تموضعات المفهوم ومهيمنات السلطة في خطاب تقاسيم على الحياة…..(لجواد الاسدي) بقلم : نورس عادل

 

 

تموضعات المفهوم ومهيمنات السلطة

في خطاب تقاسيم على الحياة…..(لجواد الاسدي)

 

بقلم : نورس عادل

تموضعت مفاهيم ما بعد الحداثة على شكل اشتراطات تتمركز هنا وهناك ومن ثم تعمد الى ترويض ذائقة المتلقي، الذي صار على الغالب يبحث عن انساق جمالية تضمرها طبيعة الحراكات والمتغيرات لمخلفات وظيفية تماطل بدلالاتها فتخلق تنوعا في المعنى وانفتاحا نحو افق يخارج الفت توقعاته، وهو ما جسدته وعملت على ترصينه اغلب العروض المسرحية المنتمية لمنطلقات المفاهيم اعلاه، إضافة إلى مهيمنات الراهنية/الثيمات المحلية الطارئة… التي اخذت تسهم هي الاخرى بتعضيد ممكنات الادلجة المتسيدة للثقافي والدافعة به نحو إرادات من شأنها ان تعزز فرضيات تسويق المعنى العابر على وفق نظريات التدوير الصناعي او اعادة انتاج المعنى بالشكل الذي يضمن غائيتها، أي بانتهازية المتشكلات وما تفرزه من دهشة عابرة للموضوع، الامر الذي رصن كثرة خطابات احادية تعلي من شأن التعارض، بوصفه لذة مناهضة لظاهرة الثبات الحداثية السابقة زمنيا، لكنها في ذات الوقت لا تمثل سوى السطح المترف للعمق العكر الذي تتوافر في طبقاته إشكاليات عميقة ومتجذرة تم تجاوزها بالتغييب ولم يتم الخلاص من تاثيراتها او انعكاساتها في مستويات الخطاب بمختلف أشكاله وانتماءاته المعصرنة.

الامر الذي اسهم بشكل رئيس باصطناع تلك الفاصلة المسلم بها، في الفصل بين ما هو حداثي وبين ما هو ما بعد حداثي على مستوى خطاب العرض المسرحي على الأقل، وهي ذات الدالة التي لم تدلنا  بعد تلاشي حدودها في عرض “تقاسيم على الحياة”..تأليف وإخراج “جواد الاسدي” عن نص العنبر رقم 6″لتشيخوف” تمثيل( مناضل داوود/اياد الطائي/حيدر جمعة/امير احسان/جاسم محمد/امين مقداد) والمجموعة(علي محمد/كاظم عباس/مرتضى فالح/كرارجثير/حسين امير/احمدالمطيري/محمد كاطع/محمد كامل/مرتضى صادق) سينوغرافيا جواد الاسدي/ م.مخرج صميم حسب اللة، إضاءة علي السوداني. حيث ترك خطاب العرض المذكور ساقا في الحداثة ووضع اخرى فيما بعدها وهو ما لم يكن بحسبان ذائقة المتلقي المروضة سلفا والمهيأة مسبقا لاستقبال احد نوعي العروض المختلفين، اذ اختار صانع العرض رهاناته الجمالية في خلق معادلات بصرية ذات طابع سردي تنتمي لتاريخ طويل من الاضطهاد الذي عانى منه الفكر، وهي ثيمة عالمية الحدوث في مستوييها الزمني والمكاني ونقصد بالعالمية تلك القابلية على توارد حدوثها في كل زمان وفي أي مكان، سيما وإنها تعرضت للمدارسة على امتداد حقول الثقافي، ولاسيما اقترانها المألوف بالطرح (الفوكوي) بوصفه احد امهر المتفلسفين بفك الاشتباك مابين خطاب السلطة وسلطة الخطاب، فالعرض  ينغلق على فضاءات أسئلته بخطاب تؤسسه حوارية عناصر المكان مع بعضها البعض تارة ومع مخيلة المتلقي تارة اخرى، وهو حوار يسطو على ذهنية المتلقي بكتل حديدية مضخمة بفاعلية ميلانها الذي لا ينبأ بسقوطها بقدر سقوط القدرة على تجاهل سطوتها من قبل المتلقي ومداخلاته الحسية للفضاء المحيط، ولعلها تفضي أيضا الى مستوى المخاشنة  من قبل الخطاب المعلن للسلطة، السلطة بشكلها العالمي.. في حين توافرت معمارية خطاب الشكل السينوغرافي للديكور الثابت على مستويات مختلفة جانبت الشكل العام للمصحة النفسية/المشفى المفترض في النص الاصلي (لتشيخوف) فهي ذات لون وخامة وتصميم ورائحة مقاربة للسجن وليس ايما سجن انه السجن الذي يمثله (البانوبيتكون) بوصفه معمار يحمل أبعادا مفهوماتية تنطلق من تنظيرات مؤسسه السير(جيرمي بنثام1785) وهو فيلسوف ومنظر اجتماعي شرع في تأسيسه لمشروع السلطة الغير مرئية، او الحصول على قوة العقل بالعقل، وهو ما جسده في إنشاء مخططه لسجن بطريقة خاصة تسمح بمراقب واحد ان يراقب النزلاء دون ان يشعروا بوجوده او غيابه وهو اشتغال مبكر في عمليات استدراج الذات الانسانية  وفرض السيطرة والسلطة، وهو ما توافرت عليه معمارية فضاء العرض المذكور، وما تعالق مع اشتغالات الشخصية التي لعبها الفنان(مناضل داوود) والتي اثبتت انسانيتها وانهيارها تحت سطوت ذات الخطاب، إضافة الى الإقصاء العلاماتي لمفردات المصحة/المشفى.. للأسرة، اجهزة طبية، ازياء، ملأت…الخ من مفردات ايقونية افتقدتها الذاكرة الراجعة للمتلقي المراقب للحدث، ولا يمكن باي حال من الاحوال عدم الاشارة الى عمليات التهميش التي تعرضت له الدلالة المغيبة للون الابيض في المكان، ومن ثم فان معمارية خطاب مكان العرض لا يمكنها باي حال من الاحوال الا ان تفتتح جدليتها في ذاكرة المتلقي نحو تعالق المخيلة بالسجن..لكنه سجن ذو ذائقة إلهية يعطي انطباعا بالحراك والزحف والتهام ما أمامه من فضاءات، ويبقى المراقب يراقب من خلال ثلاث نوافذ مقلقة في العمق ذلك العمق الذي تقبع فيه صناعة الحدث/صناعة السلطة بتهشيم الذوات العارفة في الأقبية السرية.

//بنية الشخصية والتجسيد الادائي……..

حققت شخصيات العرض حضورها الادائي بإتقان الضبط الإيقاعي لزمن العرض الذي قارب الساعة والنص وهو زمن ليس بالهين لكننا في ذات الوقت باءزاء عرض لمحترفين من طراز متقدم، لذلك فان من السخف توجيه المديح لهم، على ان نستوقف اهم الملاحظات الأدائية  انطلاقا من المركب السابق للتحديث وما بعده، حيث لعبت شخصية( الطبيب اندريه ) للممثل (مناضل داوود) ركنا رئيسا في الإبقاء على مركزية البناء الدرامي لكلاسيكية النص الأصلي،  وما   تمتاز به شخصيات (تشخوف) من ابعاد واقعية/نفسية تعكس انكسارات الإنسانية بإزاء مواقفها التي تجيش بمحمولات قيمية من جهة، وتعرضها للصدمة التي تعجل من إفاقتها ولكن بعد فوات الأوان من جهة اخرى، وعلى الرغم من ان مثل هذه الشخصيات صارت خاضعة للتنميط الأدائي إلا أن الممثل نجح في سكها على الطريقة العالمية عن طريق إيقاعه الصوتي المنضبط (تلوينا ولغة) وكذلك حساباته الحركية التي اوحت ببوادر الأزمة المنتظرة منذ خطوته وحواره الأولين، الذين يضفيان على المكان شحنات محفزة تنذر بالقدوم المتأتي للحدث/المعضلة وهو ما أبقى الشخصية حية وممثلة لامتداد تواتر الحدث الدرامي.

فيما قدمت شخصية (ايفان) التي جسدها الممثل(حيدر جمعة) مركبا أخرا صعبا في الكيفية التي تجانست فيها ملامح شخصيات(تشخوف) بملامح شخصيات مسرح اللامعقول التي تمتاز على الأغلب بحركية أفعال الجنون الغير منضبطة او متوقعة، ومن ثم  مزجها بمنولوجات حوارية زاخرة بلغة معقولة ومفهومه بل ومنطقية إلى حد ما، الأمر الذي تعملق معه الأداء التمثيلي إلى مراحل متقدمة أسفرت عن إيصال الشخصية نحو زمنها الخاص، زمن تخلل العرض وعمد إلى زيادة حضورها وتكثيف، ذلك الحضور في فضاء العرض، وهي إحدى المائزات الفيزيائية التي يتصف بها المجنون الحقيقي باستيلائه على مساحات الآخر المقابل، عن طريق تقنية أدائية تناقلت ما بين العلاماتية التي تولدها المنظومة الصوتية وما بين توليد الدلالات التعبيرية المكثفة لجسد الممثل في مستويات تكشف عنها مقاربة كبيرة لنظرية للممثل المقدس بحسب تقسيمات(كروتوفسكي).

في حين استبدل صانع العرض خصاصية الدهشة المعتمدة في صناعة السينوغرافيا التي صارت لازمة في الترويج عن بداهة المخرج المحلي المعاصر والتقاطاته اللامعة، واستبدلها بخلقه للشخصية المدهشة والمحفزة للامتاع والجذب كلما طالت الحوارات والأفعال الأدائية  للشخصيات الأخرى، وهي شخصية (ايكوركا) التي لعبها الممثل (امير احسان) مؤكدا على مفهوم (اللعب) في لعبته الأدائية عن طريق حواراته العبثية التي لم تخلو من مفهوم الترويح الكوميدي وان كانت عميقة بمستوياتها الدلالية، بحيث صار ظهور هذه الشخصية طيلة زمن العرض ظهورا يصحب المتلقي نحو مساحة الترقب والاستعداد للمفارقة الممكنة، وفي جانب اخر فقد استطاعت هذه الشخصية بحضورها الدراماتيكي من ان تفكك مركزية السرد في بنية خطاب العرض وتمنع استغراقه بجزئه الحداثي، بما توافرت عليه من تقنية اداء مغاير ومختلف ومنتمي لتموضعات المابعد حداثي، ومنها تعرضه للجنوسة في حواره الفارق عن حبه واشتهاءه للمطلقات مثلا بوصفه تماسا مباشرا مع حدود تلك التموضوعات ، وكذلك القدرة الممنوحة له  في الخروج والدخول متى شاء للسجن/المصح، عن طريق المفاتح المتدلي برقبته، مما يؤشر إلى انصياع الذات وخضوع الشخصية بشكل كلي للسلطة دون مقاومة نتيجة فقد العقل او الحصول على (قوة العقل بالعقل)، كما اشرنا سابقا. اذ جرى العمل على مسخه ليصبح النزيل والعامل في الوقت نفسه.

وعلى الرغم من الاداء المنفرد الذي قدمته شخصية(الممثل المشهور) للممثل(اياد الطائي) وإتقانه  تلبس أبعادها بشكل يصل حد الدقة الفوتوغرافية ولا سيما  في تماهيه منقطع النظير واسترجاعه لمشهد الحوذي ، الا أن الشخصية ظلت منفردة عن نسيج العمل وكأنها شخصية جرى إدخالها بشكل قسري ولم تحمل أي إضافة ضمن البنية الدرامية للاحداث، فهي لم تتعالق مع الشخصيات الاخرى الا بوصفها شخصية فنية معروفة من قبل الشخصيات المحيطة بها بفعل عائديتها  لممثل فقد قدرته على التمثيل، على وفق مبرر ضعف الذاكرة، كما لم يكن موتها الا تحقق لإرادتها بعد ذلك الفقد الذي توصلته، ما جعلها  تغرد خارج الخط الدرامي المشتبك مع مفهوم السلطة، فكان من الممكن إزالتها دون ان يؤثر غيبها دراميا.

كما تجدر الاشارة الى ذكاء وفطنة المخرج في اختصاره لمن يمثل السلطة ماديا عن طريق زمن محدد قصير لمشهد جسده الممثل(جاسم محمد)(صاحب السلطة/المشفى/السجن) بإيقاع مختلف ومميز ومعبر عن كل البرود والقسوة الممكنة، وهي قراءة تحتسب لمخرج يفهم ان لديه دلالات سينوغرافية وعلاماتية لما يريد قوله، فليس هناك حاجة في تعميق المفهوم أكثر…فالسلطة مجسدة في اكثر من موضع وواضحة المعالم رغم اختبائها.

في الوقت الذي تكررت مفردة(عازف الالة الموسيقة) التي اداها (امين مقداد) دون متغير دلالي كبير، فما حضور الاله الموسيقية في هذا العرض او في عروض أخرى كثيرة إلا لدعم الجو النفسي العاطفي للمتلقي ولم تكن له وظيفة مباشرة أخرى، فمقاطع المعزوفات تشحذ ذلك الجو الحاد اصلا…ليس الا، على عكس اشتغالات المجموعة التي حققت مستويات دلالية على مستوى المتشكلات الجمالية لفضاء العرض مكانيا وعلاماتيا، ولا سيما (ذلك النسق الجمالي الذي بثه مشهد تنظيف المكان من قبلهم)، فتارة يشكلون تناصا دالا إلى شخوص مقدسة أجبرت على تناول نوع محدد لعشائها بالقوة، وهي مقاربه معرفية في علاقة نوع المأكول بنسق التفكير من جهة، ومقاربة واضحة تبقي على حواريي السيد المسيح لكنه مسيح معاصر وهم كذلك معاصرون من جهة أخرى، وتارة أخرى يعمقون معنى خطاب العرض عبر تجسيدهم لأفعال الخوف بتقنية حراكاتهم الخاضعة والتي تملئ فضاء المكان فتبنى وتهدم وهكذا دواليك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *