جليلة بكار أيقونة المسرح التونسي التي هزت بفنها ضمائر الناس #تونس

 

تابعت بمتعة كبيرة حوارا أجرته القناة الوطنية التونسية مع الممثلة القديرة جليلة بكار التي يصفها عشاقها بـ”أيقونة المسرح التونسي” نظرا لتألقها على خشبة المسرح على مدى أربعين عاما، ولما بذلته من جهود لتطوير هذا الفن، وجعله عاكسا لمشاغل وقضايا وهموم المجتمع الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، وملتزما بها.

قبل أن تقتحم الفنانة جليلة بكار مجال الفن الرابع، كانت طالبة تدرس الآداب الفرنسية في الجامعة التونسية التي كانت مطلع السبعينات تعيش انتفاضات متواصلة للمطالبة بالديمقراطية، وحرية الرأي، والتخلص من هيمنة الحزب الواحد وغطرسته، ومن قيود الرقابة المفروضة على جميع من كانوا يجرؤون على التمرد ضد طغيان الثقافة الرسمية، ورموزها في السلطة.

وبحماس، شاركت جليلة بكار في جل تلك الانتفاضات. وذات يوم وجدت نفسها مع مجموعة من الشبان، يحلمون مثلها بثقافة جديدة، وبفن يهزّ مشاعر الناس، ويعكس واقعهم الحقيقي الذي كانت السلطة القائمة تعمل على تغييبه، وتجميله بالشعارات والوعود الكاذبة.

ومع أولئك الشبان الذين كان البعض منهم قد دَرسَ في جامعات باريس ولندن وميلانو، انطلقت إلى مدينة قفصة بجنوب غربي البلاد لبعث فرقة مسرحية في تلك المدينة القريبة من مناجم الفوسفات، والتي يعيش أهلها فقرا ثقافيا رهيبا. ورغم المصاعب المادية والإدارية وغيرها، شرع أولئك الشبان في إعداد أول مسرحية كانوا يرغبون في أن تكون مضادة للمسرحيات السطحية والمبتذلة الرائجة في تلك الفترة.

وقد اختار أولئك الشبان أن تسلّطَ تلك المسرحية الضوء على مسيرة المناضل الكبير محمد علي الحامي الذي كان قد أمضى خمس سنوات في برلين بعد الحرب الكونية الأولى عاد بعدها ليؤسس نقابة وطنية للدفاع عن حقوق العمال التونسيين، ومقاومة الهيمنة الاستعمارية. لذلك طاف في جميع أنحاء البلاد، وزار منطقة الفوسفات ليخطب في جموع العمال الذين خرجوا لاستقباله ملطخين بغبار الأنفاق المعتمة، لكن السلطات الفرنسية تصدت له، وأجبرته على مغادرة وطنه ليعيش متنقلا بين العديد من البلدان قبل أن يموت في حادث سيارة بين مكة والمدينة وذلك عام 1928.

فنانة أثبتت أنها ستظل حتى النهاية وفية ومخلصة لمسيرتها المسرحية الملتزمة
فنانة أثبتت أنها ستظل حتى النهاية وفية ومخلصة لمسيرتها المسرحية الملتزمة

بعدها لعبت جليلة بكار أدوارا مهمة في جميع المسرحيات التي أنتجتها فرقة الجنوب لتعرف الشهرة في ظرف سنوات قليلة.

في نهاية السبعينات، تألقت جليلة بكار في العديد من المسرحيات التي أنتجتها فرقة “المسرح الجديد” التي أسسها في العاصمة نفس الشبان الذين خاضت معهم مغامرة فرقة الجنوب بقفصة.

ورغم العراقيل التي واجهتها، ثابرت تلك الفرقة على تقديم مسرحيات تحرج السلطة، وتثير غضب رموز الثقافة الرسمية. وتعترف جليلة بكار بأن البعض من المسؤولين الكبار في نظام بورقيبة، خصوصا الشاذلي القليبي الذي كان وزيرا للثقافة في الستينات، والكاتب الكبير محمود المسعدي الذي كان هو أيضا على رأس نفس الوزارة في السبعينات من القرن الماضي، ساندوا الفرقة في جهودها من أجل بعث مسرح ملتزم بقضايا المجتمع، وهموم الناس، وكانوا يغضّون الطرف عن المسرحيات التي تنتقد سياسة النظام القائم، وأخطائه السياسية والاجتماعية.

وقد ازدادت شهرة جليلة بكار اتساعا مع مطلع الثمانينات من القرن الماضي بفضل ثلاث مسرحيات شكّلت منعرجا هاما في تاريخ المسرح التونسي الحديث، وهي “العرس” و”التحقيق” و”غسّالة النوادر”. ولا تزال المسرحية الأخيرة حاضرة في ذاكرة أحباء الفن الرابع لأن موضوعها تركز على نقد أوهام جيل السبعينات الذي تحمّس للأفكار الاشتراكية، وساند الثورات في جميع أنحاء العالم. وكانت جليلة بكار محقة حين أشارت في الحوار المذكور إلى أن المسرح الحقيقي هو الذي يقوم على النقد حتى ولو كان هذا النقد جارحا ومؤلما.

خلال فترة نظام بن علي، أسست جليلة بكار مع زوجها الفنان الكبير فاضل الجعايبي فرقة “فاميليا” التي قدمت العديد من المسرحيات التي أغضبت السلطات الرسمية. لذلك سعت هذه السلطات في أكثر من مرة لمنع عرض تلك المسرحيات، وتعطيل سعي الفرقة في مواصلة جهودها من أجل أن يظل المسرح كما كان حاله مع “فرقة الجنوب” بقفصة، ومع فرقة “المسرح الجديد” ملتزما بقضايا المجتمع، وبنضالاته من أجل الحرية والكرامة، ومتمردا على أجهزة الرقابة بجميع أشكالها.

وفي نهاية الحوار، أطلقت جليلة بكار صيحة هزت قلوب التونسيين حيث أنها أشارت إلى أن تونس تعيش الآن أوضاعا مؤلمة وخطيرة. فقد تخلصت من نظام بن علي الذي حارب بشدة حرية الرأي والتفكير إلا “أن القوى الظلامية المتحجرة التي برزت خلال السنوات الأخيرة ما فتئت تسعى إلى فرض قيود جديدة على الثقافة، وعلى جميع فروعها محاولة استعمال الدين، وما تسميه بـ’الأخلاق الحميدة’ لتكميم الأفواه، وتعطيل كل المحاولات التي تهدف إلى تعميق الحرية، ونشر مبادئها لتكون عمادا للمجتمع الجديد الذي يطمح إليه التونسيون”.

ومن خلال صرختها أثبتت جليلة بكار أنها ستظل حتى النهاية وفية ومخلصة لمسيرتها المسرحية الملتزمة، ولنضالها من أجل الحرية التي دونها يموت الفن، وتفقد الحياة معناها وروحها.

Thumbnail

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش