تلافياً للصدمة ونتائجها لننظر إلى المشهد السوري بوعي .. إعادة تدوير… إعادة للنظر في واقعنا بين الزمن القريب والبعيد

إن رؤية منظرٍ شديد الروعة والبهاء وبصورة صادمة لمحرومٍ ستجعله أكثر تعلقاً به كما منطق سراب الصحراء، وستزداد درجة التضحية وصولاً إليه، لكن في الوجه المقابل لهذه الصورة؛ إن تفعيل صدمة سلبية لشخصٍ من خلال مشهد شديد البشاعة والرعب سيجعله حينها أكثر إحباطاً وباحثاً عن الأمل في غير مكانه هرباً.

في الهيكل
«إعادة تدوير» عرض مسرحي يعتمد على فنّ «المونولوجيست» في تقديم شخصيّة أو نمط أو كركتر سمّي «سعدي الأسعد» ليكون الشخصيّة التي تقدم لنا معرضاً من إسقاطات لحوادث تاريخيّة تخصّ كلّ سوري عاش وعانى وشاهد ما شاهد خلال السنوات الخمس الماضية من التاريخ الحديث والغريب الذي جرى على مسرح الأحداث في الأرض السوريّة، هذا من جهة ومن جهة ثانيّة كان هناك استعارات من مراحل زمنيّة بعيدة، ومنها ما يلامسنا مباشرة، ومنها ما له مباشرة بالغرب.

الدخول من الباب وترحيب الممثل
يُدخل «سعدي الأسعد» الجمهور من باب يتكئ عليه، دعوةً منه لإشراكهم في الحكاية من قبل الدخول إلى صالة العرض في مسرح القباني، وهو أولى المحاولات في تفعيل الجمهور للاشتراك بالعرض والتعامل مع الممثل، وهذا أحد الجوانب التي تميّز فنّ «المونولوجست».

بين المونودراما والمونولوجست
يقترب العرض من «المونودراما» في جزءٍ منه، فهناك مقطع كبير من العرض يدخل فيه الممثل إلى حالة متواصلة من السرد المتكرر، ومن إضافة هواجسه الداخليّة وعواطفه في ذكرياته مع طلابه في المدرسة وحكايته مع زوجته في البيت والمشاكل المادية وصولاً لـ«أبو النور» الزبّال، والحديث الدائر بينهما. وقد التقينا مخرج العرض «سامي نوفل» الذي أوضح لنا عن رغبته في تحويل النص المكتوب أصلاً لعرض «مونودراما» إلى عرض «مونولوجست» بالصيغة التي شاهدناها، وهي التجربة الأولى إخراجيّاً له، فيقول: «استأثر فنّ المونودراما مؤخراً في سورية وفي عدّة تجارب منه على حالة أن النص والتمثيل والإخراج لشخصٍ واحد، والأمثلة كثيرة على ذلك، بالتالي يصبح وجود الإخراج ضعيفاً كحالة متفردة، لكن تجربتي مختلفة هنا، وعندما وصلني النص كان مجهزاً ليكون لعرض «مونودراما» أيضاً، لكنني كمخرج قررت تحويله لعرض «مونولوجست»، وأسبابي في ذلك كانت في الاقتراب من ذائقة الشارع المصابة بالملل نتيجة الحالة السرديّة التي تركتها تجارب «المونودراما» على الخشبة في المسرح السوري، فالممثل يتألم على الخشبة وحالات وجدان متكررة يتعاطف لها المتلقي، لكن بمجرد انتهاء هذه الحالات ينسى المتلقي الحالة بمجرد خروجه من باب الصالة، فعملت جهدي أن يرغب المشاهد في المشاهدة مرة ثانية أو أكثر، وكذلك بعدم إصابته بالملل، فتعبت على شكل الرواية والانتقال من حالة لحالة هرباً من الملل، وذلك بالابتعاد عن التوجّع والتألم وجلد المتلقي بهذه الوجدانيّات. والسبب الآخر هو أن جمهور مدينة دمشق حُرم منذ وقتِ طويل من مسرح الكراكترات، فلم يقدّم هذا النوع من الفنّ منذ أيام الفنان «عبد اللطيف فتحي» أي عرض له علاقة بمسرح الأنماط، ربما بحجة أن الممثل ذهب باتجاه التهريج في هذا النوع الفني سابقاً، على الرغم من أنه نوعٌ مهمّ يرفد الوسط الفني بممثل موّهوب وخلاّق جديد، ونحن بحاجة اليوم لكاركتر يوازي «غوار الطوشة» أو «بدري بيك أبو كلبشة»، وغيرها، وليس المطلوب الهروب من هذا النوع الفنّي المهمّ».

رمزيّة
وقع العرض في لبسٍ أو تجاوز في أكثر من نقطة ومنها اختياره لمهنة «سعدي الأسعد» كمدرس في مادة التاريخ، فالمدرس هو المربّي وهو من يعطي القيمة للأجيال بالتالي لا يمكن تشويه صورته ليكون بهلولاً من النوع الرديء، وعندما تكون مادته هي «التاريخ» فلا بدّ له أن يمتلك ذاكرة نظيفة وأسلوباً مشوّقاً في عرض النص التاريخي وهذا ما يلزم الشخصيّة السائدة أو الوسط في مدرس مادة التاريخ وهذا ما لم يتوفر في أستاذ التاريخ «سعدي الأسعد» بالتالي وقع الشرخ الكبير بين الواقع وما فرضه النص على المسرح، ويبدو أن مبرر العاملين على المسرحيّة هو في ربط شخصيّة مرتبطة بالمادة التاريخيّة مع شخصية الزبّال، والعلاقة بينهما وإعادة تدوير الذاكرة من خلال التاريخ والقطع الأنتيكا التي يمتلكها ذلك الزبال وربطها بمراحل التاريخ التي عاشها الإنسان السوري وصولاً لهذه المرحلة وكل المعاناة التي أمضاها وربطها مع بعضها ونسفها من جديدة في فكرة أن ما يهمّنا اليوم هو المرحلة التي نعيشها، فالتاريخ جزء مهم من حياتنا لكنه ماضٍ لا داعي للارتباط به دون تدوير وفائدة، وهذا ما عكسته الصور التي تظهر في خلفيّة المسرح وعلى شاشة الإسقاط التي بينت أن الشخصيات التاريخيّة التي مرت على البلد هي في هيئة «سعدي الأسعد» نفسه.

مؤلف ممثل
يقع الجانب التمثيلي في «إعادة تدوير» على الفنان «أسامة جنيد» الذي بدوره كان مؤلفاً للنصّ الأساسي للعرض، وقد قدّم جهداً لا يستهان به في العرض الذي حمل رواياتٍ كثيرة وإسقاطاتٍ صعبة، لكن هل نجح في المقدرة على الفصل بين الشخصيّات التي تحدّث عنها العرض؟ وهنا يقع العبء الكبير الذي كان لا بدّ فيه من مزيد من التدريبات حتى يكون تجسيد الشخصيات من ممثل واحد أكثر فصلاً ووضوحاً، فلولا ذكر الأسماء وشرحه للمشهد قبل الدخول فيه لاختلطت الأمور كثيراً على المتلقي، فالمهمة ليست سهلة! ولاسيما أنّ هناك كسراً للجدار في العلاقة مع الصالة واللعب مع الجمهور وإشراكهم في اللعبة، بالتالي حجم المهمة يزداد مع حضور عنصر المفاجأة من الجمهور في كلامهم وتواصلهم مع الممثل، وهذا يحتاج لحضور أقوى من الممثل وسرعة في الاستجابة وتقديم الجملة المناسبة وردّة الفعل الأكثر ذكاءً.

لغة أمل
في «إعادة تدوير» إسقاط على الواقع، ومشاهد مأخوذة منه تذكر المتفرج بما سمع أو شاهد أو راقب خلال الحرب على سورية، وكان ترتيب المشاهد غير متتابع، وهذا أضاف لوناً جيداً للعرض، فاستعارة سجن غوانتانامو، ومشهد الهجرة عبر الزورق، ورؤية المشهد الكبير حول خريطة الشرق الأوسط الجديد، وغيرها من المشاهد كان في حبكة مقبولة كثيراً وناجحة لخدمة أن يرى المتلقي حجم ما حصل على الخريطة وما ينمو من مخططات تسعى باتجاه تخريب البلد وإفراغه من محتواه وتشويه الهوية إن لم نقل محاولة نسفها، وعن الفرجة هذه وتقليص مساحة التفاؤل وعدم ولادة الأمل أو التلويح به كان للمخرج «سامي نوفل» هذا الرد، ولاسيما عندما أشرنا للمشهد الأخير منه: «إن فكرة تقديم عرض يتابعه الناس في أسوأ الظروف، والاستمرار في التحدّي وتقديم عروض مسرحيّة والعمل معاً على الرغم من كلّ المواجهات الظلاميّة والحرب المعلنة علينا، ففي كل ذلك يكمن الأمل، فالعمل على مسرح في سورية على الرغم من أن كل الظروف صعبة لإنتاج عمل إبداعي هو حالة من التحدّي الكبير. ولا اعتقد أنه مطلوب من المثقفين منح الأمل بل المهمة هي إعادة طرح المشكلة والتوعية من أجل عدم العيش في الصدمة، ومن أجل رؤية المشهد بالكامل وعدم ترك الأرض والهرب والهجرة. وبذلك يكون الأمل، فعلى المتابع أن يرى المشهد بوعي وبتكامل حتى لا ينصدم ويتخلى عن علاقته بالأرض التي عاش عليها».

هويّة
بقي لنا أن نذكر بأن «إعادة تدوير» جاء برعاية وزارة الثقافة- مديريّة المسارح والموسيقا- نادي المسرح القومي. التأليف والتمثيل لأسامة جنيد، والإخراج والسينوغراف لسامي نوفل، مساعد مخرج «رامي السمان»، تصميم الإضاءة «ريم محمد»، تنفيذ فني للديكور «ريم عبد النور»، مونتاج ومكساج «ياسين توتنجي»، تنفيذ إضاءة «عماد حنوش»، تنفيذ الصوت «فادي ريا»، تصوير فوتوغراف «طارق السعدوني»، مدير منصة «عمر فياض»، ملابس وإكسسوار «علي النوري».

 

عامر فؤاد عامر – تصوير: طارق السعدوني

http://alwatan.sy/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *