المسرح العراقي …….  تحديات التطرف وطروحات ما بعد الحداثة د. سافرة ناجي

 

 

 

المسرح العراقي …….  تحديات التطرف وطروحات ما بعد الحداثة

د. سافرة ناجي

بحث الانسان وما زال عن المعارف التي تمكنه من اجابات تساؤلاته وترتقي بمعارفه. وتمكنه من استشراف ما يمكن ان يحدث له ، كل هذه الاحلام وجدها في المسرح اذ كان  تعبيرا عنها ابتداءً من محاكاته لصراعه مع  ميتافيزيقيا القدر الى وجودية الانسان ثم عبثية الحياة. لذا كان فكرا فنيا مستجيبا لكل متغيرات ودينامية تفكيره . فمنذ ان وعى وجوده عبر ثنائية الخير والشر ، وما ينبغي ان يكون موقفه منها . ادرك ان الوجود عبارة عن حدين باث ومستقبل  ذات سياق مؤثر ومتأثر، لذا فان وجوده هو بحث تشاركي بين حدي الباث والمتلقي. هذه المفاهيم نضجت لديه عبر التراكم المعرفي لتساؤلاته المعرفية، فكان المسرح احد فضاءاتها التي كانت تعلن شكل هذا التفاعل بين حدي الارسال والاستقبال بوسيطها الجمالي.  فكان له الدور الفاعل في تحريك بوصلة الاسئلة الفكرية  الاستشرافية التي عرف به المسرح . فضلا عن امتياز هذا الفكر بانه على تماس بالقضايا الانسانية، ففكره قائم على محاكاتها بوصفه فعل يُغيير ويتًغيير.   لذا وجد فيه المفكر العربي  فضاء تعبير ثري يمكن له ان يعبر عن حاجة واقعهم اليومي ويمكنهم من محاكاة  اشكالياتهم الفكرية، التي كانت متبلورة في نمطين من الصراع،  صراع خارجي مع الايدلوجية الاستعمارية، وصراع داخلي مع البنية الاجتماعية ذات النظام المتطرف في الفكر والتنشئة التي ترفض وتنفي مفاهيم الفن، وهذا السلوك الانثربولجي استجابة وتطبيق لما ورثت من ثقافة دينية تحرم الفنون بوصفها تحاكي الغرائز الدونية  للذات  الانسانية.  وهذا الموقف الديني قد رسخ تقاليد صارمة تجاه التعاطي مع الفنون، فورث المفكر الفنان تركة من الفكر المتطرف، الذي  وضعه ام تحدي تغيير مفاهيم ما ورثت هذه المجتمعات من تقاليد ورؤى فكرية  ترى في رفض الآخر سر قوتها. كل هذه الموروثات المتطرفة كانت ولا زالت المحك الاول للتحديات التي تواجه المسرح العراقي . ناهيك على ان تشكل البنية الثقافية للفرد العراقي هي ثقافة سطحية لا ترى من الاشياء الا ظاهرها، لذلك هي لم تجس من الفنون التعبيرية الادائية غير متنها الغريزي المعبر عن الايحاء الجنسي حصراً. وهذا الموقف الفكري المتدني ازاء الفنون الادائية يعد من اهم واخطر اشكال التطرف الفكري والسلوكي، الذي كان له الاثر الواضح على رسالة المسرح العراقي، الذي انشغل ولا زال في تغيير هذا الموقف والتعريف باهمية  دور الفن في حياة الانسان، وما يحمل من رسالة سامية ترتقي بذائقته وتخلصه من شروره ،وانه خطاب فكري ورحي. كل هذه الدعوات لم تحقق هدفها والبيئة الاجتماعية يهيمن عليها حدث سياسي او اجتماعي ينغلق على الرفض القطعي الفنون. وهذا ما نلمسه  بشكل واضح على خطاب المسرح العراقي. فبعد مسيرة قرن من الاشتغال والحفر الجمالي على محاكاة اشكاليات الواقع اليومي المعاش لهذه البنية وما تواجه من تحديات وانهيار فكري ترمي بظلالها عليه  بشكل مباشر. وعند تأمل هذا الارتداد نجده نتيجة هيمنة لمفاهيم الحروب المتواصلة والموت والاقصاء التي رسخت من مفاهيم التطرف فكرا وسلوكا. ويرى في فنون التعبير فنون لا ترتقي ولا تلبي حاجاته، وما هي الا حاجة كمالية ، فضلا  عن انها تفتقد للقيم الاخلاقية،  وعليه لا يمكن لها ان ترمم الخراب الحادث. بالأضافة الى ما لعبت الماكنة الاعلامية من  تبني مفهوم التطرف للسلطة السياسية والدينية  على حد سواء.

ان كل نظريات علم النفس وعلم الاجتماع  تؤكد ان الظواهر تشكلها قوانين البنية الاجتماعية، لذا  فالفرد  نتيجة البيئة  الانثروبولوجية الثقافية التي ينشئ فيها . هذا من جانب ومن جانب اخر سعي هذه السلطات الثلاث الى تحجيم دور المسرح في أنتاج المعرفة.  لأنها تدرك ان خطابه  يعري ويكشف عن الاشكاليات التي تعصف بالمجتمع  من اسئلة، ولا سيما بعد ان تحول الخطاب المعرفي للمسرح من سلبية التلقي الى ان يكون  المتلقي مشاركا في انتاج متواليات الاسئلة التي يقدمها العرض المسرحي .

ان المسرح العراقي في خضم كل هذه التحديات جعلت منه تابعا ، وبالتالي  لم يتمكن من ان يكون مؤسسة لها ذاتها المستقلة التي تمنح خطابه القدرة الفاعلة على التغيير، وبقيت مقولة المسرح الشهيرة(اعطني خبزا ومسرحا اعطيك شعبا مثقفا)  مغيبة عن الفعل ، وبقيت  مدار الاختبار والتجريب لان حضوره الثقافي ظل مرتبط بالسلطة.  وهذا في رأينا احد اهم العوامل التي حجمت من دوره، وبالتالي فقًد تاثيره الاجتماعي. فبقي الموقف المتطرف  منه دون تغيير. وما يؤكد ذلك اننا في نهاية العقد الثاني من الالفية الثالثة ولا زال المسرح يتعرض الى الهجوم ويواجه تحديات التطرف وما حادثة المسرحية الالمانية  التي عرضت على خشبة المسرح الوطني ضمن فعاليات مهرجان مسرح الشباب عام 2013، ماهي الا دليل من مئات الادلة على منظومة التطرف التي تتحدى خطابه الجمالي المنفتح على الحوار والتسامح وقبول الا خر، و تبني هذه القيم التي يبثها الخطاب المسرحي تهدد ايدلوجية التطرف التي تتنوع في سلوكها المعادي له.

ومما تجدر الاشارة اليه ان المسرح العراقي كان استجابة لتحديات  فكرية فرضتها المرحلة الفكرية انذاك. فكان مسرحا مستلهما ومحدثا لكل التجارب المسرحية العالمية لما يشكل محاكاة للتحديات التي تواجه على مستوى التأليف والاخراج  بما يتوائم واشكاليات الواقع. فكان له الدور البارز في تشكل رؤى المشهد الثقافي العراقي المعاصر،  وافصح  بشكل جلي عن اهمية دوره في الحياة العامة. وادراكا لهذه الاهمية اسس معهد الفنون الجميلة وتبعته كلية الفنون الجميلة فكانتا مؤسستان معنيتان بالفكر المسرحي ونظرياته، لتكون مصلحة السينما والمسرح الفضاء التطبيقي لمخرجات هاتين المؤسستين تشاطرها في ذلك الفرق الاهلية . وهذا القطاف كما نعلم سبقه حراك فني مسرحي لعب الدور في تَصير هذه المؤسسات الفنية .

فكان له الدور الريادي في تشكل خارطة المشهد الثقافي العربي والعراقي. فكان يتجاوز تحديات المسكوت عنه مما وضعه  في صراع وتحدي ساعده في في تشكل صيرورة تقنيات خطابه، وهذا التحدي افرز ملامح مسرحية ارتهنت بواقعها اليومي فملامح مسرح الثلاثيات غير الاربعينات ، او الخمسينات، او الستينات ، او الثمانيات، أو التسعينات  ….وهكذا.

وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل الا ان الاشكاليات الكبرى التي ظلت تواجه الفكر المسرحي العراقي هو الموقف المتطرف من طروحاته الجمالية التي تمظهرت بأطر عدة ، اذ سعت كل السطات السياسية والدينية والاجتماعية  الى المغالاة في تشويه خطابه ونعته بصفات تحط من دوره الاخلاقي والاجتماعي. لأنه يهدد فكرها ويعري دورها في سلب ارادة الفرد وتدجين سلوكياته الفكرية والادائية للانصياع لما تريد هذه السلطات منه. والملاحظ انه كلما تطور الفكر الانساني على  مستوى العالم نجد الفكر الاجتماعي والثقافي للمجتمع العراقي يرتد الى مفاهيم الرفض للفكر المسرحي. وهذا التطرف كان النتيجة الطبيعية لمجتمع ما ان ينتهي من حرب حتى يدخل في اخرى التي جعلت منه منقطعا  ثقافيا عن التواصل المعرفي، ولا يفقه غير قيم الحرب التي ترسخ من مفهوم  السلوك المتطرف  الذي يفرض ارادته بالقوة عبر معدات الموت. اذا فلسفة الحرب هي فلسفة الاقصاء والتهميش، وحتميا يفرز فكرا متطرفا ، وهذا احد اهم اوجه التحدي التي واجهها  وبشكل مستمر منذ اندلاع الحرب العراقية الايرانية اذ اعلنت السلطة السياسية انذاك عن موقفها المتطرف ازاء المسرح. وهنا دخل المسرح في تحدي البقاء، او الموت الجمالي،  وعلى ضوء هذا التحدي نتج المسرح التجاري الذي عزز من الموقف الاجتماعي المتطرف له ورفض ما يبث في خطابه من تهريج لا يحاكي غير الغرائز الدونية. فخلق هوة ثقافية  بين المسرح وجمهوره، لأنه يتعارض مع قيم الاخلاق .فكان من اهم انساق تعنيف الخطاب المسرحي مما جعله منحسرا على النخبة وانقطع عن التأثير في بيئته الاجتماعية وقدرة على تغيير موقفها ازاءه. ومن نتائج ذلك ما زال الخطاب المسرحي خطابا مضطهدا لا يشكل محل فخر اجتماعي للعاملين فيه.

والعقد الاخير بعد التغيير في 2003 قد افصح بشكل جلي عن الرفض والنفي للمسرح على الرغم من تبني الدولة النظام الديمقراطي، الذي يتيح للفرد حرية التفكير، واجه  هذه المرة تحديا تبنته جهات موغلة في التطرف لأقصاء  الفنون من الحياة العامة وساعدها في ذلك مخرجات المسرح التي التجأت الى المحاكاة الفاضحة واستغلال الجسد النسوي في بث  كل ما يسيء الى القيم الاخلاقية للفكر المسرحي.  فولدت اشكاليات جديدة للمسرح اولها الدفاع عن منظومته الفكرية، وان هذا الخطاب لا يمثله ، والكيفية التي يبث عبرها ويؤكد ان هذا الفكر قد قطع شوطا كبيرا في تقنياته الفنية التي نضجت في ضوء المتغيرات الفكرية التي يعيشها انسان عصر ما بعد الحداثة  التي تجاوزت  التقنيات التقليدية في المحاكاة من المسرح الأيهامي الى التقديمي والتجريبي الى مسرح  ما بعد الحداثة، اذ لا بد ان يكون المتلقي على تواصل مع متغيرات الفكر الانساني، لذلك وجدنا ان المسرح العراقي يواجه تحديا من نوع اخر هو ان الذائقة الفكرية للمتلقي، التي تعودت على نمطية الخطاب المسرحي في مستوييه التجاري الذي يحاكي ويتخذ من التهريج وسيلة للأسفاف والانشغال بالترويح عن الفرد في حدودها السلبية. والمسرح الجاد الذي قد انقسم بين مسرح النخبة الذي يغوص في الغموض والايهام  الذي اختصت به المؤسسة الاكاديمية ، والمسرح الجماهيري الذي ارتكن الى الشكوى والنواح على قهر الحرب للذات العراقية مما انتج بطل سلبيا ممسوخ الارادة،  لا يمتلك سمات التغيير. وعليه التسليم لقدره المحتوم بانتظار الموت. وهنا فان المسرح العراقي مع استجابة ومواصلة فكريه لمتغيرات الخطاب الفكري للمسرح . اذ لم تلقي طروحات المسرح العراقي لطروحات ما بعد الحداثة  الذي تبناها الجيل المسرحي الجديد  قبولا فأفضى الى انقطاعا مع متلقيه الذي لا يعي ما يقدم له من خطاب له خصوصيته الجمالية التي تتقاطع ما توجهاته الفكرية، سيما وان هذا المتلقي قد تعود على جاهزية الخطاب المسرحي الذي يحاكي يومياته وينتهي عندها دون اقتراح معالجة او التحفيز عن البحث على وسيلة ممكن لها ان تغيير من واقعه اليومي الذي يرفضه في سره ويمارسه  بشكل مستساغ في العلن ومنتمي له بكل طاقته. كما ان الخطاب المسرحي مع انفتاحه تكنلوجيا وفكريا  لتبنى طروحات ما بعد الحداثة وازاحة مفهوم المركز من نص ولغة وفعل درامي وايقاع الى المباشرة في محاكاة العنف الذي يحيط بالمتلقي  دون اقتراح للخلاص من هذا الواقع المميت . وهو بهذا لم يختلف عن خطاب مسرح الثمانيات او التسعينات ، ناهيك عن ان تبني خطاب ما بعد الحداثة فيما يخص تداخل الانواع التعبيرية قد جعل الخطاب المسرحي ينغلق على العلامة الاحادية التي بثها المؤلف، ليكون فيما بعد هو المخرج  والممثل،  فضلا عن ان كل العروض جمعت اكثر من ثيمة في شكل غير متناسق يعتريها التكرار والكشف المبكر عن بنيتها، وتغيبها لدور المتلقي الذي كان المتغير الاهم في طروحات ما بعد الحداثة، اذ  تقترح فرضية السؤال الاجابة عليه مما انتج خطاباً سلبيا. ناهيك عن اجترار اشكالية الحرب ورفض السلطة السياسية والسخرية منها، علما ان اقصاءها للمسرح هو نتاج التطرف الفكري والاجتماعي للخطاب المسرحي الذي تراه بث ينتمي الى الانحراف الاخلاقي . وهنا يدخل المسرح العراقي في تحدي على محورين: الاول تحدي التطرف الفكري والثاني تحدي استيعاب طروحات ما بعد الحداثة وهذان المحوران يطرحان تساؤلات عدة منها. هل ان المسرح العراقي سيضل منتمي الى  ذوات ُصناعه دون الانفتاح على حاضنته الثقافية؟. ماهي الوسيلة الفنية والتقنية التي تغيير من موقف الرفض له؟ ، سيما وان تأثير كليات ومعاهد الفنون الجميلة يتسم بالضعف، وتسيد خطاب المسرح التجاري على المنظومة الاجتماعية سواء عبر وسائل الاعلام، او ما يطرح هذا المسرح من اعلانات تجارية تهيمن على المنظومة البصرية للمتلقي بكل طبقاته الاجتماعية ، مما تؤكد على الصورة السيئة للمسرح وانه بات نسخة عما تقدم ملاهي التسلية من مجانية جسدية. كل هذه العوامل ساعدت على اجتياح منظومة الفكر المتطرف للمسرح وتعطيل دوره  في بث قيم التسامح والجمال، بوصفه الفضاء الافضل على اعتبار ان الذائقة الانسانية ترفض النصح والدعوة الى التغيير بشكل مباشر والدليل على ذلك لو احصينا الخطب الدينية على عدد الجمع التي مرت عليها لكان مجتمعنا  خالياً من مظاهر التطرف ورفض الاخر. وهذا يدعوا الى ان يعي المسرح تحديات التطرف التي تواجهه وعليه ايجاد معادل جمالي لطروحات ما بعد الحداثة التي من شانها ان تجعل من المتلقي فاعلا، لا ان تقصيه وتمارس عليه تطرفا جماليا ، فيعش بين دوامتي التطرف الفكري الاجتماعي وتطرف صناع الخطاب المسرحي . كل هذه التحديات تلزم قراءتها بشكل جدي حقيقي واعادة التفكير بمنظومة الخطاب المسرحي العراقي ودوره في بناء المجتمع على المستوى الاكاديمي اولا والفني ثانيا وان تطبق مقولة اعطني خبزا  ومسرحا اعطيك شعبا مثقفا بشكل تطبيقي لا تنظيري.

 

 

 

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *