المسرح و المسيرة نحو الديمقراطية

المسرح و المسيرة نحو الديمقراطية
 
أ.د سيد علي إسماعيل
مقدمة
 
من المعروف أن المسرح – باعتباره أبا الفنون – أسهم في تطور البشرية، مثله مثل أي فن آخر من الفنون الأدبية. وفي هذه الورقة تم تحديد هذه المساهمة في مجال مواكبة المسرح لمسيرة الديمقراطية منذ ظهور نموذجها الأثيني حتى عصرنا الحديث، وذلك من خلال بعض النصوص المسرحية العالمية، التي يُعتقد بأنها واكبت الديمقراطية في مختلف العصور. وبناءً على ذلك لم تتطرق الورقة إلى المسرح العربي، ولم تناقش موقفه من الديمقراطية، لأن هذا المجال سيتم تناوله في المحور الثاني من محاور هذه الندوة.
 
كما ينبغي الإشارة إلى أن هذه الدراسة اقتصرت على نماذج من النصوص المسرحية المنشورة، ولم تتناول العروض المسرحية؛ لصعوبة الاطلاع عليها ومن ثم تحليلها فنياً وأدبياً. ومردّ ذلك أن النص المسرحي هو الوثيقة المعتمدة في أغلب الدراسات الأدبية، لما له من خصائص البقاء والاستمرار، حاملاً فكر المؤلف، بخلاف العرض المسرحي المتغير وفق أساليب الإخراج التي تتطور تبعاً للزمان والمكان – وفق الإمكانيات المتاحة – حاملة رؤية المخرج للنص المسرحي، التي تتفوق في بعض الأحيان على فكر المؤلف نفسه.
 
وهذا البحث يحاول الإجابة عن عدة أسئلة ترسم الخطوط العريضة لعنوانه (المسرح والمسيرة نحو الديمقراطية) ..
ومن هذه الأسئلة على سبيل المثال: هل واكب المسرح ظهور الديمقراطية منذ نشأتها الأولى في أثينا؟ هل تطورت أساليب الكتابة المسرحية بناءً على تطور المفهوم الديمقراطي؟ هل أسهم المسرح في إرساء نظام يقرّ للناس حقوقهم الأساسية؟ هل طالب المسرح بتحقيق المساواة بين البشر، باعتبارها أهم مبادئ الديمقراطية؟ هل نادى المسرح بحرية الرأي باعتبارها هدف الديمقراطية الأسمى؟ ما هو موقف المسرح من التحديات التي واجهت الديمقراطية؟
 
الديمقراطية الأثينية
 
من المعروف أن الديمقراطية ([1]) بدأت عند اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت تعني – حرفياً – ” حُكم الشعب كله .. لا فئة ولا طبقة ولا قطاع منه ” ([2]). وبهذا المفهوم أصبحت الديمقراطية الأثينية شكلاً للدولة يناقض الأرستقراطية أو الأوليجارشية، أي سيطرة القلة من الأثرياء أو النبلاء؛ لأن الديمقراطية هي سيطرة الكثرة من الجمهور، حيث لا حقَّ للأثرياء أو النبلاء بأي امتياز ([3]).
 
والمسرح الإغريقي – باعتباره فناً من الفنون المرتبطة بالشعب – واكب الديمقراطية الأثينية بمفهومها السابق، وطوّرها إلى مفهوم أشمل، عندما اعتبر الديمقراطية إجماع الشعب على رأي واحد، سواء كان هذا الرأي يتعلق بالأمور السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وقد أكدّ هذا المعنى جورج تومسن (George Thomson) – أستاذ اليونانية في الجامعات البريطانية، وعضو شرف اتحاد الكُتّاب اليونانيين – قائلاً : ” كانت التراجيديا اليونانية إحدى الوظائف المتميزة للديمقراطية الأثينية. وقد تكيفت في شكلها ومضمونها، وفي نموها واضمحلالها، بتطور البنية الاجتماعية التي كانت تنتسب إليها ” ([4]).
 
وعلى سبيل المثال نجد سوفوكليس في مسرحيته (أنتيجونة)؛ يؤكد معنى الديمقراطية الأثينية – بصورة غير مباشرة – من خلال إظهار مساوئ الدكتاتورية وتمسك الحاكم برأيه، متجاهلاً إجماع الشعب الذي يخالفه الرأي. فأنتيجونة خالفت رأي الحاكم (كريون)، الذي أمر بعدم دفن أخيها، فقامت بدفنه بناءً على أمر الآلهة، فحكم عليها كريون بالموت.
 
وقبل تنفيذ الحكم، دار حوار بين كريون وابنه (هايمون)، حيث واجه الابن أباه بحقيقة الموقف في مقطع طويل، نجتزئ منه هذه العبارات: ” يا أبتي إن الآلهة وهبت الإنسان العقل، وهو أغلى وأعز ما يملكه الإنسان … … قد يصيب الآخرون صواب الرأي … …  أبناء الشعب يخافونك إن قالوا قولاً لا تحب أنت أن تسمعه … …  لا تتعصب لنظرية واحدة وهي: أن ما تقول أنت هو الصواب وحده من دون العالمين …” ([5]).
 
وهذه العبارات تحمل معنى الديمقراطية الأثينية القديمة، التي تؤكد أن الديمقراطية نتاج لعقل الإنسان، الذي هو هبة من الله، ومن الواجب على الحاكم أن يستمع لرأي الآخرين، لربما كان رأيهم هو الأصوب. كما أن هذه العبارات أيضاً تعكس إيجابيات الديمقراطية، عندما تؤكد سلبيات الدكتاتورية، لأن الشعب يخشى حاكمه المستبد فيسمعه ما يحب أن يسمعه، ويحجب عنه ما يكره أن يسمعه، ولو كان في صالحه. هذا بالإضافة إلى التأكيد على معنى عدم التعصب للرأي، والوهم بأن رأي الحاكم هو الرأي الصواب.
 
وعندما يحتدم النقاش بين كريون وابنه، حول مصير أنتيجونة – باعتبارها آثمة من وجهة نظر الحاكم (كريون)، وباعتبارها منفذة للعدالة الإلهية من وجهة نظر الشعب – يأتي هذا الحوار:
 
كريون: وهي ألم نأخذها متلبسة بهذا الإثم؟
هايمون: لا يرى هذا الرأي الملأ من أهل طيبة.
كريون: هل تأمرنا المدينة بما نفعل؟ أبنفسي أم بغيري أحكم هذه البلاد؟
هايمون: المدينة ليست مدينة إن كانت ملكاً لرجل واحد.
كريون: أليست المدينة ملكاً لحاكمها؟
هايمون: إذا أحببت أن تحكم أرضاً وحدك فلا تحكم إلا القفار ([6]).
 
وهذا الحوار يبين معنى الديمقراطية الأثينية في صورتها الصرفة، حيث يؤكد أن إجماع رأي الشعب يجب أن يعلو على رأي الحاكم الفرد، وأن حُكم البلاد يجب أن يكون بيد الشعب، لا بيد الحاكم المستبد، لأن المستبد إذا أراد أن يحكم، فسيحكم بلداً مقفرة خالية من البشر.
 
أما يوريبيديس في مسرحيته (هيكابي)، فقد خصصها للعدالة الاجتماعية، كصورة من صور الديمقراطية الأثينية، من خلال وجود اختلاف وتباين بين نوعين من العدالة: عدالة المجتمع (العُرف والتقاليد)، وعدالة الطبيعة. وقد عرف الإغريق النوع الأول بالعرف أو القانون والثاني بالطبيعة. فمسرحية هيكابي كُتبت نتيجة شعور بضرورة سيادة المساواة بين البشر، لأن صراع هيكابي – في المسرحية – كان ضد تقاليد الشعب الإغريقي بأسره، وفي هذا الصراع كانت هيكابي تستمد قوتها من العاطفة والوجدان، وتنشد الدفاع عن كرامة شعب لم يكن مسئولاً عما حدث، تلك الكرامة التي تدفع ثمن الدفاع عنها ابنتها بوليكسينا دون ذنب، وتحمي قيم الإنسان التي تذهب به بعيداً إلى آفاق الخير. بهذا المفهوم كان يوريبيديس خير معبر عن جوهر وحقيقة الفلسفة السفسطائية التي حاولت أن تقيم مفهوماً للعدالة على أسس إنسانية بحتة بعيدة عن طبيعة جنس ما، أو أرستقراطية سلوك ([7]).
 
وإذا أردنا البحث عن فقرة تُجمل لنا الديمقراطية الأثينية، سنجدها في خطاب جنائزي قال فيه (ليسياس): ” إن أسلافنا كانوا الأوائل الوحيدين في هذا العصر الذين نبذوا الحكم التعسفي، وأنشأوا الديمقراطية متمسكين بأن حرية الجميع هي أقوى رباط للقلوب، ويشارك بعضهم البعض الآخر في الآمال والآلام ويحكمون أنفسهم بقلوب حرة يكرمون الخيرين ويعاقبون الآثمين وفق القانون. ويعتبرون أنه من الوحشية أن يُكْره الناس بعضهم بعضاً بالقوة وأن مهمة الرجال تحديد العدالة بالقانون والاقتناع بالعقل، وأن يلتزموا بهما في العمل متخذين من القانون سلطاناً، ومن العقل معلماً ” ([8]).
 
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل لهؤلاء الأسلاف نظراء في المسرح؟ الإجابة – من وجهة نظري – نعم .. فأوديب وأنتيجونة وكريون وترزسياس وأجاكس وفيلوكتيت … إلخ أسماء أبطال مآسي سوفوكليس – على سبيل المثال – ما هم إلا نظراء لهؤلاء الأسلاف المنصوص عليهم في الخطاب الجنائزي! فهذه الأسماء تمثل الأساطير الإغريقية القديمة، ولكن سوفوكليس أنزلها من عليائها وبث فيها الروح البشرية الممثلة للشعب الإغريقي، فجعلهم أحياءً يسعدون ويشقون ويقولون الحكمة، وكأنهم مرآة تنعكس على صفحتها مفردات معاني الديمقراطية الأثينية، مثل: العدالة الإلهية، والمساواة، وحرية الرأي، وحكم الشعب .. إلخ، وفي الوقت نفسه أظهر لجمهوره المسرحي – من خلال هذه النماذج – عيوب الاستبداد بالرأي، والظلم .. إلخ ما يُناقض الديمقراطية الأثينية.
 
تطور مفهوم الديمقراطية
 
مع مرور الزمن تحولت الديمقراطية من مفهومها الأثيني إلى مفهومها العام، ويقصد به: العملية السلمية لتداول السلطة بين الأفراد أو الجماعات، التي تؤدي إلى إيجاد نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ككل على شكل أخلاقيات اجتماعية. وهذا المفهوم اعتبر الديمقراطية شكلاً من أشكال الحكم، من خلال حكم الأغلبية عن طريق نظام التصويت والتمثيل النيابي. وبناءً على ذلك عُرّفت (الديمقراطية النيابية) بأنها نظام سياسي يصوت فيه أفراد الشعب على اختيار أعضاء الحكومة الذين – بدورهم – يتخذون القرارات التي تتفق ومصالح الناخبين ([9]).
 
والجدير بالذكر أن صورة الديمقراطية هذه، من الصعب وجودها بصورة مباشرة في مجال المسرح المكتوب! وبعبارة أُخرى لا يجرؤ أي كاتب مسرحي في البلاد الاستبدادية أن ينادي بالديمقراطية النيابية، أو الديمقراطية بمفهومها العام، لأن السلطة السياسية – ممثلة في نظام الرقابة المسرحية – لن تسمح له بذلك! ومن هنا نجد الكاتب يلجأ إلى الحيل المسرحية في أسلوبه الكتابي لبث أفكاره الديمقراطية عن طريق الرمز والإيحاء والإشارة والمعادل الموضوعي .. إلخ هذه الأساليب غير المباشرة في التعبير. ومن العسير ضرب أمثلة لذلك، لأن أغلب المسرحيات المنشورة لا تخلو من هذه الحيل.
 
وهذا الأمر يختلف كلية في مجال المسرح المعروض؛ لأن أدوات المخرج تختلف عن أدوات المؤلف، لأن المخرج يستطيع أن يبث أفكار المؤلف عن الديمقراطية – أو أفكاره هو باعتباره مخرجاً له رؤيته الخاصة – عن طريق الإضاءة والديكور والملابس .. إلخ هذه الأمور غير المنصوص عليها في النص المسرحي المكتوب، ناهيك عن الممثلين وخروجهم عن النص، للتلفظ ببعض العبارات، أو الإشارات المواكبة لبعض الأحداث اليومية، أو المنتقدة لبعض الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ.
 
وبناءً على ما سبق، يصعب على المرء اعتبار الديمقراطية نظاماً سياسياً محضاً، أو أنها عملية اختيار سياسية للنواب، أو القادة، من خلال منافسة حرة سياسية شريفة فقط، بل يجب اعتبارها أسلوب حياة، وطريقة للعيش، وثقافة شعب، ومجموعة من القيم تهدف إلى احترام الكرامة الإنسانية قبل كل شيء.
 
وهذا الأمر نادى به أكثر الكُتّاب المسرحيين، مثل الكاتب الصيني (تساو يوي) الذي كتب مسرحية (عاصفة الرعد) عام 1933م، وفيها أعلن تمرده على النظام الإقطاعي الصيني، منتصراً فيها لكرامة الشعب والمجتمع. وفي مسرحيته (أهل بكين) عام 1940م، نادى بمجتمع صيني أفضل. وفي مسرحيته (البرية) وصف مأساة الصراع بين الطبقات في الريف، من خلال الصراع بين الأسياد والطاغية الإقطاعية، والفلاحين الكادحين المعدومين. ثم واصل تساو يوي سعيه الدؤب نحو النور والأمل في بناء مجتمع أمثل وأفضل ينمو ويترعرع .. في رائعته المسرحية (شروق الشمس) التي حققت له الشهرة والتألق في دنيا المسرح الاجتماعي الأخلاقي.
 
والملاحظ أن مؤلفات تساو يوي المسرحية تكشف النقاب عن الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي أدى بدوره إلى انحطاط الأخلاق والمبادئ، لأن تساو كان مرتبطاً في حياته بآلام مجتمعه، وكان – في كتاباته المسرحية – حائطاً صلداً أمام الظلم والاضطهاد، حاملاً راية التغيير الاجتماعي، منادياً بتحطيم القيود المكبلة للحريات. فعلى سبيل المثال نجد مسرحيته (شروق الشمس) تعبر تعبيراً صادقاً عن الفساد الاجتماعي الأخلاقي، الذي يعتبر البطل الأول في المسرحية بكل ما يحمله من اضطهاد واستعباد وتعسف وبؤس وفوضى. فالحوار الآتي يجسد هذا المعنى بين الزوج (لي شينغ) الموظف، وبين زوجته:
 
مدام لي: ليس من المعقول أن تكون موظفاً صغيراً في البنك وتنهك نفسك في العمل من أول النهار إلى آخره، ولا نجد في نهاية الشهر ما تدفعه لسد نفقات المعيشة بعد أن تجشمت الكثير من الصعاب. وبعد أن تفرغ من العمل، تهرع إلى مصاحبة النبلاء وتلعب معهم المهجونغ [لعبة صينية قديمة من ألعاب الميسر] وتسلك مسلكهم الاجتماعي. أننا لا نستطيع أن نرسل الأطفال إلى المدرسة، وأنت مهتم بمظهرك الاجتماعي، ولا نجد إيجار المسكن في نهاية الشهر، وأنت ما تزال تجالس الأثرياء. وإذا مرض طفل لا نجد ثمن الدواء، وأنت هكذا تجامل الآخرين.
لي تشينغ: (ثائراً) كفى، لا تستمري في الحديث! (بحرارة) كيف تتجاهلين الشقاء الذي أتحمله طوال اليوم؟ ألم تلاحظي أنني أشعر بالمرارة لأننا فقراء؟ إنني أندب حظي العاثر؛ لأن والدي ليس من النبلاء. وإذا كان عندي مال كثير منذ أن خلقت لما انحنيت أمامهم ولا تحملت ظلمهم. وأنا لست أسوأ منهم، وأنت تعرفين أن هؤلاء الأوباش ليسوا أفضل مني، بلهاء وجبناء وغير رحماء. ونقطة الاختلاف الوحيدة بيني وبينهم هي أنهم أثرياء بالفطرة، ويتمتعون بالمكانة الاجتماعية المرموقة، أما أنا فعلى النقيض منهم تماماً. وأقول لك أن هذا المجتمع تعوزه العدالة والمساواة. وأي حديث عن الأخلاق وخدمة الجماهير هو بمثابة خداع لنا، وإذا عملت بما يمليه عليّ ضميري، فإن الإدقاع يلاحقني حتى الموت. ولذا ليس أمامي سوى أن أحرق سفني وأقاتلهم، آملاً في أنني أتنسّم المجد يوماً ما! ([10]).
 
فالمؤلف من خلال هذا الحوار – الذي يمثل فكرة المسرحية – يضع آماله الكبيرة في تحقيق الديمقراطية، عن طريق الإنسان الذي تأبى طبيعته الإنسانية الذل والهوان والفساد، فيسعى إلى تحقيق الكمال الاجتماعي والإنساني، ذلك الكمال الذي يمثل الديمقراطية الحقة. وكفى بنا أن نقرأ ما كتبه المؤلف في ملحق المسرحية – عندما طبعت في بكين عام 1957م– قائلاً : ” إذا انتهى المرء من قراءة مسرحية شروق الشمس، وتساءل في استياء: لماذا يعيش الكثيرون مثل هذه الحياة التعيسة؟ ولماذا نتمسك بهذا العالم البائس؟ وما السبب الذي أدى إلى وجود هذا العالم الوحشي غير العادل؟ وهل يجب أن نغيره أو نطيح به تماماً؟ فإذا تساءل المرء حقاً مثل تلك الأسئلة، فذلك أمل كبير يفوق ما يتوقعه المؤلف” ([11]).
 
وهكذا، يتضح لنا أن تساو يوي أراد من مسرحيته (شروق الشمس) – وكذلك في بقية مؤلفاته المسرحية – تأكيد فكرة الديمقراطية، وكأن مسرحيته نموذج لمسرحية الدعوة “التي تعالج فكرة سياسية أو اجتماعية معينة، يدعو إليها كاتبها ويناصرها، حتى ليفترض أن إسدال الستار في النهاية، يكون قد ملأ ذهن المتفرج ونفسيته بميل اعتناقي للفكرة المدعو إليها “([12]).
 
ومع مرور الوقت – واجتهاد الباحثين – اتخذت الديمقراطية أشكالاً عديدة، مع الحفاظ على مبادئها الأساسية، مثل: الحرية، والمساواة، والعدالة، وحقوق الإنسان .. إلخ هذه المبادئ التي لا يختلف عليها اثنان. والدكتور إمام عبد الفتاح إمام – في أحد أبحاثه – اعتبر الديمقراطية تجربة إنسانية، وبالتالي فهي مشروع دائم مستمر باستمرار وجود الحياة الإنسانية، ولهذا فهو يخضع باستمرار للنقد والفحص والمراجعة والتصحيح، وأن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها، وأن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية ([13]).
 
هذا المعنى النظري قام بتطبيقه فنياً الكاتب المسرحي نيجل دنيس (Nigel Dennis) في مسرحيته (أغسطس من أجل الشعب) عام 1961م. فهذه المسرحية تتحدث عن الديمقراطية الزائفة التي تعتمد استثارة مشاعر الناس ومخاطبة عواطفهم ووجدانهم دون عقولهم. فالمؤلف هاجم المتشدقين بالديمقراطية طمعاً في الشهرة وكسب الجماهير، وأكدّ معنى الديمقراطية الصادقة التي تقوم على العقل والمنطق، وتؤمن بوجود الإنسان على هذه الأرض، وبوظيفته في الحياة، وبحقه في أن يعيش عيشة كريمة، وأن يعبر عن رأيه بصراحة. وقد وضع المؤلف يده على عيوب الديمقراطية من أجل إصلاحها، فهاجم الحرية التي تؤدي إلى الفوضى، ووجه سهامه إلى الصحافة النفعية العميلة، وكشف زيف الأقنعة التي يرتديها البعض باسم الديمقراطية.
 
وأعلن مؤلف المسرحية عن هدفه منذ بداية الأحداث، عندما جعل بطله (أغسطس ثوبتس) – رئيس جمعية البيوت المفتوحة – يقف في حفل الجمعية السنوي خطيباً، وكأن وحياً يُوحى إليه بما سيقوله، فاعتبر الديمقراطية شيئاً بغيضاً عندما تكون زائفة، وهاجم ممثليها؛ لاستغلالهم فقر الجماهير، ونادى بخلع قناع الزيف من على وجوه المتشدقين بالديمقراطية. وحول هذه الأُمور قال: ” أسمع هذا الصوت .. هذا الصوت يقول (الديمقراطية شيء بغيض) وأدركت في الحال أنها فعلاً شيء بغيض لعين. إني أخجل من أن أكون هنا – بل أخجل من أن أكون حياً أصلاً – جمعية من المُلاك يصطحبون عامة الناس إلى منازلنا مقابل شلنين ونصف شلن – إنه لأمر مقزز – إنه كفعل العاهرات – لست أعني أنها غلطتنا – بالطبع هي غلطتنا – إنه البغاء من أجل المال. إنها غلطة عامة الناس أيضاً – غلطة كل إنسان. غلطة من حيث كلنا بدأنا وإلى حيث قررنا أن تنتهي – إنه لأمر حقير قذر – إنها دار للعرض، دار دعارة. يبدو أننا نعتقد جميعاً بأن الديمقراطية هي الهدف الأسمى – وليس هناك (قراطية) أفضل منها – لعنة الله على كل شيء – لا بد أن هناك ما هو أفضل منها – علينا أن نحاول جادين – هذا الطريق ليس فيه أدنى خير لأحد” ([14]).
 
القانون .. الدستور .. الممارسة
 
إن تحقيق الديمقراطية على أرض الواقع يجب أن يتزامن مع وجود القانون الذي يحكم العملية الديمقراطية. وهذا القانون قبل أن يُصاغ من قبل المشرعين، لا بد أن يُصاغ وجدانياً من قبل أفراد الشعب، بناء على تجاربهم في الحياة. فالديمقراطية – كما هو معروف – تجربة إنسانية عالمية في المقام الأول، تهدف إلى تحقيق مبادئها من حرية ومساواة وعدل .. إلخ. والإنسان الذي يطمح في العيش في ظل الديمقراطية، يجب أن يأتي سلوكه معبراً عن رغبته في تطبيق الديمقراطية على نفسه أولاً قبل تطبيقها على الآخرين. وبمعنى آخر: يجب على الإنسان أن يسن بنفسه القوانين التي يسير عليها ديمقراطياً، ليكون نموذجاً مصغراً من ديمقراطية عامة تصلح للشعوب التي تضع قوانينها بنفسها، تطبيقاً لفكرة أن الشعب يحكم نفسه بنفسه لنفسه.
 
وفي مسرحية (لا) للكاتب الأسباني ماكس أوب (Max Aub) (1903 – 1972)، نلاحظ أنه سعى جاهداً – من خلال شخصياته – أن يسن قوانين عامة – في شكل إرهاصات للديمقراطية – من أجل نبذ الحروب واحترام إنسانية الإنسان. فشخصيات المسرحية جاءت في صورة مواطنين عالميين يفكرون في مصير الإنسان، ويدعون للسلام، ويكشفون عما تعنيه الحرب من تدمير لإنسانية البشر. فـ(هبرمان) – أحد أشخاص المسرحية – ينتصر لإنسانية الإنسان ضد الحروب التي لا تهتم بالإنسان، ولا بكرامته، وودّ لو سنّ قانوناً يمنع به الحرب حفاظاً على هذا الإنسان. يقول في ذلك: “… تدوسون بعجرفة أي محاولة للتعايش، واثقين من تفوقكم المنيع، هنا بالقنبلة الذرية، وهناك بالدبابات والمدافع، متجاهلين الإنسان الذي ليس له اعتبار. فالشيوعيون يضحون به دون رحمة …… والأمريكيون الذين يحولونه إلى حفنة من الدولارات ….. حسب لون بشرته ….. مثل البضاعة، بل ربما أكثر امتهاناً. ولأنني مؤمن بالإنسان …… فأنا متفائل سيحدث ما يجب أن يحدث، لكن العالم لن يجد الخلاص لأنه شيوعي أو رأسمالي، وإنما لأنه إنساني” ([15]).
 
وتؤكد هذا المعنى شخصية (غابار) – التي تؤمن بتحقيق الديمقراطية مستقبلاً، عندما تنتهي الحروب بين البشر، وذلك من خلال طرحها للعديد من التساؤلات، التي تنادي بسن قانون يحافظ على الإنسان من ويلات الحروب – قائلة: “… ستنتهي الحروب …… فإذا كنا واثقين من هذا، لِمَ التضحية بأجيال كاملة؟ …… لماذا التضحية بأناس وأناس كثيرين في سبيل تعجل الأمور؟ …… لن أوافق مطلقاً على التضحية بالجيل الحالي من أجل خلق وضع أفضل للأجيال الآتية، ولن أشارك في هذا الجنون العجيب الذي يجعل البشر الآن ضحايا إنسانية نظرية، ويجعل هذا العصر ضحية للمستقبل الذي سيكون بدوره ضحية لعصر آخر يتلوه” ([16]).
 
وماذا بعد أن يفكر الإنسان في سن قانون يلتزم به ويطبقه على نفسه أملاً في تحقيق الديمقراطية؟ من المؤكد أنه سيسعى إلى تعميم هذا القانون الذي سيحقق له الديمقراطية بصورة تطبيقية، وهذا التعميم عُرف فيما بعد باسم (الدستور)، وأصبحت السلطة الحاكمة في الديمقراطية هي القانون. و” القانون الذي يميز الحكومة الديمقراطية من أي نوع آخر من الحكومات هو القانون العادل. ولكي يكون القانون عادلاً، يجب أن يجسد إرادة الشعب العامة وتتكون هذه الإرادة فعلياً من مصالحهم المشتركة: الضمان، العدالة الاجتماعية، الحرية، السعي وراء السعادة وفقاً لرغبة الفرد. ولكن، إذا كان القانون يعبر عن إرادة الشعب، وإذا كان القانون هو الذي يحكم في الدولة أمكننا في هذه الحالة، القول بأن الشعب هو مصدر الحكم. هذا المبدأ يفسر معنى الديمقراطية” ([17]).
 
وهذا المعنى حققه فريدرش شلر (Friedrich Schiller) في ختام مسرحيته (فلهلم تل)، عندما جعل (برتا) ممثلة الأرستقراطية الثرية، ترجو الفلاحين أن يقبلوها في صفوفهم مواطنة حرة مثلهم. وفي الموقف نفسه جعل (رودنتس) السيد النبيل، يُعلن تحرير العبيد الذين كانوا يعملون في خدمته، ليحقق بذلك أهم ركن في الديمقراطية، وهو المساواة بين البشر، التي تعتبر أساس أي دستور في أية دولة ديمقراطية.
 
برتا: أيها المواطنون! أيها المتحالفون! اقبلوني في صفوفكم، أنا المرأة السعيدة الأُولى التي وجدت الحماية في بلد الحرية. وإني استودع حقوقي في أيديكم الشجاعة. أتريدون أن تحموني جاعلين إياي مواطنة لكم؟
المواطنون: (الفلاحون) سنفعل هذا مقدمين أموالنا ودماءنا.
برتا: حسناً! إذن أنا أعطي يدي لهذا الشاب، أنا السويسرية الحرة، لهذا الرجل الحر.
رودنتس: وأنا أعلن أن عبيدي صاروا أحراراً ([18]).
 
و” لكي يلعب الدستور دوراً فعالاً في تحقيق إرادة الشعب: يجب أن يقوم بوظيفة المعيار القانوني الأعلى في الدولة. يجب أن يتصف بالدوام. يجب أن يحتوي على آلية إدارية تحفظ حرية الفرد في المجتمع. يجب على جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية أن تجسد روح الدستور” ([19]). وهذا النداء حاول تجسيده إدواردو دي فيليبو في مسرحيته (عمدة حي سانيتا)، عندما نادى بوجود دساتير وقوانين توحد بين الناس، وتنص على كفالة الحقوق وضمان وصولها إلى أصحابها، وسعى من خلال المسرحية إلى البحث عن طرق من أجل إنصاف المظلوم وأساليب قويمة لرد الحقوق المسلوبة إلى مستحقيها، مع التنبيه إلى أوجه القصور في المجتمع وفي إجراءات تحقيق العدالة ([20]).
 
المساواة وحرية الرأي
 
تُعتبر المساواة من أهم المبادئ التي نادت بها الديمقراطية، باعتبارها مطلباً أساسياً للبشرية، التي نادت به منذ أقدم العصور. وقد قصّ هيرودت في كتابه (التاريخ) قصة ” لسبعة أشخاص من الفرس يتناظرون حول خصائص الحكومات المختلفة: حكومة الفرد (أو النظام الملكي) والحكومة الأرستقراطية والديمقراطية ..إلخ. ومزايا كل نظام وعيوبه، وينتهي الحوار بتفضيل الحكم الديمقراطي الذي يحقق رغبة الإنسان في مساهمة الأغلبية في شئون الحكم، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون” ([21]).
 
والمساواة من وجهة نظر الديمقراطية، هي المساواة السياسية والقانونية بين البشر، ليستطيع الإنسان أن يُدلي برأيه في الأُمور السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ هذه الأمور الحياتية. وقد نادى المسرح بهذه المساواة بصورة كبيرة، إلى درجة أن الإنسان يصعب عليه حصر المسرحيات التي نادت بالمساواة من كثرتها، ومن كثرة تناول الكُتّاب لها.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما قيمة عملية المساواة السياسية لإنسان لا يجد قوت يومه؟ ولا يجد كساءً يرتديه؟ ولا يجد مسكناً يأويه؟ فالإنسان يحتاج إلى المأكل والملبس والمسكن قبل أن يُطالب بالمشاركة السياسية، حتى يشعر بمبدأ المساواة – ولو كانت مساواة سلبية ([22]) – فيستطيع أن يُدلي بصوته وبرأيه في العملية السياسية. وهذا السؤال أجاب عنه مسرح الجريدة الحيّة ([23])، في عرضه (ثلث أمة) – الذي ظل يُعرض طوال موسم كامل في نيويورك – واسم هذا العرض مأخوذ من عبارة وردت في إحدى كلمات الرئيس الأمريكي روزفلت، ومفادها: أن ثلث الشعب الأمريكي لا يطعم، ولا يلبس، ولا يسكن كما ينبغي أن يكون الطعام والملبس والمسكن ([24]). والعرض المسرحي – كأغلب عروض الجريدة الحيّة – كان يهدف إلى تحسين حال الرجل العادي اجتماعياً واقتصادياً – تحقيقاً لمبدأ المساوة – وتهيئته لممارسة حقه السياسي بصورة ديمقراطية.
 
وإذا كانت المساواة أهم مبدأ في الديمقراطية، فإن الحرية – وخصوصاً حرية الرأي – تُعتبر هدف الديمقراطية الأسمى. يقول أحد الفلاسفة: ” إذا انعقد إجماع البشر على رأي، وخالفه في هذا الرأي فرد واحد، ما كان حق البشرية في إخراس هذا الفرد، بأعظم من حقه في إخراس البشرية إذا تهيأت له القوة التي تمكنه من ذلك، حتى ولو كان الرأي لا قيمة له إلا عند صاحبه” ([25]).
 
والمسرح منذ بدايته ما هو إلا أسلوب من أساليب حرية الرأي والتعبير. وكفى بنا أن نضرب مثلاً بمسرحية (السحب) لأريستوفانيس باعتبارها نموذجاً قديماً لحرية الرأي؛ ذلك الرأي الذي جلب الموت لصاحبه وهو (سقراط). فكاتب المسرحية أريستوفانيس عايش بعض ممارسات الديمقراطية الأثينية، خصوصاً حرية التعبير عن الرأي، لذلك كانت مسرحياته الكوميدية تعبيراً عن وجهة نظره، ووجهة نظر الجمهور في زمنه. ويُحكى أن حاكماً ” أراد ذات مرة أن يعرف كل شيء عن النظام الأثيني شعباً وحكومة؛ فطلب من أفلاطون أن يمده بالمعلومات الضرورية فما كان من الأخير إلا أن أرسل إليه بمسرحيات أريستوفانيس” ([26]).
 
وبناء على ذلك، يقوى احتمال تأثير مسرحية (السحب) على الجمهور، فيما يتعلق باتهام سقراط وتقديمه للمحاكمة عام 399 ق.م. فقد صوره أريستوفانيس بالرجل غريب الأطوار، والفيلسوف السفسطائي المتعبد للسحب والمتأمل في الظواهر الكونية، ومُعلم الشباب أساليب الجدل وتبديل الحق بالباطل .. إلخ الاتهامات المعروفة التي وُجهت إلى سقراط أثناء محاكمته. وتعتبر مسرحية (السحب) مثالاً مسرحياً فريداً لإبداء الرأي وحرية التعبير بالنسبة لأريستوفانيس ككاتب مسرحي في عصور ما قبل الميلاد.
 
وفي العصر الحديث آمن رومان رولان (Romain Rolland) بأن القالب المسرحي هو أنسب القوالب لمخاطبة الشعب، كما كان يؤمن بأن كل حركة فكرية أو سياسية تنتظر تأكيدها ونجاحها النهائي من المسرح، لذلك عمل على تنفيذ مشروعه المسمى بـ (مسرح الشعب) أو (مسرح الثورة)، لاعتقاده أن له رأياً أو رسالة عليه أن يبلغها للشعب الفرنسي، بل للعالم أجمع، في حرية تامة في ظل الديمقراطية ([27]).
 
ففي عام 1902م كتب رومان رولان مسرحية (سيأتي الوقت)؛ ومارس فيها حرية الرأي عندما دافع عن قضية الترنسفال بجنوب أفريقيا، واحتج فيها على الجرائم البشعة التي يرتكبها الاستعمار الإنجليزي في هذا البلد. وفي مسرحيته (أعياد الفصح المزهرة) 1916م، عبر عن رأيه بخصوص أفكار جان جاك روسو، الذي اعتبره الأب الحقيقي للثورة الفرنسية. أما مسرحية (روبسبيير) فهي نموذج لحرية الرأي والتعبير عنه فيما يتعلق بالحقائق التاريخية.
 
فسانت جوست – أحد أبطال المسرحية: عضو لجنة الأمن العام – يُفضل سعادة الشعب على حريته، قائلاً: ” الجريمة جريمتنا، لنتهم أنفسنا في أول الأمر! لقد نسينا جميعاً هدفنا الأساسي، ألا وهو إسعاد هذا الشعب. عبثاً تتباهون بتأسيس الجمهورية، إذا لم تسعدوا الشعب. فالشعب الذي لا يسعد، لا وطن له. لا يفخر بجمهوريته، ولا يتباهى بحريته ولا يحب شيئاً. قيل لكم (الحرية أو الموت). أما أنا فأقول: (سعادة الشعب أو الموت) ([28]).
 
أما روبسبيير – بطل المسرحية: عضو لجنة الأمن العام أيضاً – فينتقد الجمهورية الفرنسية، ويوجه سهامه إلى الثورة، قائلاً: ” .. كم من مرة حاولنا أن نبني الجمهورية على الفقراء ومن أجلهم! نحن نعلم، أن الثورة، لم تكن بالنسبة للأغنياء، سوى فرصة للربح الحرام والاحتكار وجني الفائدة والخداع والسلب! نحن نعرف جيداً أصدقاءنا الحقيقيين، الذين وهبوا أنفسهم للثورة بدون حساب، إنهم الفقراء، والفلاحون والعمال، وهم لقمة سائغة في أفواه الأثرياء! إننا نبذل قصارى جهدنا لحمايتهم. ولكن ألا يرون أنه عندما تحاط الجمهورية بعالم من الأعداء، فواجبنا أن نطلب منهم، من أصدقائنا الفقراء، التضحيات والتفاهم مع الأغنياء، حتى نشترك جميعاً في الذود عن الوطن، ضد هجمات الملوك وجيوشهم؟ علينا أن نشكل، عن طريق الرضى أو العنف، جبهة موحدة من الأغنياء والفقراء، لأننا في موقف حياة أو موت بالنسبة لأولئك وهؤلاء، لفرنسا كلها، لكل شيء، للنذير اليسير، الذي استطعنا تشييده، من الجمهورية! .. وسيأتي يوم، ينقذ فيه الوطن، وتواصل الثورة سيرها. لقد ربحت الثورة عدة معارك، وستربح أخرى أكثر أهمية، معارك الشعب. ولكن يجب أن نعيش قبل كل شيء، ولكي نعيش يجب أن نغلب. فقليلاً من الصبر” ([29]).
 
أما بابوف – أحد أشخاص المسرحية: عضو المؤتمر – فينتقد الثورة أيضاً، قائلاً: “أيها المواطن، أصحيح ما يقال، إنكم مستعدون لقلب الطغاة؟ إني من أعوانكم. ولكننا لا نريد كلاماً! نريد أفعالاً! منذ خمس سنوات وهم يلعبون بنا! خمس سنوات من الثورة! من السخرية .. جميع آمالنا، وتضحياتنا، كانت لزيادة ملكية الجشعين والمحتكرين! لا شيء للشعب! لم يجد بين نواب الجمعية المزيفين، نائباً واحداً عرف كيف يتآخى معه، ويشعر بضيقه واحتياجاته! .. خمس سنوات! خمس سنوات لم أتوقف خلالها عن المطالبة، بحقوق التعساء المقدسة، وبفرض المساواة! .. وماذا وجدت بدلاً منها؟ الاضطهاد، والملاحقة والسجن، على يد شياطين السلطة، الذين تتلاعب بهم أيدي الأغنياء .. وبدلاً من أن يدعمني أولئك الذين، من واجبهم الدفاع عني، فقد خانوني وسلموني …… إن القضية الملحة الآن، حتى تستأنف الثورة انطلاقها، هي إسقاط الحكومة الخائنة التي أفسدت الديمقراطية ..” ([30]).
 
وإذا كنا قد أكثرنا الاقتباس من مسرحية (روبسبيير)، فهذا مرده الاستشهاد بكم كبير من الآراء التي ذُكرت في المسرحية، للتدليل بها على حرية الرأي التي تمتع بها رومان رولان في انتقاده للثورة الفرنسية ورموزها، والإدلاء برأيه في فترة تاريخية مهمة، ربما خالف فيه الكثيرين ممن كتبوا عن هذه الثورة. ولأن المؤلف يهدف دائماً – من خلال أغلب مسرحياته – إلى إيصال رسالته عبر مسرح الشعب أو الثورة، جاءت شخصياته جامدة. “فالشخصيات في مسرحياته جميعاً، تفتقر إلى الحياة، ومن ثم فإنها لا تملك التأثير على المتفرج أو القارئ، ويبدو واضحاً أنها تنطق بالأقوال التي يلقنها لها المؤلف، وأنها تؤدي الدور الذي يعهد به إليها، ثم تنسحب على الفور” ([31]). وهذا الانتقاد يؤكد أن مسرحيات رومان رولان هي مسرحيات فكرية ([32]) في المقام الأول، تعكس – وبجلاء – حرية الرأي والتعبير عنه من خلال القالب المسرحي.
 
مثال آخر من أمثلة كُتّاب المسرح الذين وجدوا في المسرح ميداناً رحباً لحرية إبداء الرأي والتعبير عنه بصورة فنية، وهو أنطونيو بويرو باييخو، الذي حُكم عليه بالإعدام، وخُفف الحكم بالسجن عدة سنوات. وعندما خرج من سجنه وجد في المسرح خير معين له في بث آرائه في القضايا الإنسانية والاجتماعية والقومية. فقد عبر عن رأيه في النظام الملكي الأسباني في مسرحيته (حلم العقل)، وفي مسرحية (اليوم عيد) ناشد العدالة للمجتمع الأسباني، وفي مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمي) التزم بقضية حق الإنسان في ممارسة حريته الفردية والاجتماعية دون ضغط أو إرهاب، وفي مسرحيتي (اليوم عيد، والكوة) أدلى برأيه في الحريات الشخصية والعدالة الاجتماعية، وفي أغلب مسرحياته كان ينادي بالحريات الخاصة والعامة ([33]).
 
تحديات الديمقراطية
 
لم يكن طريق الديمقراطية مفروشاً بالورود دائماً، فالديمقراطية الأوروبية – في القرن الثامن عشر – ما هي إلا احتجاج الجماهير الشعبية العاملة ضد تجاوزات الملكية والنبلاء. فقد أراد الفلاحون تحرير أنفسهم من الضرائب والديون المرتفعة، وأراد الحرفيون إيجاد الفرص الملائمة لتصريف منتجاتهم، أما العمال فقد أرادوا العودة إلى العصر القديم (الجميل)، عصر العمل اليدوي الذي يدر على صاحبه الأجر المناسب. في هذه الفترة، احتج العمال على ظهور الصناعة الحديثة بتدمير الآلات وتخريب المعامل ([34]). والسبب في ذلك عدم تأقلمهم مع الآلات الحديثة التي توفر لهم عيشة طيبة، وتحقق لهم أكثر مبادئ الديمقراطية المتعلقة بسعادتهم.
 
فالكاتب المسرحي الإيرلندي دنيس جونستون (Denis Johnston) عالج هذه الإشكالية في مسرحيته (القمر في النهر الأصفر)، التي تتعرض إلى الصراع بين منطق العلم ومنطق القوة، أو بين الأسلوب العلمي السليم والشعارات الجوفاء والأفكار البالية، أو بين التقدم والتمسك بالقديم مهما عفت عليه الأيام. فالمسرحية تتحدث عن دخول إيرلندا عصر العلم والتكنولوجيا، من خلال عالم ألماني أنشأ محطة لتوليد الكهرباء بالقرب من مصب النهر؛ خدمة للأهالي. ولكن سرعان ما خاب أمله عندما وجد الإيرلنديين يقفون ضد أي تغيير – حتى لو كان هذا التغيير إلى مستقبل أفضل. فقد أدرك هذا العالم أن الإيرلنديين يرددون ألفاظاً لا يعون لها معنى مثل: الاستقلال، والديمقراطية، والحرية، والحضارة، والوطنية، وغيرها. وهذه المعاني كان الأهالي يستهلكونها بصورة نظرية، أما عملياً فصنعوا مدفعاً وعدة قذائف ودمروا محطة توليد الكهرباء باسم الوطنية والتقدم، فنسفوا بذلك رمز العلم والتكنولوجيا، وأغلقوا بأيديهم الطريق إلى تحقيق سعادتهم في ظل الديمقراطية، لأنهم غير مؤهلين لها.
 
والحوار التالي يبين هذه الفكرة، وهو حوار بين العالم الألماني (طوش) ومهندس السكك الحديدية (دوبل) حول وصول خطاب تهديد بنسف محطة الكهرباء، وكذلك جدالهما حول مفهوم الديمقراطية:
 
طوش: (يخرج من جيبه وثيقة أخرى مكتوبة على الآلة الكاتبة) يا سيدي العزيز. لا يمكن أن يخطر ببالي أن أفعل ذلك. ولكني أتساءل: هل ما تقوله لي يلقي أي ضوء على رسالة تسلمتها منذ أيام قلائل؟
دوبل: أرني (يتناولها) أوهو. تهديد للمحطة. هل وصلك ذلك منذ يوم أو يومين؟
طوش: نعم. لقد وجده أحد رجالي مثبتاً بدبوس في باب حجرة مفاتيح الكهرباء.
دوبل: وهل أفزعك ذلك؟
طوش: لم أفهمه يا سيدي العزيز. يعترض بعض الناس لأني أمد الثكنات الحربية بالتيار الكهربائي والإضاءة. لم أولِ للموضوع أهمية كبيرة، فأنا إن أبلغت الشرطة قالوا إن كل شيء سوف يكون على ما يرام. لقد أراحني كثيراً أن أعرف أن أختك الفاتنة هي التي فعلت ذلك.
دوبل: لا أدري. إن الموقف هنا مختلف بعض الشيء عما تعودت أنت عليه. في معظم الدول نجد أن المثاليين السياسيين هم مجرد مصدر إزعاج. ولكن المثالي هنا يقوم بعمل تقليدي يدعو إلى الارتباك. ففي العادة تكون له حكومته الخاصة به وكذلك جيشه.
طوش: تريد أن تقول إنه لا يعترف بأجهزة الديمقراطية؟
دوبل: بل يقول لك أنت لا تفهم الديمقراطية. إن إرادة الشعب – زهرة رقيقة يجب أن تغذيها القلة المختارة المستنيرة. وعواطف الانتخابات العام�
 
 بحث قُدم في الندوة الفكرية لمهرجان الكويت المسرحي العاشر، تحت عنوان (المسرح والديمقراطية)، التي أقامها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، في الفترة 13- 14/4/2008.
——————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *