات رصيد ابداعي وفكري وازن. يشكل فسيفسائها عروض عالية الحس الجمالي والعمق الفكري كالعائلة توت، خيوط من فضة، ثورة الزنج، مقهى أبو حمدة، المجنزرة مكبث، الاغتصاب، تقاسيم على العنبر، رأس المملوك جابر، المصطبة، حمام بغدادي…) عروض جواد الاسدي – التي حظيت بمشاهدة بعضها وتتبع ما يكتبه النقاد عنها – درس جمالي في ضبط الإيقاع المسرحي وقياس منسوب جرعات الاحاسيس والانفعالات ودوزنة أوثار الأداء التمثيلي والكتابة بالضوء والحركة. إننا أمام حالة مسرحية هي بمثابة امتداد لمشروع مسرحي راهن منذ تشكلاته الطلائعية الاولى على موهبة الممثل ومهارته وعلى رؤية المخرج وإدارته وعلى خشبة نص يحمل هموم الإنسان وتطلعاته إلى غد أفضل وعالم أجمل.

كما لا يمكن فصل جواد الانسان عن الأسدي المبدع، فرأس الرجل برج نار يغلي بالشخصيات والنصوص والحوارات والمفردات البصرية الركحية. اينما حل وارتحل، في اي مدينة عربية أو اجنبية يكون المسرح ضعفه وجنته المشتهاة. قد تختلف معه لكن لا تختلف عليه.

الأسدي مخرج مسرحي عربي بمواصفات احترافية وابداعية حقيقية وأصيلة. صارم مع ذاته وتجربته ومشروعه، يوثق زمن البروفة ويسجل في دفتر “خشبة النص” رؤية المخرج وأنفاس الممثل، تاريخ الحركة وسيرة المشهد.. يدفع بالكلمات الى أقصى حدود الفكرة وينهل من معجم خاص يجمع ضراوة المعنى وطلاوة المبنى.

حول بعض من هواجسه المسرحية ورؤيته الآنية للمشهد المسرحي العربي كان لنا معه هذا الحوار :

 

– هل ما يزال للكائن المسرحي في المدينة العربية حقا حيز للإسهام في بناء (البيت – الوطن) تلك المساحة المنسوفة، كما أسميتَهما ؟

– ثمة مدن عربية كان مشهود لها بكونها رحم ثقافي تعددي مدني هي الاخرى طغى على كيانتها البنيوية تقسيمات طائفية عقيمة لتتحول الحياة لإنتاجية الجمالية مثلا نحو القبيلة والطائفة اكثر منه الولاء للبحث الجمالي والمعرفي والمدني ومدراء البنوك والمؤسسات الثقافية ورجال الاعمال وقعوا وأوقعوا المدينة في هذه الحفرة من الانقسامات.

لم يعد لدينا مدن عالية الشغف بالثقافة والفنون لهذا ثمة قحط ثقافي وفراغ فني تسود فيه اعمال سلعية سوقية تتجاذب مع انهيار الذوق العام الذي يؤسس تدني في درجات التّذوق.

 

– كيف تنظر، كواحد من المخرجين الطليعيين الذي ضخوا جماليات جديدة في جسد الفرجة المسرحية العربية، إلى واقع مسرحنا اليوم.. ؟

– لست ارى في الحياة الثقافية الراهنة ما يمكن الارتكاز عليه لإطلاق مشاريع مسرحية او سينمائية او.. او.. بسبب تهدم وانهيار المبنى المدني والمؤسساتي وانفصام الدولة عن المجتمع وظهور مناخات مافيوية اصولية تعيد الحياة الى كل ما هو غريزي وحيواني. وبدل الصعود لبناء مناخات تنويرية جمالية ومعرفية وبناء إنسان مديني تعود الحياة الى ثقافة متدنية من النزاعات العرقية والطائفية وسيادة راس المال المتعدد الشبهات لكتابة المجتمعات كتابة بوهيميه.

كأنما صناع الجمال الفني غادروا أمكنتهم وأحلامهم وشهيتهم ونزعوا عن رؤوسهم قبعات النضال من اجل بناء مجتمعات حداثوية جديدة لصالح التسيّد المطلق لسوق تلفزيوني يحفر في بناء خطاب الجهل والنجومية الارتزاقية. لذلك وفي انحسار وغياب خلاقين حقيقيين يتسيد على منصات المسارح أنصاف مخرجين. والكتاب والممثلين الذين كنا نعول عليهم لإطلاق مسرح نهضوي جديد باعوا مواهبهم لرأس المال ونسوا تماما تاريخا طويلا من الكد والحفر في معاهدهم المسرحية.

 

– وماذا عن مكانك الأول بغداد .. كيف تنظر الى تلك المدينة اليوم .. ؟ وإلى مدن عربية اخرى تلهث وراء ثقافة الاستهلاك ويعمق جروحهاالإستبداد والارهاب والتناحرات الطائفية ؟

– احس بالفزع والخوف من طغيان نبرة الجهلة الذين انتهزوا الفرص هنا وهناك في هذه الوظيفة أو تلك يحملون معاول يهدمون بها تاريخ لحياة مسرحية غنية ومثمرة في العراق ومدن عربية اخرى.

صرنا بلا مدن لان القتل صار هو المفردة الأكثر سطوعا. قتلة من طراز خاص اكثر ضراوة وفتكا من كل اجندات الوحشية التي سادت على مدار عقود مضت. هذا هو الذي يسود مثلا في بلاد الرافدين وبلاد تدمر ودوّل اخرى تؤرخ لبشر جدد يصنعون جريمة على مقاسات تقنية حديثة.

– لماذا خرجت من بيروت المدينة، وكيف خُلع وتد مسرحك بابل بعد عشر سنوات من الإبداع .. وهل فعلا تعقّد تواصلك مع مدينة كانت حتى عهد قريب مصدر جذب للمثقفين والمبدعين ؟

– قررت إغلاق مسرح بابل ليس فقط بسبب الوحش المالي وقسوة الحياة المعيشية في بيروت إنما لانهيار الذائقة العامة والولاء لفرجة جديدة كرسها عدد من المخرجين الذين أشاعوا معايير رخيصة لجذب المتفرج.. اللهاث وراء تطفل تاريخي لمشاهدة إشارات وعبارات جنسية ضحله او مسرح آخر يقوده عدد من المسرحيين الذين يعملون على تسريب النكات الفجة وترويج نقد هذه الطائفة او تلك وآخرون مهرجون يتمادون نحو تكريس شبهات عالية الابتذال أولئك الذين يؤسسون لغيبوبة ضحك في الملاهي الليلية عبر أحط انواع من التعبير الجسدي وصولا نحو البورنو الحديث. اما مسرحيات تشيخوف وجان جنيه وبيكت فوداعا… وهذا التدني في الذائقة ليس في الحياة اللبنانية فقط إنما هو عربي ايضا. تشهد له قرينا في مدن عربية اخرى.. دون ان ننسى عددا من المبدعين اللبنانيين والعرب ممن يشتغلون على اعادة نار المسرح بمعناها الذائقي العميق.

– ولاننا ” محكومون بالأمل” بتعبير صديقك الراحل سعد الله ونوس.. نسأل هل من جيل مسرحي شاب قابض على جمرات البحث الجمالي وحامل لهم بناء وطن أفضل  ؟

– في المناخ المسرحي المحتضر وفي ظل سيادة الركاكة، منذ سنوات بدأ الاشتغال تدريجيا على تأسيس أرض خصبة لمسرح عربي دورته الدمويه تقوم على جيل الشباب الهيئة العربية للمسرح برعاية سمو د.سلطان القاسمي الأب الروحي والراعي لهذا النمو الديناميكي وربما هو الحاكم الوحيد عربيا الذي كرس اهتماما عاليا لمجمل الفنون خصوصا الفن المسرحي. ورعايته أثمرت جيل مسرحي عربي جديد. كما ان “الهيئة” قدمت طاقات كتابة وإخراج لمبدعين  مجتهدين يقدمون عروض ملفتة.

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *