المتلقي بوصفه مشاركا في إنتاج الدلالة المسرحية – عواد علي

أعادت نظرية التلقي، التي تُعدّ واحدة من أبرز النظريات النقدية الحديثة، الاعتبار إلى القارئ بوصفه مؤوّلا للنص الأدبي الذي يُعد أثرا مفتوحا يحيا ويستمر في الوجود من خلال تعدد قراءاته.

وقد استغرب العديد من نقاد المسرح عدم وجود اهتمام مماثل بهذه النظرية في حقل التحليل المسرحي، خاصة أن المسرح تبرز فيه قضية التلقي على نحو أكثر حساسية وإلحاحا من أي نمط آخر من أنماط الإبداع الفني، ففيه تتجلى استجابة المتلقين فورا، ما يجعله أفضل مجال لدراسة عملية التلقي، والممثل لا يبدع إلّا في مواجهة هؤلاء المتلقين، ويكيّف أداءه دائما، وفق استجابتهم له، في حين أن المؤلف الروائي نادرا ما يواجه قرّاءه.

في هذا الصدد يرى الناقد الإنجليزي جوليان هلتون أن نظرية التلقي تقول، باختصار، إن التواصل بين القارئ والنص (وبالمثل بين المؤدي ومتلقيه) لا يتحقق إلّا حين تلتقي آفاق التوقعات عند كل منهما، وتتشكل هذه الآفاق من اللغة، والعقائد، وأنساق القيم، فإذا اختلفت لغة العرض والعقائد والقيم التي يتبناها، اختلافا جذريا عن لغة المتلقي وعقائده وقيمه، استحالت الاستجابة والتواصل.

يحضرني هنا مثال يدعم هذا التعارض بين آفاق العرض وآفاق المتلقين وهو العرض المسرحي السويدي “هيروشيما حبيبتي”، المعدّ عن رواية بالعنوان نفسه لمارغريت دوراس، الذي قُدّم في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1989.

كان العرض، مثل نص الرواية، أنشودة شاعرية حزينة لهيروشيما، وتنديدا بعشوائية الحرب الذرية التي دمرت هذه المدينة، فهو يتابع 24 ساعة من حياة ممثلة فرنسية متزوجة كانت تعمل هناك، فوقعت في حب شاب ياباني أحيا في داخلها ذكرى تجربة سابقة لها إبان شبابها حينما أحبت جنديا ألمانيا في أثناء الاحتلال النازي لفرنسا.

لكن الطابع الجنسي للعرض، وظهور بطلة المسرحية في ثوب شفاف جدا لا يستر عريها، دفع الكثير من المتلقين، خصوصا النساء، إلى مغادرة القاعة وهم يتأفّفون، أو يشتمون الفرقة وإدارة المهرجان التي سمحت بمشاركة هذا العرض الذي يصدم مشاعرهم، ويتعارض مع قيمهم الاجتماعية.

ثمة اتفاق، في هذا السياق، بين هلتون وكل من ياوس وبافيس اللذين أكدا أن مفهوم أفق التوقع يشكل مفتاحا يفيد التفكير في العلاقة الحميمية (أو التفاعل) بين العمل الأدبي ومستهلكه، لأنه يُعدّ الإطار النظري الذي ينتج عنه فهم المتلقي لذلك العمل. ويقابله، في الوقت نفسه، اختلاف مع سوزان بينيت، التي تحدثت عن تحدي العروض الطليعية والتجريبية لأفق التوقع التقليدي لجمهور الطبقة الوسطى الذي ينتمي إلى تيار المسرح السائد، واصطدام تلك العروض، في بداية ظهورها، بذلك الأفق، ومن ثم اكتسابها قبولا في وقت لاحق.

يقسم هلتون توجه هذه النظرية، في رؤيتها لعملية التلقي، إلى وجهتين: وجهة تزامنية، ووجهة تعاقبية، الأولى تفحص عروضا محددة تُقدّم أمام متلقين محددين، وتسعى إلى قياس وتقييم تأثيرها في هؤلاء المتلقين، وترصد الثانية التغيرات والتوجهات المختلفة التي طرأت على الذائقة المسرحية عبر التاريخ، وتحاول تفسير شعبية بعض المسرحيات، والأساليب المسرحية في عصور معينة، واختفائها، أو الانصراف عنها في عصور أخرى.

وقد ترتب على نظرية التلقي أن تحوّل الاهتمام، في عملية تحليل العرض المسرحي، من التركيز على نوايا المؤلف والعملية الإبداعية، إلى التركيز على جهد المتلقي في إنتاج ذلك العرض خلال عملية التلقي.

وتنشط عملية الإنتاج هذه في فجوات العرض، كما جرى العرف على تسميتها، أي مناطق الغموض والتورية والقلق التي تفرض على المتلقي مهمة تفسير المعلومات المرسَلة إليه، وإكمالها من واقع خبرته وتوقعاته، فيتحوّل إلى مشارك إيجابي في عملية إنتاج الدلالة. ويجسد الانتباه إلى فجوات العرض، والاهتمام بها كعنصر فاعل في هذه العملية، حجم الإضافة التي حققتها نظرية الاتصال برمتها في مجال الدراسات الأدبية والمسرحية.

إن الممثل حين ينجح في أداء مهمته يحوّل المتلقي، كما يرى هلتون، من مُشاهد سلبي إلى مشارك إيجابي في إنتاج دلالة الحدث المسرحي، فالأداء الجيد يجعل المتلقي يشعر وكأنه في قلب الأحداث المعروضة أمامه، ويدفعه إلى الاشتباك الجدلي مع العرض وجوديا ومعرفيا. وبذلك ينهار الحاجز الفاصل بين خشبة المسرح والصالة، بين الممثل والجمهور.

ويترتب على ذلك أن الحدث المسرحي الحقيقي يشترط تخلي المتلقي عن كونه متلقّيا فقط، والشعور بأنه فاعل مشارك في العرض رغم سلبيته الجسدية، ومكانه في الصالة، فعملية التحوّل التي يمر بها الممثل لكي يتمكن من الدخول إلى الشخصية ينبغي أن تتكرّر في عملية مماثلة في حال المتلقي، وإلّا فشل العرض تماما.

لكن النظرة إلى العرض المسرحي، كحدث ينتج عن التقاء الممثلين بالمتلقين، يثير مشكلتين، الأولى مشكلة الضوضاء التي تعترض مسار الإشارة المرسلة من الممثل إلى المتلقين، فهي، أي الضوضاء، سواء أكانت واقعية أم متخيلة قد تتسبّب، على المستوى العملي، في حدوث فجوة بين الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه الممثلون، والصورة التي يكوّنها المتلقون عن هذا الهدف، فقد يدرك الطرفان أنهما يشاركان في تجربة واحدة هي العرض المسرحي، لكنهما، على الرغم من ذلك، قد يختلفان في تفسير معنى هذه التجربة أو دلالتها.

أما المشكلة الثانية، فهي أن وجود الجمهور في حد ذاته لا يستطيع وحده أن يحوّل حدثا حقيقيا إلى حدث مسرحي، وإلّا تحوّلت كل حوادث الطريق إلى أحداث مسرحية. وهنا يؤكد هلتون على مسألة بديهية مفادها أن ما يميّز الأحداث الواقعية عن الحدث المسرحي هو عنصر الأداء التمثيلي المقصود، فضحايا الحوادث الذين يتجمهر الناس حولهم لا يمثلون، في حين أن الممثلين يعلنون صراحة وفعلا أن الأحداث التي يشخصونها هي أحداث يمكن أن تقع، أي أنها أحداث ممكنة تجمع بين الحقيقة والخيال في آن واحد.

ومن المعروف أن هذه الفكرة تعود في أصلها إلى أرسطو الذي طرح مفهوم مشابهة الحقيقة على مقتضى الاحتمال والضرورة، وربطه بمحاكاة الطبيعة، مؤكدا أن مشابهة الحقيقة يجب أن تحدث في المسرح إما وفق الضرورة (ما يمكن أن يقع)، وإما وفق الحقيقة (ما يقع فعلا). وبهذا يصبح الممثل هو المسؤول عن إنشاء الحدث المسرحي، أما الجمهور فإنه يتولى مهمة تقييمه، وقياس صحة المعاني والفرضيات التي يراها فيه في إطار الثقافة ككل.

 

عواد علي

كاتب عراقي

 

https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش