المدينة أو أثر “جغرافيا المكان” على التجربة المسرحية للمبدعيَن “عبد المجيد فنيش” و”سعد الله عبد المجيد” تلكماس المنصوري/المغرب

       المدينة أو أثر “جغرافيا المكان” على التجربة المسرحية للمبدعيَن

“عبد المجيد فنيش” و”سعد الله عبد المجيد”

تلكماس المنصوري/المغرب

        حرصت الهيئة العربية في دورتها الثالثة عشرة من مهرجان المسرح العربي المقامة بالدار البيضاء، في الفترة ما بين (10-15 يناير2023، على خلق تجربة متميزة من خلال فسحها المجال للقاء بين الممارسين والباحثين، ليعرض الأوائل تجاربهم العملية والتطبيقية في الاشتغال، وينبري الباحثون كل من مجال اهتمامه وتخصصه واشتغاله النقدي والفكري، لمساءلتهم ومناقشتهم وإضاءة جوانب من مسارهم الفني.

     في هذا السياق تتأطر الجلسة الثانية المتعلقة بتجربة المبدعَيْن: “عبد المجيد فنيش” و “سعد الله عبد المجيد”. إذ أشرف على تسييرها الدكتور “محمد الوادي”، وتكفل الناقد والكاتب “سالم اكويندي” بمساءلة تجربتهما الفنية والعملية. وقد تميزت الندوة بالمزاوجة بين – عرض المسار الفكري والفني لكل مبدع، فقام كل منهما بتقديم رؤيته وتصوره للمسرح من خلال دراساته وقراءاته الفنية الشخصية استنادا إلى مرجعيته وخلفيته الفكرية والنظرية – وبين عرض فيديو تقديمي عن حياتهما ومسارهما الفني. ناهيك عن استمتاع الجمهور بمشاهد حية ومباشرة من مسرحية “زهرة بنت البرنوصي”، من أداء “فرقة محترف 21” التي يشرف عليها المبدع سعد الله عبد المجيد، والفرقة الثانية قدمت كشكولا هو توليفة لمجمل أعمال الفنان عبد المجيد فنيش والتي يفوق عددها 30عملا بين التأليف والإخراج.  

   من هذا المنطلق وبناء على المساءلة التي تقدم بها الناقد “سالم اكويندي”، يمكننا أن نجمل أهم المحاور التي تتأسس عليها تجربة المبدعين فيما يلي:

  • هل يمكن أن يكون للمكان/ المدينة أثر وبصمة مائزة ومميزة في مسار أي مبدع أو فنان؟
  • هل يمكننا أن نقرأ الأعمال المسرحية والفنية للمبدعين بمعزل عن سياقها التاريخي والفني والفكري؟
  • ما هي الإضافات التي قدمها كل واحد منهما إلى المشهد المسرحي المغربي؟
  • أين تكمن ملامح التجديد أو الامتداد في تجربة المبدعين عبد المجيد سعد الله وعبد المجيد فنيش؟

بين مدينة سلا والبيضاء ترتسم معالم التجربتين المسرحيتين:

         للمكان سطوته وذاكرته وأثره، وللجغرافيا حدود تسيج بعض العوالم وتفتح أخرى على كل ما من شأنه أن يغني ويثري تجربة أي مبدع مهما كان انتماؤه الفكري والثقافي، إذ يدرك الجغرافيون أن الظواهر التي تدخل في تكوين المنطقة أو المكان أو الإقليم أو سطح الأرض، لا توجد معزولة وإنما تتفاعل مع بعضها وترتبط بالعلاقات، فينتج عنها تباينات بين المناطق. وبالقياس عليه يدخل المكان باعتباره جزءا من المرجعية والثقافة والعادات والخلفيات التي ينهل منها الفنان خاصة إذا تعلق الأمر بالمسرح.

      لقد شكلت سلا بجزأيها القديم (المدينة العتيقة) والجديد (المدينة الجديدة) فضاء جغرافيا وفكريا وثقافيا يفوح من كل أعمال عبد المجيد فنيش. وهو الذي اعترف في مداخلته بأهمية المجتمع والعائلة والأسرة السلاوية العتيقة والتي تتناسج فيها مكونات مغربية وأخرى أندلسية، أثث الملحون والطرب الأندلسي جنباتها، فأضاءت حياة المبدع، ووجهت كيانه منذ الطفولة. وهو سليل أسرة “السفياني” التي تتقن فن الملحون، وهو ابن مجتمع مغلق هو المدينة العتيقة بأسوارها الحصينة، فانغلق على التراث من أجل أن يجعل منه مادته التي بنى عليها تجربة عمرت لأربعة عقود، فانفتحت مشاربه الفنية والموسيقية على ملامح الاحتفال بالتراث والاحتفاء به.

      خارج الأسوار تفتق ذهن المبدع على فن الحلقة فخلبت لبه، واستلهمها في أعماله، وشغلته “البْسَاطات” الفنية وكانت قالبا صاغ فيه مجموعة من الأعمال من قبيل “يا ليل يا عين”، و”الرشوة نشوة” وغيرها. وهنا تبدو ملامح الطيب الصديقي حاضرة بقوة خاصة في لغته الجناسية المليئة بالبديع والصنعة والزخرف. ثم تلاقحت مع الاشتغال على تفاصيل الثقافة الشعبية المغربية، على أساس الانخراط اليومي فيها، وهنا سينتقل عبد المجيد فنيش تلقائيا إلى جماعة الاحتفاليين، وستظهر آثارها في أعماله، التي راهن فيها على خصوصية المدينة العتيقة (مدينة سلا)، واستفاد من تكوينه في الجانب الإعلامي والصحفي، ليوقع بصمته الخاصة.

     وداخل أسوار المدينة العتيقة بالدار البيضاء تفتحت تجربة “سعد الله عبد المجيد” الذي راهن على دفء المشاعر والأحاسيس الدفينة داخل كيانه من أجل أن تتفجر خارج أسوار المدينة العتيقة لتعانق توسع حاضرة البيضاء عمرانيا وثقافيا وفنيا، فيراهن من ثمة على كون مسرحه هو “مسرح المشاعر والأحاسيس”.

    صلابة وقوة تجربة سعد الله عبد المجيد ترفض أن تخلق مسافات أو حواجز وهمية مع الجمهور، لأنه حرص على قرب اللقاء وتقارب المشاعر والقلوب بين المؤدين والمتفرجين، وعليه يصرخ: “أنا أرفض أن أنعت يوما بأنني بريختي”. تجربته جمعت بين التنظير والتطبيق، فهو المؤمن بأن المسرح “صناعة درامية”، تقوم على ترجمة المشاعر والأحاسيس إلى أدوات درامية عبر التنقلات والإيقاع والتوقيت الدرامي وغيرها من الميكانيزمات الحرفية التي يشتغل بها داخل مشغله الشخصي ليحقق الانسجام بين ما يحلم ويشعر به وبين ما يشتغل به وعليه.

  فالمدينة/ الفضاء حاضرة بقوة في تجربته والتي يؤمن فيها بأهمية “التجربة الفضائية”. كيف لا وهو الذي استلهم “ثقافة المجالس”، و”مسرح المقهى”، و”مسرح الغرفة” واختار الهواء الطلق ليقدم “عروضا تلقائية” وليست “ارتجالية” ليجس نبض الشارع والأثر الناتج عن التفاعل مع الجمهور بتلقائية وعفوية واضحة تختفي الحلقة بين ثناياها وتجعلها مادتها ومرجعها. فشكل “درب الفقرا” (الشرفاء) ملجأ لخريجي البيضاء الجديدة (محمد الحياني، محمد التسولي، عبد القادر البدوي، عبد الرزاق البدوي…) فهم الوافدون إلى مدينة البيضاء وهم الامتداد الحضاري لها، ليس “لبَدْوَنَتِها” ولكن لانفتاحها واتساعها وتجددها، وهذا هو جو معيش عبد المجيد سعد الله داخل فضاء المدينة.   

مساءلة التجربة تكمن في استحضار سياقها:

       السياق عنصر هام في وسم أي عمل أو تجربة كيفما كان نوعها، ولا يمكن بأي حال أن نعزل تجربة المبدع عن تاريخها والمرحلة الفكرية والفنية والنقدية المحايثة لها، وبالتالي من الصعب أن نحكم على أي عمل في زمن ما من خلال زمننا الراهن أو ما استجد من نظريات وأفكار نقدية لأننا بذلك نعمل فيه عمل “بروكست”. والحال أن نظرية الأنساق تهتم بالسياق باعتباره مكونا هاما من مكونات التأويل والتحليل. فمساءلة المشهد في زمنه وسياقه هو ما يحدث الفرق. وليس ثمة أنساق منعزلة أو محايدة، بل هناك أنساق متفاعلة ومترابطة وفق مرجعيات سياقية وتناصية مختلفة، يتحاور فيها الثابت مع المتحول ويحصل بينها صراع وصدام وتوتر لا بد منه، وعليه يجدر وضع البنية النسقية للمبدعَيْن المسرحيين ضمن سياقها التاريخي والتطوري، وضمن النسق السيميوطيقي العام.

       السياق حكمته أحداث تاريخية هامة من تاريخ المغرب أو من الأحداث العربية أو العالمية من قبيل نكسة 1967، والتي ألقت بظلالها على العديد من الأدباء والمفكرين، والنقاد، وأيضا على المسرحيين، فظهرت آثارها على عبد المجيد فنيش الذي رصد آثار الحدث في أعماله، لأن الفنان في نظره لا يمكن أن يصم أذنيه عما يدور حوله.

       لقد ساهمت النكسة في تمرد المثقفين العرب على معايير الثقافة الكلاسيكية الموروثة، كما دفعتهم إلى التجديد والتجريب والتأصيل عبر البحث عن الهوية الذاتية ورفض قوالب الفكر الغربي، والعودة إلى التراث من أجل تأسيس صورة إيجابية عن الذات وإعادة قراءة الماضي من أجل تغيير المستقبل. وتلك كانت نقطة تغير في مسار الفنانين وظهرت بيانات الاحتفالية، مثلما ظهرت بيانات المسرح الثالث ومسرح النقد والشهادة ومسرح المرحلة والمسرح الفردي. فحرص عبد المجيد فنيش -على غرار بقية الاحتفاليين- على إظهار “إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة”.

       السياق أيضا فرض الاهتمام بالتراث باعتباره جزءا من الهوية والكينونة المحلية لكل ثقافة ولكل شعب، وتلك كانت صرخة “توماس إليوت” وكان مطلبه هو إعادة قراءة التراث واستلهامه. وليس غريبا أن يؤكد الطيب الصديقي أنه تأثر كثيرا بكلام أستاذه جون فيلار عندما أخبره بأن يبحث عن مسرح من صميم ثقافته وتراثه، واكتشف “أن ما يبحث عنه، هو موجود بالقرب منه”، فاستلهم البساطات والحلقة والفرجات الشعبية في أعماله، وذلك ديدن عبد المجيد فنيش، وعبد المجيد سعد الله. فالأول حاول مسرحة الملحون للكشف عن أسراره وجمالياته على مستوى التمسرح، أما عبد المجيد سعد الله فكان يبتغي إعادة تجسيد الفرجات التي سحرت كيانه منذ الطفولة (فرجة الشطاحة- فرجة الحنة- فرجة تاغنجا- فرجة بوالبطاين في أيام العواشر- فرجة الساحات- الحلقة- عبيدات الرمى- فرجة العوادة- فرجة عيساوة وأصحاب الجدبة…) واللائحة تطول لكنه ذو مشروع تنظيري وفني يمزج بين التفكير والاشتغال ظهرت نتائجه في الأوراق العشرة من رؤيته “للمسرح الفقير” والتي يعرض فيها الأدوات الدرامية المتنوعة والمختلفة التي يشتغل بها.

     فرضت المرحلة إذن الاتجاه نحو كل ما هو تاريخي وتراثي خاصة بوجود أيقونتيه: “الطيب لعلج والطيب الصديقي”، ومن ذا الذي ينكر الإضافة النوعية التي أحدثاها بالاشتغال على المادة الشعبية والتراثية المغربية والعربية والعالمية. حتى ظن البعض أن مسرحية “خمس ليالي في حضرة الجيلالي” لعبد المجيد فنيش هي استنساخ “للمجذوب” و”الحراز”.

سؤال الامتداد والتجديد:

     فراغ الساحة النقدية والفكرية سواء على مستوى التنظير أو التأطير الفني أو التطبيقي، في المرحلة التي عاصرها المبدعان، فرضت عليهما اختيارات متعددة ومتنوعة، من بينها أن “سعد الله عبد المجيد” فضل أن يلج عوالم التنظير من خلال اجتراح “مختبرالمسرح الثالث” بمعية زملائه “المسكيني الصغير، عبد القادر اعبابو، نبيل عبد اللطيف..” قبل أن يجرب “المسرح الفقير” ولكن بلمسته الخاصة التي تحتفي بالجسد على طريقة آرطو وبالاقتصاد في المادة الدرامية على طريقة غروتوفسكي. ولكنها تستلهم الفرجات الشعبية المغربية التي يحضر فيها الجسد بتلوينات جمالية متنوعة. وقد ظل عبد المجيد سعد الله إلى الآن يصدر أوراقا تنظيرية وصل عددها إلى العشرة، إذ أكد أنه بصدد إعداد اللمسات النهائية للبيان الأخير حول خصائص وأسس هذا التوجه الفني الذي تبناه، وقد ضمنه مختلف أفكاره حول الاشتغال بالصنعة الدرامية على الجسد وفق ملامح الاحتفاء والاحتفال بالجسد على طريقته الخاصة والتي تمزج بين المرجعية الغربية والأصالة المغربية والخبرة الشخصية التي تراكمت عبر الزمن.

   فراغ الساحة أو حداثة التجربة المسرحية المغربية (مسرح الهواة) جعلت أغلب التجارب تستلهم المسرح الملحمي، وعلى العكس من كل ذلك يصرح عبد المجيد سعد الله بأنه لم يتبن هذا التوجه قط، وأنه اعتمد عكس ما أشار إليه بريخت، فهو يروم التقريب وليس التغريب أو التباعد البريختي، كما يؤمن بأن المشاعر والأحاسيس هي جسر للتواصل بين المبدع والجمهور.

      الأمر عينه دفع بالمبدع “عبد المجيد فنيش” إلى أن يكون “مباشرا” على حد تعبيره في ولوج عوالم المسرح، واستفاد في ذلك من تكوينه الإعلامي، فاختار “الإعداد الدرامي” منذ بداياته، ولم تكن المسألة واضحة المعالم (لم يتأسس بعد المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي ). لقد خاض التجربة بملء جدتها وصعوبتها على مستوى التنظير والاشتغال، وكان يخطط لنسج تجربة متفردة رغم أنه يعترف بأنه ليس “ذا مشروع”، لكنه اختار على مستوى الشكل أن يناقش التمثيل داخل التمثيل، وينتقل من الحكي إلى التشخيص، أن يغير مفهوم الجوقة، ويجعل الديكور وظيفيا ومتحركا، ولم يعتمد الاظلام قطُّ في لوحاته منذ أن ولج عالم المسرح.

     ولأن وضوح فكرة “مهن المسرح”، لم تتبلور بعدُ، فقد مزج عبد المجيد فنيش بين التمثيل والإخراج والسينوغراف، والمعد الدراماتورجي والمؤلف وغيرها.. مما يوضح مسألة هامة أن المبدعين معا صورةٌ عن المخاض الذي عاشته التجربة الدرامية/ المسرحية في المغرب باعتبارهما فكَّرا في المسرح شكلا ومضمونا، تنظيرا واشتغالا، تحذوهما الرغبة في الاستمرار في “ترسيخ الثقافة العالمة الرصينة وتحويلها إلى عوالم درامية تنعكس في أعمالهما ونصوصهما، في بساطة ودقة وأصالة” كما استنتج ذلك الدكتور “سالم اكويندي” وتلك فكرة عن ملامح الامتداد والتجديد في تجربتهما. وعليه فقد اجتمعت في أعمالهما معاني “الاختصار في الدلالة” والبحث عن “الممكن في امتلاء النص”، والاشتغال في مجال المسرح مهما كانت صعوبته أو صعوبة المرحلة التي يعاصرانها، يحذوهما طموح كبير في توشية تجربة شخصية مفعمة بالأصالة والتراث.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش