العابر والمنفلت والمُحتَمَل .. التقنية والتكنولوجيا والخيال في مسرح الحداثة د . جبار جودي العُبُودي

المصدر : محمد سامي موقع الخشبة خاص

لقد سعى العـــــديد من الفنانين والأدباء الى إحداث تغييرات جذرية في طريـــــقة تناولهم للفنون وانتاجها للتأثير بالواقع الإجتماعي واليومي المعيش وابراز الجانب الجمالي والحسي لهذه التجارب المتأثرة بوقع الحداثة & التي اعتصرت في داخلها اصطراع التباساتها وتناقضاتها ونبض تحولاتها الجمالية جنباً الى جنب مع سعيها الى إحداث تغيير جمالي في الحياة اليومية (..) لكن تأثير وقع الحياة اليومية على الحساسية الجمالية الجديدة كان في الحقيقة أكثر بكثير من مجرد تأثير لحظة عابــــرة &(1) ، تلك اللحظة التي اقتنصها رسام الحياة الحديثة بودلير في غمرة تحولات كونية تخص عوالم الفن والفلسفة والأدب والإقتصاد والسياسة وترجمها بطريقته الشاعرية الخاصة ، إذ نظر الى الحداثة من منظور مغاير ، محلّق ، مختلف ، ومزج مقولات جديدة ضمّها للحداثة الجمالية – التي أصبح أحد أهم روادها – مثل العابر والمنفلت والزائل ، ووضع عبارات التناقض في الفنون مابين الإنقطاع والتواصل وبين الحداثة والإستمرارية ، لأنه أكّد على أن الحداثة في الفن مُفارِقة لما هو أبدي & فالحداثة هي العابر والمنفــــلت والمحتمل ، أي نصف الفن ، بينما نصفه الآخر هو الأبدي والثابت &(2) .

بذلك يكون بودلير قد أشار الى ان اللحظة الإبداعية التي يولد بها العمل الفني الحديث تتشاركه معطيات زمنين مختلفين يأتلفان مع بعضهما البعض لتكوين الوضع الحداثي الجديد ، وهو بذلك يمنح الحداثة تميّزها عن غيرها من الحقب أو المراحل الزمنية بإظهارها لتشابك تاريخي كسياق عمل يتبدد فيه حاضرها متطلعاّ الى أفق مختلف بعد أن تأمّل في ماضٍ نشأ في راهنه كحاضر ، فاللحظة الإبداعية تمثلها بودلير بالبرهة العابرة التي تجسد الماضي الحقيقي لقادم أكثر جدّة ، وبهذا المعنى & سيرتبط العمل الأصيل جذرياً بلحظة تكوّنه ، ولأنه يذوب ويستنفذ ذاته في اللحظة الراهنة ، فهو يستطيع أن يوقف التدفق المتواصل للإرهاصات الغير مهمة وأن يكسر رتابة العادي ويُشبع الرغبة الدائمة في الجمال من خلال الإمتزاج العابـر بين الخالد والراهـن &(3).

لقد قام بودلير بالتأسيس الأول للحداثة في الفــــــن لمزجه بين الأبدي والراهــــــن الذي يتحول الى ماضٍ بدءاً من لحظة تكوّنه ، لقد عكس تبادل الأدوار بين الأزمان في برهة تكوّن العمل الفني ولحظة انطلاقه لغرض التــــفكّر والوعي بإنتهاء الأبدي في الآن الزائل ، فالحداثة عند بودلير & الجمال الموجود في الموضة التي تتغير في كل الفصول ، وهي تجديد يحمل في داخله الشعور بأن الأبــدي سينتهي بالتحـلل في ماهو آني (..) وذلك حتى لايمكن ادراك الأبدية الاّ في الوعي بغيابها &(4) . تلك الأبدية التي رآها تتجسّد في الآني والمؤقت لتحقـق شرط الحداثة في الفنون عن طريق المنجز الإبداعي . إذ يكون العمل الفني الأصيل بذلك مرتبط بلحظة إنشاءه حيث تؤسس سمة الراهن الصلة بين الموضة والجديد ، تلك الموضة التي براهنيتها تسير في دروب زمنٍ ماضٍ ، ويؤكد هابرماس في معرض نقاشه لمقولة بودلير على سياق عمل التاريخ وعدم إمكانية الفصل بين الحاضر واستمراريته في زمن قــــــــادم يؤسس لجديد كمستــــــقبل بإعتبار ان & ادراك الماضي هو أفق الترقب المفتوح على المستقبل الذي يحدد الحاضر ، وبمقدار مانستملك تجارب الماضي في منظور المستقبل ، فأن الحاضر الأصيل يتأكد في وقت واحد مكان استمرارية التقليد والتجديد ونظراً لإمتناع أحدهما بدون الآخر ، ويختلط كلاهما في موضوعية سياق عمل التاريخ &(5) .

سعى الفنانون الحداثويون بكل تطلعاتهم وطموحاتهم الطليعية والتجريبية الى التحرر من جميع القيود والأعراف والتقاليد وإطلاق العنان لمخيلاتهم وهواجسهم وارهاصاتهم والتعبير الفني عن اغترابهم بهذا العالم تحت مظلة الحداثة التي تجاوزت كافة الحدود في الفن ، وبلغ أوج هذه المتغيرات والإبتكارات الإسلوبية في الفترة من 1900 الى 1930 ومن بعدها انحسرت وارتكنت الى الظل بسبب الظروف السياسية والكساد الإقتصادي الكبير ومن ثم الخراب الذي لحق بالعالم نتيجة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها التي مارست ضغوطاً قوية تجاه المجتمعات الغربية حتى منتصف الخمسينات تقريباً ، وبدأ بزوغ الحداثة وارهاصاتها من جديد في بداية الستينات من القرن العشرين وعلى كافة المستويات ، على الرغم من انها لم تأتِ بجديد مبتكر مشابه للثورات الفنية التي سادت في العشرينات ، وأغلب الحركات الحداثوية كانت محاكاة ومماهاة لما تم انجازه سابقاً وإن اختلفت الطرق والأساليب ، لكن تلك التأثيرات الحداثوية كانت واضحة ومؤثـــرة هذه المرة ليس في الدول الغربية بقدر ماكانت في دول العالم النامي والعالم الثالث وهي تسير في طريقها للخلاص من أشكال الإستعمار ودخولها في عصور الإستقلال ومابعد الكولونيالية ، ودليل ذلك ماحدث من قفزات في أساليب الشعراء والفنانين والأدباء في أجزاء من إسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إذ شعروا بالتحدي في مواجهة العالم الغربي وكذلك العالم العربي الذي لم يكن بمعزل عن تلك التطورات الأدبية والفنية وفي أغلب المجالات كالشعر والمسرح أو الرواية والموسيقى والتشكيل ، حتى بدأت أغلب الإتجاهات المسرحية الحديثة بالتوجه نحو مصادر جديدة للإلهام الفني بعد أن نضبت الأشكال التقليـدية التقديمية للمسرح الغـربي ، وذلك لم يأتِ من فراغ بــل لأن حداثة الستينات قامت بتدوير مفاهيم التيارات التجريبية والطليعية التي شهدتها العشرينات ، لذلك لايمكن للحداثة أن تبدأ من فراغ مهما كان رفضها الثوري قوياً تجاه الماضي ، بل انها سعت وبشكل لافت وملحوظ الى البحث عن صلة مع التراث والأشكال الشرقية التي أعتمدت كطقوس مفقودة في العالم الغربي ، وهذا مايميز الحداثة عن المعاصرة وعن الجديد ، إذ ان مايُشار اليه بأنه جديد أو معاصر سرعان مايعتريه القِدَم في المستقبل ، لذلك فإن الحداثة راهنية ، ورهان مستمر لكل الفنانين والمبدعين الذين يتسابقون في صراع الإبتكارات والإنجازات وترك البصمة المميزة لما يقدمونه من أعمال فنية تثير الدهشة وتتمتع بالجدّة العالية ، فالحداثة تجمع ثلاثة أزمان في وقت واحد ، إذ تتدفق من الماضي مشيّدة عوالم الحاضر وسائرة نحو أفق المستقبل الواعد بالتحرر والسعادة (6) .

إذ أصبح من العبث أن تقف الفنون والآداب بمنآى عن كل المتغيرات التي طرأت داخل المجتمعات عن طريق الفكر وحداثته التي شكلت منعطفاً حاسماً وجذرياً بالإنتقال من عصر الى عصر آخر مختلف كلياً في كل مايمت الى الإنسانية بصلة شكلاً ومضموناً ، إذ أسهمت الحداثة في توسيع أفق الرؤية وتوكيدها البحث العلمي وترسيخ مكانته في اكتساب المعرفة والإبتكارات التكنولوجية ، كذلك استحداث نماذج مؤسسية جديدة تُعنى بالممارسة الديمقراطية وتأصيل الدوافع الفردية التي تدفع نحو النمو والتطور(7) ، واختلاف النظرة الى العالم المحيط .

ان المنطق الفلسفي أو العقل العلمي لديهما هدفان مهمان يرتكزان عليهما في الفكر ، هما الوضوح والـــــدقـة ، ومناكــفــةً لهذا المبدأ انطلــقت المغايـــرة في الفــــن الحداثــوي لهذه المفهــــومات والمباديء عن طريق الحركات والتشكيلات والأساليب التي ماأنفكت عن محاولاتها في كسر عُرى السائد من الآراء المعرفية التي تنشد ايجاد تعريفات وتوصيفات محددة للفن في خضم التحولات السريعة للعالم ، إذ أخذت هذه الحركات الفنية بمختلف أشكالها محاولة تهشيم المألوف وكسر الأهداف والبُنى المتعارف عليها ، فالحداثة الفلسفية أكدت إعتماد العقلانية مبدءاً مهماً بل مرتكزاً أساسياً قامت عليه هذه الحداثة التي تنشد الوضوح والدقة على مستوى الفكر ، لكن في الفن إختلف الأمر ، إذ حاول السرياليون فصم عُرى هذه العقلانية بتبنيهم صور الأحلام التي يفرزها اللاوعي ، كذلك الدادائيون الذين لجأوا الى الهراء والعبث في معالجاتهم الفنية لشتى الموضوعات والمستقبليون الذين ساروا بخطى شبه ثابتة نحو امتداح التكنولوجيات الجديدة وتمجيدها واعتبارها الهيمنة القادرة على احداث تحولات ومتغيرات في الحياة البشرية وإمكان تأثيرها في الطبيعة الإنسانية ، وليس بمعزل عنهم فإن التعبيريين خاضوا في التأثيرات العاطفية التي من الممكن أن يفرزها الشكل النقي واللون الحاد بعيداً عن أفكار التمثلات التصويرية (8) .

وأيضاً تيار مسرح العبث واللامعقول الذي ساد إبّان الخمسينات من القرن العشرين صعوداً ، نتيجة لفقدان الإيمان والتشظي والتفكك الذي ساد المجتمعات الأوربية لما ارتكبته العقلانية من فضاعات بحق الإنسانية في حربين طاحنتين ، لذلك لجأت أغلب التيارات والإتجاهات المسرحية الحديثة الى الطقوس الشرقية في محاولة لإستثمار تلك الطقوس التي تمثلوها كأشكال جديدة دخلت في عمق الثقافة الأوربية لتعتمل بصورة مثلى في التعبير عن الإرهاصات والأفكار التي توالدت لدى تلك الإتجاهات والقائمين عليها .

حينما بدأ المسرح يتخذ اشكاله الحديثة عن طريق البحث في صيغ وانماط تقديم جديدة لصورة العرض المسرحي ودخول التكنلوجيا الحديثة لكافة مرافق الحياة وانتشار المسارح واتجاهات التقديم المتنوعة وسير المجتمع بشكل كلي نحو مذاهب مختلفة في الحياة المادية التي مالت اليها المجتمعات الاوربية بشكل عام عند بداية القرن العشرين صعوداً ، إذ بدأ المسرحيون والحركات الفنية المختلفة في البحث عن الجذور ومحاولة الوصول الى البساطة او بتعبير آخر الى ماهو روحي بعيدا عن المادية والعقلانية التي أطـّرت اشكال الافراد من جميع النواحي ، فحركة المسرح الطليعي باتت تنظر للفن وطرائق تقديمه نظرة اخرى مختلفة تبحث في ماوراء النظم الاجتماعية عــــن طريــــــق رفض النظام الاجتماعي القائــــــم باللجــــــوء الى فـــن أكــــــثر بسـاطة ( بدائي – غرائبي ) والاهتمام بالموضوعات والاشكال الصينية والافريقية والهندية – الشعبية – كثقافة قومية جديدة من الممكن ان تستـثـيـر الثقافة القائمة في المجتمع الاوربي من حيث انها فن بسيط يمثل تراثا انسانيا اكثر شمولا عن طريق العناصر البدائية المتسقة والمؤكدة على الابداع الفطري ، هذا العالم غير المتشكل وغير المروض لما هو لاعقلاني ولاشعــوري ، وبتعبير آخر حيوية ماهــــو ساذج والتي تمثل حداً مهما في الطليعة (9).

ولعل مشاهدة ارتو بعضاً من الرقصات البالينيزية أثراً واضحاً في تحول الكثير من المدارس والحركات المسرحية من التقليدي الى ماهو عليه في القرن العشرين من تنوع وحداثـة واتجاهات متعـددة الرؤى كلها تقريبا كانت تنهـل من منبع واحد ، إذ يقـول آرتو & لاتتحرك الدراما بين المشاعر ، بل بين حالات ذهنية تجمدت وتحولت الى حركات وصور اجمالية ، إذ يحقق اهالي بالي بمنتهى الدقة المسرح الخاص حيث لاقيمة ولاوجود لأي شئ الا بالقدر الذي يتم اسقاطه على خشبة المسرح &(10). وبالامكان اعتبار هذا اللقاء الحاسم بين ارتو والراقصين البالينيزيين نقطة هامة في مفترق طرق التجريب والطليعة في المسرح الاوربي العالمي حيث سار على نفس المنوال والنهج في البحث عن الجذور والمشاركة الوجدانية والاحتفالات الطقسية العديد من رجالات المسرح الحديث ، إذ انهمك فنانوا القرن العشرين بالبحث عن انماط واشكال جديدة في التقديم المسرحي وبتأثير الحركات الفنية التي ظهرت الواحدة تلو الاخرى كالسريالية والدادائية والمستقبلية وغيرها وبتأثير حربين كبيرتين ، كانت هنالك احساسات بالعدم والاحباط واللاجدوى مماهو تقليدي في طرائق الحياة بشكل عام والمسرح بشكل خاص ، فألتجأ الكثير من فناني القرن العشرين الى السؤال عن الجذور والبحث عنها بشكل مستفيض وهجر النصوص الجاهزة التقديم لخشبة المسرح ، فهنالك مشتركات عديدة جمعت أغلب الحركات والمدارس المسرحية منها التأكيد على الايماءة ، على اعتبار عدم قدرة اللغة في التوصيل للمقاصد العمومية بتأثيرات مسرح اللامعقول ، وكذلك الرقص والارتجال والاقتصاد في الحركة وفي شكل المنظر المسرحي والاهتمام بالملحقات المسرحية ( الاكسسوار) وهجر الواقعية في العرض والأداء وتأسيس نصوص صورية للمســـرح بالاعـــتماد على مصادر جديــــــــدة كلياً أو اعتماد نصوص كلاسيكية وتـــفكيكها من جديد على ضوء المفاهيم الجديدة ، يشترك في ذلك الكثير من الفنانين الذين دأبوا على تأسيس تلك الحركات والمدارس المسرحية وعلى رأسهم غروتوفسكي ومدرسة المسرح الفقير ذائعة الصيت والتي دعا من خلالها الى التخلي عن كل شئ على خشبة المسرح سوى الممثل وتعبيراته الجسدية والصوتية ، وايضا المسرح المفتوح الذي اسسه جو تشايكــــــــن وبحث من خلاله عن تقنيات اخرى لأداء الممثل والاهـــتمام بلغة جديدة للصورة المسرحية ، والمسرح الحي لجوديث مالينا وجوليان بك الذين بحثوا من خلاله تشاركية الفعـل مابين الممثـل والجمهور ، وايضا أريان منوشكين ومسرحها مسرح الشمس وبحثها الدائب عن صيغ جديدة في التقديم لكلاسيكيات المسرح اليوناني واعمال شكسبير وهجرها المسرح التقليدي كفضاء والبحث عن فضاءات اخرى جديدة ومتأثرة الى حدود بعيدة بتقنيات المسرح الشرقي كمسرح النو والكابوكي وتقنيات المسرح الهندي والفارسي نحو اشتراكية الفــن في الفعل المسرحي وفي الحياة بالنسبة لمجموعتها (11) .

وليس بعيد عن ذلك مسرح الخبز والدمى لبيتر شومان والذي يميزه اتصاله المباشر بالناس وتوزيع الخبز عليهم وجعله من الطقس ركيزة لأعماله في التشارك مع الجمهور في الحدث والفعل واستخداماته للدمى متعددة الأطوال والأرتفاعات . كذلك يوجينيو باربا أحد تلامذة غروتوفسكي وبحثه الدائب عن المسرح العضوي او المسرح الثالث الذي يحاول فيه البحث عن صيغ جديدة للأنواع المسرحية للأداء والعرض ، تمثلت في اللجوء الى الجذور والطقوس الاجنبية والاسيوية لأثراء الفعل المسرحي وصولا الى مبدأ المقايضة في تبادل عرض الثقافات مابين طاقمه والجماهير المختلفة التي يحدث الاتصال معها وعن طريقها . وسبق الى ذلك بيتر بروك في البحث عن الجذور وعن الطقوس المسرحية الاولى مما ادى به الى الذهاب الى مجاهل افريقيا للبحث عن الطقوس والاحتفالات والشعائر والشعوذات القبلية من أجل الوصول بالمسرح الى ماهو روحي بعيدا عن ماديات العصر الجدلية . ومايميز طروحات هذه الأتجاهات المسرحية ثوريتها وانغماسها في سياسة العصر الذي كانوا يعيشون فيه وتعليقهم على الأحداث الهامة التي كانت تمر أو مرت في المجتمعات التي يشتغلون فيها أو المجتمعات المجاورة عن طريق توليفهم لنصوص العرض كي تشتمل على العديد من الأحداث السياسية المهمة (12) .

التــقــــنيّة والتكنولوجيا :

انتقل الفكر تدريجياً من التأمل الكيفي الى التفكّر الكمي الرياضي عن طريق التحولات المعرفية الأساسية للعصر العلمي ، بأنتقال العلم من البحث في الماهيات والكيفيات والغائيات الى معالجة رياضية منهجية للطبيعة ، فثقافة الحداثة التقنية أضحت نقيضاً للمنظومة التقليدية للفكر ، إذ تصاعدت هذه الثقافة طردياً في الزمن وبشكل متناسق لعناصر الزمان والمكان تسودها قيم أخلاقية تقوم على التعدد والإنتشار والتسامح ، وتصبح فيها مكانة الفرد متسيدة عن طريق الإنجاز والإستحقاق بعيداً عن قيم الوراثة والإنتماء ، إذ ساد العقل كأساس للقيم العاملة في مضمار التقدم والتغيير والتحرر والتسيير الإجتماعي العقلاني تمجيداً لمستقبل جديد تنشده الإنسانية وتتوق اليه ، ولاتنشغل بالنظر الى الماضي ، فالعلم التقني الحديث حقق تغييرات بنيــوية فكرية كبيرة في كافة المجالات ، وغيّر من علاقة الإنسان بالطبيعة وبالكون الى حدود بعيدة ، وتوالت إرهاصات المفكرين والفلاسفة في اتجاه استشرافهم للتحولات الكبرى التي لاحت بوادرها عن طريق انتشار العلم التقني الحديث ، فما كان يبدو سابقاً سحرٌ وطلاسم أضحى مقدرةً وطاقةً متجددة على الدوام غيّرت وجه الإنسانية من بدائية الى أمم متحضرة بالإنجازات الإيجابية ، على الرغم من الإختلالات التي حدثت في الطبيعة ومن تسخير قوى الدول الكبرى المتقدمة علمياً وصناعياً لإمكاناتها في السيطرة والهيمنة على الشعوب الأدنى تطوراً ، فالعلم لم يعد اليوم ترفـــاً معرفياً بقـــــدر ماهو النموذج الأمثــــــل والأعلى لكل معـــــرفة ممكنة ، وربما أضحى العلــــم الذي قوامه الفكر الحاسب لا الفكـــــر المتأمل ، هو المتسيد في كل الثقافة الإنسانية وعلى مدى عصورها (13) .

ولايمكننا هنا مناقشة الفكر التقني الحداثوي دون الإشارة الى طروحات الفيلسوف الألماني هيدغــــــر الذي اعتبر التقــــــنية جوهر الحداثة والميتافيزيقيا جوهـــــر التقـــــنية إذ خصّ الحداثة بخمسة مميزات أساسية أو ظواهر ثقافية تمهر العصور الحديثة كلها بمهرها وخاتمها وهي (14) :

1- العلم بإعتباره بحثاً دائباً واسقاطاً للتصورات القبلية على الطبيعة من أجل ادراك مفاتحها كمياً ورياضياً .

2- التقنية من حيث هي جوهر العلم ذاته .

3- دخول الفن في أفق علم الجمال ، أي تحوله من واقع انعكاسه لنظام العالم الى التعبير عن الذات الإنسانية المتمتعة بالذوق .

4- النظر الى الأفعال الإنسانية بأعتبارها نسقاً يمثل ثقافة وحضارة .

5- غياب المقدس وحضور التاريخ .

فهو يرى ان الحداثة عصر الميتافيزيقيا الذي يتحدد بموقفه الكائن وبتصوره للحقيقة ، وهو يفرد مكانة متميزة للتقنية ويعتبرها ماهية الحداثة ذاتها ، فالعلم الحديث في جوهره تقني أي انه خاضع للمتطلبات والمقتضيات النظرية والعملية للتقنية ، على ذلك فالعلم تقني في جوهره ، والتقنية اطار الحداثة إن لم تكن هي جوهر الحداثة نفسها ، فالتأمل في ماهية التقـــــنية يقودنا الى فهــم الحداثة من حيث أنها العنصر المحدد لها تحديداً كلياً ، إذ كانت التقنيات القديمة عبارة عن آلات وأدوات بسيطة في يد الإنسان يتحكم بها كيف يشاء ، لكن التقنية الحديثة بفضل قدراتها الهائلة والكبيرة أصبحت وكأنها خارجة عن سيطرة الإنسان وقدرته في التوجيه والتحكم بها ، لقد أصبحت التقنيات الحديثة مجموعة من المقدرات الضخمة التي تخضع لمنطقها الداخلي وتتطور بفعل حاجاتها هي لا كما يشتهي الإنسان ويريد ، بل انها تنفلت منه بشكل مستمر وربما تنقلب عليه ، فالتقنية – حسب هيدغر- ليست هي مجموعة الأشياء والإختراعات التقنية والآلات بقدر ماهي ذلك الموقف التقني ، انها موقف وميتافيزيقيا ، نمط لعلاقة الإنسان بالأشياء التي تحيطه ، ولاتطلق عبارة العصر التقني لأنه يحفل بالآلات وبالتقنيات بل لأن الأشكال التقنية تأخذ دلالاتها من الماهية التقنية للعصر(15) ، إذ يؤكد هيدغر دائماً على أن جوهر التقنية هو ميتافيــزيقيا ، إذ ان هذه الكينونة التقنية الميتافيزيقية شيء لايستطيع الإنسان التحكم فيه ، بل أصبح منبهراً أمام قوة التقدم التقني الذي يحاصره من كل جانب وكأنه شيء مستقل عنه ويتجاوز ارادته .

لقد تأسست ثقافة جديدة في العالم بعنوان ثقافة العلم والتي إرتبطت بها كل التكنولوجيات التي حققت سبل التقدم لتصنع للبشرية جمالية المستقبل الأمثل وتذليل كافة صعوبات المعيشة وإيجاد الحلول للمستعصي من أسرار الطبيعة والكون ، وكل ذلك جرى بصورة واسعة وغير مسبوقة في التاريخ عن طريق تبادل المراكز والأدوار بين العلم كماً وكيفاً وثورة متجددة وبين فكرة التقدم التكنولوجي ، هذا التقدم & يتجسد بعمق في ثقافة العلم ، وتكون المعرفة تفكيراً تقدمياً تراكمياً وكيفياً في مسار ثوري (..) وبما ان التكنولوجيات ترتبط اليوم بالعلم وثقافته ، فالإعتقاد نفسه في التقدم هو التمسك بالعلم وثقافته (..) فالوضع المعاصر الذي وُجِدَتْ فيه التكنولوجيات غير مسبوق من حيث النوع والتعـــــــقيـــــد والإتساع ، وغــــير مسبــــوق بأي شكـــــــل معادل في درجــــــات وأنــــــواع من التحولات الثقافية والإجتماعية والإنسانية &(16) . إذ تغيّرت البُنى الكلية للعالم وزاد هوس الإنتقال من حال الى حال ، ممسكون بناصية التقدم في كل شيء بتأثير العلوم المتدفقة في حقائقها المتسارعة ، حيث شهد العالم إكتشافات واختراعات لاحصر لها وبشكلٍ متلاحق خلال المائة وخمسون سنة الأخيرة .

لقد بدأت الدراسات الجمالية التمييز والفصل بين شكلين من الإنتاج الإنساني يخص الموضوع الجمالي والموضوع الصناعي أي الإنتاج الفني والإنتاج الصناعي لأن الغاية من الأول هي اللذة الجمالية بينما تكون المنفعة هي خيار الإنتاج الثاني ، ومع التقدم والتتابع المستمر للتكنولوجيات المعاصرة بدأت الفروقات تضيق مابين ( الفني / الصناعي ) خاصة عندما ارتبطت الجمالية بالتكنولوجيا عن طريق المادة الفنية الوسيطة إذ أسهمت الوسائط الجديدة في تطوير قطاعات مهمة مثل الطباعة والإستنساخ للأعمال الفنية وشرائط الموسيقى والسينما ، وساهم ذلك في انتشار الأعمال الفنية بشكل واسع إستهلاكياً ، وقد أدى الى خوض مضمار النقاش والجدل بين فئتين احداهما يمثلها أدورنو الذي يجد في الندرة والتفرد الأساس للإنتاج الفني ، وثانيهما فالتر بنيامين الذي يجد في التكنولوجيا وسيلة لتعميم الإنتاج الفني على المجتمع (17) .

تبعاً للعلاقة المستحدثة بين الفن والتكنولوجيا عند بنيامين فأن وظيفة الفن قد طرأ عليها تغييرات فبعدما كان الفن مرتبطاً بالدين والأيديولوجيا في العصور الماضية أصبح مرتبطاً بالسياسة وبمساعدة أجهزة الإتصال والنسخ الحديثة ، كذلك فأن طروحات أدورنو بشأن الندرة والهالة التي ينشدها للعمل الفني فأن فيها نتيجتين اثنين : الأولى سلبية لأنها تُحدث إفقاراً للتجربة ولايراها الا القلة القليلة بناءاً على التقاليد الفنية ، والثانية إيجابية لأنها تيسّر تسييس الثقافة ودمقرطتها ، لذلك فأن ظهور أشكال جديدة للفن يبيّن عدم تعارضه مع التكنولوجيا ولكن الفن نفسه كفكرة تاريخية كانت عرضة للتحولات ، لذلك نجد بنيامين يعرّف العمل الفني في ثنائية إذ يضمّنه قيمة سحرية وفي الوقت نفسه قيمة استعراضية (18) .

ان التطور الكبير الحاصل في مجال التكنولوجيا قد أثّر إيجاباً في الحقل المسرحي الى حدود كبيرة ، إذ مهّد الطريق لأكتشاف طرق وآلات وإمكانيات جديدة في التقديم الإبداعي والخلق الفني ، إضافة الى تحسين ظروف التلقي ، إذ أصبح بإمكان المُشاهد أن يرى العرض المسرحي في ظروف انسانية أفـضل في ظل الإمكانات والتجهيزات الحديثة للمسارح وعلى كافة الأصعـــــدة مثل الصوت والصورة والمسافة وبما يتوائم مع روح العصر (19) .

قام البعض من الباحثين بإدراج التقنيات التكنولوجية التي شهدتها المسارح في العصور الأولى من تطوره في خانة التقنيات السهلة والبسيطة ، أما ماجرى لاحقاً من تطور تكنولوجي في المسرح الحديث فهو من النوع المعقد ذي السرعة والإيقاع الشديدين ، حتى أنه أصبح من الصعب مواكبته ومجاراته من قبل المسارح الصغيرة والمتواضعة ، إذ أصبحت التكنولوجيا هي الأداة الرئيسية التي تستطيع تحقيق الأحلام الفنية والخيالات والرؤى التي يحلم بها المخرج المسرحي والسينوغراف ، إذ أصبحت التقنيات الحديثة في جوهرها تحقيقاً لخيالات ورؤى المسرحيين الأوائل ممن كانوا يسعون الى تجديد المسرح شكلاً ومضموناً (20) ، فالتكنولوجيا هي العصا السحرية الآن لما تستطيع تحقيقه من خلق عوالم سرمدية حلمية كانت خيالاتها تشابه السحر أحياناً ، إذ أن العامل الغالب في القرن العشرين هو نهضة التكنولوجيات الكبرى والراقية فقد كانت الفترة المبكرة من العلم الحديث مسبوقة ببداية الرحلات حول العالم واكتشاف العالم الجديد ، ونهضة العلم بوصفه معارف متميزة مصحوباً بعصر الآلة في الثورة الصناعية ، بينما يشاهد القرن العشرين العلم وقد أصبح علم تقنية ( Technoscience ) بشكل مكتمل ، حتى أصبح علم التقنية هو المحرك الذي يقـود التكنولوجيا الحـديثة ، ويطورها على نحو متميز عن أيــة تكــــنــــولوجيات تقـليدية أو قديمة (21) .

ان بوابة التطور التكنولوجي قد انفتحت على مصراعيها في المائة سنة الأخيرة من عمر العالم عبر العديد من العلماء والمفكرين الذين نذروا أنفسهم في سبيل تقدم البشرية الى مراحل علمية متقدمة ومن أجل فرض السيطرة المنهجية على الطبيعة وفك الشفرات والطلاسم الكونية ، ولقد كان غاليلو من أوائل الأوربيين & الذي جعل العلم متجسداً تكنولوجياً ، وفي استخدامه للأدوات والآلات لإجراء التجارب ولم يكن غاليلو متأملاً يونانياً ولكنه كان نموذجاً حديثاً لعلم التقنية &(22) . لقد دأب على تصميم واختراع آلات ومعدّات حديثة لقياس أبعاد الكون وكيفية تشكّل العالم ، وهذا لم يأتِ من فراغ وإنما بالتفكّر المستمر في أبعاد الطبيعة وأسرارها ومحاولة ترويض مدياتها التي كانت غامضة وعصية على الفهم ، وكل هذا جاء من الخيال الواسع المتأمل في الماهيات والمتحول من فعل التأمل الكيفي الى الجانب المنهجي والرياضي ، إذ يشير وايتهيد في كتابه العلم والعالم الحديث بأن & السبب في كوننا على مستوى من الخيال الرائع لايرجع الى اننا لدينا خيال متوهج ، ولكن لأننا لدينا آلات جيدة ، والشيء الأكثر أهمية في العلم الذي حدث في الأربعين سنة الأخيرة هو التقدم في التصميم الآلي أو الأداتي &(23) ، وأصبح خيال العلماء والمفكرين مصحوباً بجودة مختراعاتهم مما أدى في المحصلة الى حصول البشرية على الرفاهية التكنولوجية التي تسببت بالسيطرة الكاملة على الكون والطبيعة الى مديات كبيرة .

هذا التقدم في التصميم وفي المستوى المتطور للآلات جاء بفعل التفكير الإنساني المتميز الذي يحاول السعي الدؤوب لأجل سعادة الإنسان بأستخدام المعرفة ، ولقد ابتدأ الإغريق ذلك الفعل من أجل تطوير آلات الحرب خاصتهم وأيضاً آلات وأدوات المسارح التي كانت على قدر كبير من الأهمية لديهم ، وهم لم يكونوا يتمتعون بمهارات تكنولوجية أو هندسية متطورة أو ضخمة إذ أنجزوا عدداً من المخترعات المرتبطة غالباً ، كما أسلفنا ، بالحرب وبالمسرح مثل آلات رفع الآلهة وخفضها وتطييرها في الفضاء ، وكانت غالباً معظم رؤاهم التكنولوجية مرتبطة بالإحساس الجمالي لديهم (24) .

لكن مايود الباحث التأكيد عليه هو أن هنالك وللوهلة الأولى تقاطعاً فكرياً وعقلياً مابين التصورات الفلسفية عن التقنية وماتصدره هذه التقنية من هيمنة وسوء وسيطرة ومابين عظمة الإكتشافات التكنولوجية التي يسرت سبل الحياة الإنسانية بأتجاهات الرفاه والحضارة والمدنية ، ومن الممكن التوصل الى ان المخاوف التي طرحها البعض من الفلاسفة والمفكرين تجاه القدرات الكبرى للتقنية المهيمنة على عالم اليوم فيها جانبين أحدهما السلبي الذي يتمثّل في تصدّر مشاريع السيطرة والهيمنة التقنية على العالم وتسييره وفق مشيئة الدول الصناعية الكبرى ، بمعنى تصدير الحــــــــروب والكوارث والأزمات الإنسانية الى الشعــــــــــوب الأدنى تطوراً ، وهذا نوع جديد من الإستعمار يتمثــــــّـــل في السيطرة على اقتصاديات تلــــك الشعوب مثلاً والجانب الآخــــر هو الإيجابي الذي يتمثّل في الوجه المشرق للمخترعات التكنولوجية للتقنية التي أسهمت في تقدم مسيرة البشرية تجاه تفكيك أسرار الكون ومعرفته وتيسير سبل العيش فيه وتحقيق رفاهية المجتمعات الإنسانية ، إذ أسهمت التكنولوجيا المتطورة في اعلاء الجانب الفني للتقنيات المستخدمة في المسارح المختلفة في كل دول العالم ، إضافة لتطوير مختلف قطاعات الحياة الأخرى .

التقنيات والفكر والخيال ..

يُعَبّر المسرح على الدوام عن سعي دائب للمعرفة بأستيعابه مجالات حية واسعة أمام حركة الفكر أو الصورة التي نتخيلها عنه ، فالمسرح المعاصر ونحن على أعتاب الألفية الثالثة تبدو فيه بعض التيارات وهي تتأمل وجهي العرض المسرحي وتطرح أسئلة : ماهو العرض ؟ هل هو نقل أم إنعكاس أو ترجمة أو كشف أم بناء ؟ انه كل هذا وذاك لأنه يمنح الحضور لشيء ما ، بناء في الزمن يشير الى الفكر الذي يعد وينظم معرفة العالم الذي أمامه أكثر من اشارته للعالم الخارجي ، فمنح الغياب حضوراً معناه استحضاره في فكرنا بواسطة أعيننا ، فالعتبة التي يجب تخطيها حالياً ليست في اللجوء الى التكنولوجيا بل في النظر الى ان العالم قد تغيّر من حولنا ومعه طريقتنا في التفكير ، علينا أن نفهم ان مسرح الصور له صفات مشتركة مع الكتابة الديناميكية التي ابتدعها الفكر والخيال الإنساني الخلاق بأستخدامه التقنيات الحديثة ، فالتكنولوجيا تقوم بوضع البنية الأساسية لقطاع كبير من الإبداع المسرحي المعاصر بغض النظر عن جوانبها الإعلامية ، ويبدو ان ثمة اتجاهات جديدة في المسرح تستند على الخيال والمحيط التكنولوجي الذي نعيش في وسطه ، اتجاهات تنحو بمسار الأداء الحر السلس ، والبناء على شكل مقاطع ولاسيما البناء المتحرك فاتحةً بذلك مجالات الإبداع والمعرفة (25) .

أن تجعل من الصورة وسيطاً حاسماً في الوصول الى العالم اللامرئي حيث لاوجود للكلمة ذلك هو المسرح البصري ، عالم الفكرة المحسوسة التي لا تــثـــقـــل نفسها بقيود تقليدية ، ومن الممكن اعتباره مسرحاً سحرياً حاول التحرر من المعنى المحدد وانفتح على أفق التأويل من خلال الحواس المتعـــــــــددة إذ أفسح المجال لعناصر المسرح في أن تأخـــذ دورها كعلامات أبجدية للكتابة ( أشكال بدلاً من كلمات ) وهنا يبرز مبدأين في طريقة العمل : الأول يشير الى ركيزة من ركائز عمل الصورة التي هي عبارة عن تجميع وتركيب ( الصورة اقتراح بصري يجمع بين معطيين مختلفين : سطح وآثار ، أشكال أو بصمات متجمعة على هذا السطح ) والثاني يتعلق بأساس الفكر المبني على مونتاج ، وبطبيعة الحال نحن هنا أمام طريقة جديدة للكتابة تتيح لنا الرؤية على مرتكز فضائي ( سطح ثلاثي الأبعاد ) ( الصورة ) وليس سطح مستوي ثنائي الأبعاد ( مرتكز ورقي ) فالكتابة المسرحية الجديدة تحاول مداهمة فضاء العرض لأنها تمزج عناصر مختلفة وغير مُتَوقّعة بقدرتها الفائقة على انتاج التحولات اللامألوفة والتلاعب بخزين الذاكرة وكذلك الأشياء الملموسة المتاحة ( عناصر / مصادر ) إذ ان مسرح الصورة يبحث في شيفرات المرئي في اللحظة التي يُراد بها إرساء طريقة إبصار جديدة ، مشاهدة جديدة ، متحررة من قيود المحاكاة التقليدية ، إذ انها ( تتيح / تنتج ) تجربة التجانس الديناميكي لعناصر مسرحية مستمرة في عمل في طور التشكّل والبناء قريب من الحلم وقريب جداً من حركة الفكر الإنساني المتقد (26) .

ان محاولات خلق التأثير والتأثر مابين العرض المسرحي والتكنولوجيا الجديدة في السنوات الأخيرة تُعَــدْ جزءاً من تحــــدٍ مركّب واسع المدى ، تحـــدٍ جمالي للألفية الجديدة ، إذ تتقدم التكنولوجيا ليس بصفتها وسيلة جديدة للأتصال فحسب وإنما كأداة لتحديث نمط وطريقة التفكير في الوسائط المتعددة الموجودة بالفعل على ضوء المكان الجديد للحدث الفني (27) ، فالمنجزات العلمية تغيّر من اسلوب تفكير الفنانين لكن رغم ذلك تنبعث الروح للعرض المسرحي مع نظرة المشاهد وتمنحه إحساساً بأنه يلتقط اللحظة العابرة للإبداع أو يشاهدها ، فالعرض المسرحي & الذي يُعـَـــــد أعمق أشكال التعبير الفني تأثيراً وحِـــدّةً وكثافة (..) إذ يتوسط بين الشعر والتاريخ ليتيح لنا داخل مجرى الزمن لحظات معينة نتأمل فيها كل ماهو خالد أبدي (..) إذ أن جوهره يظل العرض الحي والتلقائية &(28) .

ان الإطار المسرحي بكل مافيه من آلات ومعدّات تكنولوجية يمكن استخدامه بوصفه ركيزة لتفعيل منطلقاتنا الفكرية فإدراكنا للتكنولوجيات ودورها المؤثر يعمل على تجديد تلك المنطلقات وتدريب الفكر مثله مثل ممارسة الفن نفسه إذ لابد للتكنولوجيا من أن تثير حركة للتأمل والدراسة على ضوء مايعتمل داخل فكرنا من تغيير وارهاصات جديدة تبدو للخيال كمحرّك توربيني هادر ، فالمسرح يحفّز برؤى جديدة الحوار الذي ينشأ بين الذاكرة والخيال بواسطة الأدوات التكنولوجية المتطورة ، إذ يتسنى لكل مشاهد أن يبني عوالمه الخيالية الخاصة من خلف الجدار الرابع الوهمي وفيما وراء صور العالم المشيّد أمامه أو الذي يعاد تشييده على خشبة المسرح بواسطة أدوات وعناصر وآلات قــــــــــادرة على تحسيـــــن صورة الإيهام البصري وهي آخـــذة في التطور من جيل الى جيل ، إذ أصبح المسرح خلال السنوات الأخيرة مكاناً للتعبير المرئي عن الفكر ، تجديد مذهل أو ثورة مسرحية سادت ضمن اضطرابات القرن العشرين من ضمن عدة من التحولات التي شهدتها ميادين كثيرة عدا ميدان المسرح ، إذ تسببت أزمة أساسيات المعرفة في اضطراب النُظم العلمية والفلسفية والأيديولوجية ، ويبدو ذلك جلياً لأختلاف طرق تعبير الفنون المعاصرة التي ماعادت تنتمي الى رؤية حتمية ووحدوية للعالم ، فالتعدد والتنوّع في التجارب التي دأبت على مغادرة واقع المسرح التقليدي فتحت الطريق واسعةً أمام الإتجاهات المميزة الجديدة للكتابة المسرحية المعاصرة ، مسرح الصورة أو المسرح البصري أو مسرح الرؤى ، فكل هذه المسميات تؤكد هيمنة الصورة بواسطة علامات الكتابة الخاصة بها ( الإضاءة ، الألوان ، الحركة ، الجسد ، الإيقاع ، الأصوات ) وكلها عناصر تشكّل أبجدية من نوع آخر يمكن تسميتها بأبجدية كتّاب الرؤية المسرحية (29). ان التقنيات السمعية والبصرية تمثّل بُعداً جديداً في التطور الإنساني ومؤثرة بشكل واسع ومباشر على ( الفكر التأملي ) إذ أصبح موضوع الفكر هو ذاته موضوعاً للتصوّر ، فإدخال هذه التقنيات قد تسبّب في قلب المفاهيم رأساً على عقب ومنها الكتابة الدرامية التي أعيد تسميتها بالكتابة المسرحية التي تجعل من إدراكنا متغيّراً وفق المحيط التكنولوجي الذي نعيش فيه والتي يشير اليها المسرح المعاصر ولايُقصد بذلك استخدامنا الأجهزة التكنولوجية ( حاسبة ، فيلم ..الخ ) ومثلما قال هيدغر أن جوهر التقنية ليس سوى شيء تقني ، معطى ميتافيزيقي ، إذ ان ماهو تقني في الأساس ، وفق ذلك ، هو نظرتنا للعالم ، التقنية في الأشياء ، في الآلات ، لكنها أيضاً في طريقة رؤيتنا للأشياء بشكلها الميتافيزيقي (30) .

فالعمل الفني لديه قوة التأثير في ( الإنسان / المُشاهِد ) لما يمتلكه من طاقة في ابتكار نُظُم متحولة ، حتى ليستشعر الفرد أن علاقته بالمجتمع قد تجددّت وانه قد تغيّر ، تبدّل بفعل هذه القوة المؤثرة ، ففي داخل الأعمال الفنية توجد قوة المقاومة الفنية الأكثر فاعلية أمام قوة الرأسمالية التي تعصر الذاتية أحادية الأبعاد ، والنمطية والتمييز وعدم الإلتفات تجاه الإهتمام بالآخر ، فالنموذج الفني هو نموذج الإبتكـار وتحــــفيز المدركات الحسية والمشاعر الخـــفية المتحــولة وهو الشكل الممكـن للإنعتاق والتحرر(31) .

ان الحركة التي من خلالها ينعكس الفضاء والصورة داخل العين في علاقة تُبنى مابين النظرة والتصوير فإنها تنعكس في الوقت نفسه داخل الفكر والفكر ينعكس فوق الخشبة ، انها مسيرة ورؤية جديدة للعالم ، إدراك الأشياء داخل العين ، تصوّر العالم الذي يولّد الشعور بأمتلاك صورته داخل الفكر ، هذا الإمتلاك يفسح محاولة اكتشاف منظور محدد يعطي معنى لما نرى ، فمسرح الصورة يفتح آفاق جديدة ، غير نمطية ، متغيرة المناظر ، أشياء مولدة للنشوة تثير العقل بواسطة الفوارق التي يستشعرها ويتنقل من واحد الى آخر ومن علامة الى علامة أخرى متحولة ، هذه الفوارق يميّزها العقل الخلاق الذي يُدخل تركيباته العملية عليها في التصحيح والتعديل ويمزج فيما بينها لغرض تحويلها من مرجعيتها الأولى بأتجاه أهداف جديدة بعد كل التحولات التي طرأت عليها ، وتلك التحولات تتيح تغييرات وتحولات أخرى غير متوقعة ومحيّرة وساحرة في الوقت نفسه لهذا النوع من المسرح ، مسرح الصورة أو مسرح الصور(32) .

كل هذه التصورات تعود لقوة العقل ومقدرته على التخيّل ، التحفّز بأتجاه قراءات ابداعية جديدة فوق خشبة العرض ، فالمرتكز الأساسي للمسرح لايتعارض مع التخيُّل ، تلك القوة الخامدة والمتوفزة بنفس الوقت ، الشيء الوهمي القوي والخلاق ، بل ان المسرح يتغذى على هذه القوة لدرجة جعل المُتَخَيَّل ملموساً ، بتحويله الى حقيقة أخرى حساسة ، وذات معنى ، لكن الشيء الأهم انها تنبع من تجربة انسانية مشتركة حقيقية بين الفاعلين والمستقبلين في ذات الزمان والمكان (33) ، وهذا هو دور المسرح الحديث الذي يحوّل المعطيات الشعرية والكلمات الدرامية الى صور حيّة متحركة تعبّر عن الأفكار الجمالية النابعة من الأصالة لتعبر حدود المعرفة المجردة نحو المعرفة الذهنية وتطوير الخيال لدى المتلقي لكي يحس بمتعة وفائدة التلقي لذلك العرض المليء بالصور الجمالية .

* الوسائط والميديا والمسرح ..

في المعرض المسرحي التشكيلي سجادة حمراء ..

نحاول من خلال هذا العرض ابتكار شكل تقديمي جديد تُسهم فيه مختلف الفنون مع وسائل الميديا في خطوة لإستثمار الفكرة الفلسفية والتحليق بها في فضاءات مغايرة من طرق التقديم الفني حيث من الممكن لنا تبني المشروع الجمالي الحداثوي الذي ساد الفنون في العالم على مستوى الفكر وعلى المستوى التقني ، لمغايرة المألوف وكسر البنى التقليدية لأعراف العرض المسرحي التقليدي وتبني سياقات وطروحات فكرية فلسفية تحاول الخروج الى فضاءات الإبداع واثارة الدهشة الممكنة عن طريق توليد مشاهد عرض مسرحية ( أحد عشر مشهداً ) يكون سياق تقديمها فضاء المعارض التشكيلية بإستثمار المكان والشكل اضافة الى امكانات السينما ووسائل العرض التقنية الحديثة الى جانب وسائل الميديا ، انه عرض يشابه الكولاج بكسره الحدود بين الفنون ، إذ نقوم بمزجها مع بعضها البعض للولوج في منطقة حسية وفنية جديدة والإبتعاد عن نمط التلقي المتعارف عليه في المشاهدة المسرحية أو مشاهدة المعارض التشكيلية حيث يسهم حضور المتفرج بصناعة أكثر من مشهد ، أي أن المشهد لايكون مكتملاً الاّ بوجود المتلقي فيه ليكون هو نفسه موضوعة الحدث في صياغة المشهد وبذلك نغاير شكل التلقي بإسهام المتفرج بحضوره فيه الذي سيكون فاعلاً وليس سلبياً.

اننا نعيش وسط عالم من المتغيرات السريعة ولابد لنا من الإسهام فيها بشكلٍ واعٍ لا أن نكتفي بالفرجة عليها ودراستها نظرياً وحسب ، المساهمة العملية في هذه المتغيرات الكونية تثبت وجودنا الفني والإنساني لنقول اننا هنا واننا لدينا القدرة على مجاراة الإرهاصات العالمية للحداثة ومابعد الحداثة ونحاول اجتياز حدودهما مع بعض . يمتاز هذا العرض بإحتواءه على أحد عشرة لوحة مسرحية تقدم بصيغة المعرض التشكيلي ، حيث يدخل المتفرج متجولاً في قاعة المعرض بمروره على هذه اللوحات المتحـركة التي تعمل في وقت واحد ، وللمتفرج حرية اختيار الزمن الذي يريد ان يتفرج من خلاله على كل مشهد وصولاً الى المشهد الأخير الذي سيكون المتفرج فيه هو النجم إذ نستثمر حضوره ليكون فاعلاً بمساهمته في الظهور عن طريق وسائل الميديا وإبداء رأيه بالعرض الذي شاهده .

لكل مشهد عنوان يتماهى مع فكرته الفلسفية وتجسيده الفني وعناوين المشاهد كالتالي وليست بشكل متسلسل :

1/ سيلفي .

2/ حكاية .

3/ تحولات .

4/ حياة .

5/ سكيتش .

6/ هذيان .

7/ ملامح .

8/ اثارة .

9/ توازن .

10/ تهجير .

11/ سجادة حمراء .

ويتحدد زمن كل مشهد بدقيقتين أو ثلاثة دقائق تتكرر على مدى ساعتين تشكل الزمن الكلي للعرض .

وعن مداخلته النقدية لهذا العرض – المعرض كتب الدكتور رياض موسى سكران دراماتورج العرض قائلاً :

( بـــدءاً ، ستستفز المتلقي هندسة الكيان السينوغرافي التي تشكل اليوم عنواناً للعرض المسرحي الحديث ، وستقتحم فضاء ناظريه غرابة هذا الكيان المشفر.. وتعد أدوات الشروع هذه إرهاصاً ، ثم نظراً ، ثم تتبعــــــــــــــــــــاً .. ليستدرج المتلقي عطر التكوينات الأولى & بعد فخ العنوان _ معرض & , حيث انطلاقة المعرض التي تأخذه الى واحة غامضة ضاجة مثيرة بجغرافيتها ، وهفو خرافي يسوق المتلقي كالحالم كالمخدر كالمأسور كالمهووس كالجائع جوعاً شهوانياً ، وضمن حدود هيمنة التداخل اللحظوي سيجد المتلقي نفسه مستلاً من ما حوله , ليسمع أصواتاً تقطع عنه خيط التواصل المكاني الماثل & الصالة & ، منقاداً تحت تأثير غواية الفضاء السينوغرافي ، فإذا بالمعرض احتفاءا كرنفاليا برحلة تكرسها تمازجات عناصر المعرض التي تزج المتلقي في تفاعل ذاكراتي لكل فنون العرض, يميط من خلاله اللثام عن الأماكن والأحداث ، وبدل أن يلاحقه المعرض بفحواه ويرهق ذائقته ، فانه سيجد المبتغى سائراً يبث الرغبة في التتبع ، فيلاحقه المتلقي بنزوعه ، ويدعوه للتماهي مع رفقته ، فيما يحفز فيه إرادة خلق حثيث ، متواصل ، فلا يدعو الى القراءة المجردة ، بل إنه يرفض جعله قارئاً حيادياً ، وهو لا يبغي أن يجعله كمن يقف أمام لوحة على جدار يسقط عليها نظره لأجل متعة آنية وعذوبة تزول سطوتها حالما يخلفها & أي اللوحة & وراءه )(34) .

وفي قراءة نقدية مغايرة كتب الدكتور شاكر عبد العظيم عن لوحة تحولات بما يلي : (  الالوان تطيح بالالوان ، اللون يهمش اللون ، هيمنة لون على الفضاء / اللون الاحمر ، يليه الاسود ، ثم لون تضائل عبر ساق كرسي مغاير وحيدة ، كرسي اسود في فضاء احمر ، وتلك الساق الوحيدة هي الجاذبة ، المائزة ، هي اطاحات لونية ، صراعات لونية ، تشاكل بصري ، ابراج انارة كما ابراج ملاعب كرة القدم ، هيمنة صورية /بصرية صادحة ناسفة لآلية تلقي لوحة مسرحية مقرور ومألوف ، بل هو تسوق لوني عبر درامية غير حاضرة / محسوسة عبر صورة / صور متوقفة الا من الضوء . تسوق بصري درامي محسوس ) وعن مجمل العرض قال (  ان معرض جودي يشكل انفتاحا كونيا جعل من محتويات هذا المعرض انسانية عبر همومه التي طرحها ، فقد تخلص من اسر اللغة المسرحية التي امتلكت معجميتها التي نعرفها واسسها التي حاولت فرضيات مابعد الحداثة الاطاحة بها من خلال حضور الجسد / الحركة / الصورة ، وحتى هذا فقد حاول جبار الفرار منه الى لغة سياحية منفلته قابلة للتسوق والتسويق في اي مكان وزمان ، لانه اذا ما شاهد العرض اي سائح عربي او اجنبي فانه لن يحتاج الى فك شفراته او التبضع منه الى من يترجم له المعروض ، لان معرض جبار جودي يمتلك لغته الانسانية التي لا تموضع ذاتها في لغة بعينها ، بكل تشظيات العرض/ المعرض ، وغياب وحدته المركزية ، ولا جذريته ، بكل فوضاه المتناغمة ، وتناقضاته وتداخلاته ، وانفتاحاته اللامنتهية ، بتهشيمه لحواجز التلقي ، يعلن معاصرته ومغايرته لما بعد اللامألوف ، فالمألوف هو المسرح الطبيعي حتى زمن الحداثة ، واللا مألوف هو التحولات الكبرى في العرض المسرحي والإطاحة باطر وأسس الحداثة واديولوجيتها وذاتيتها التي اشتغلت على تفعيل الصورة المسرحية واليات الجسد لكن ما بعد اللامألوف لدى جودي هو عدم انتماء فضاءاته الى كل هذا ، فهو يؤسس لعرض مسرحي بطريقة ستحمل تحولاتها للتغيير في العرض المسرحي ، ولكن اوجه اليه السؤال هنا ، اذا ما خرج اليوم الى معرضه الشخصي فعليه غدا ان لا يتراجع الى نفس العرض بل ادعوه الى البحث عن مغايرة جديدة كي لا يعلن توقفه في هذا المعرض وينتهي الامر ، فهو في معرضه المسرحي يمنح الحرية الكبيرة عبر التكرار لمدة ساعتين متواصلة ، والحرية تكمن في قبول المتلقي / السائح  في قبول لوحة ورفض اخرى ، في مشاهدة التكرار او عدم التواصل معه ومع كل هذا فهو سيمتلك رأيا يطرحه ما ان تطأ قدميه سجادة العرض / سجادة المغادرة للمعرض المسرحي ، فلقد صنع هذا العرض اضافة الى ذلك متلقيا من نوع جديد مر ذكره & المتلقي السائح / المتبضع / الجوال / المتجول & فنحن في &مول& مسرحي . تمت صناعته بوعي وقراءة للمسرح بكل اشكاله ، ليظهر لنا نتيجة تلك القراة هذا المعرض المسرحي ، الثقافي المتنوع في فضاءاته المتعددة والملونه بطروحاتها التشكيلية ، ذات الشتات الصوري ، الجامع للتناقض والمختلف ، ومن باب اخر للمترابط المتآلف )(35) .

  وعن هذا العرض – المعرض كتب الدكتور ماهر الكتيباني : ( سجادة حمراء ليس عرضاً مسرحياً بل معرضاً أدائياً شكلت فيه السينوغرافيا سلطتها ومحدداتها في الثباث والتحول فرضت ارادتها على المتلقي وسرقته داخل عالمها ونسيجها ليكون لوناً ذائباً في خطوطها ، هي لوحات تشكيلية ثلاثية الأبعاد وإن توافرت فيها مقومات مساحة البث وخيوط التلاقي العضوي مع ذائقة المتلقي ، قد أنتج صانعها فكرتها التي حددت خطابها المتزامن ، وان البيئة المثلى لتمايزها سريالية الروح بوصفها تشاكلت في بيئة مكانية تفاعلية مؤسلبة ، تمتاز سجادة حمراء بتفردها وتميزها ومغايرتها وحضورها الحداثوي الذي يفصح عن فنون أدائية متقدمة ومبتكرة )(36) .

أما الناقد والشاعر حسن عبد الحميد فقد أشار الى سجادة حمراء بما يلي :

( لقد أسهمت الصورة المقترحة والمعدّة في موائمات قراءتها للواقع بفحص مفرداته، في إنتاج وفرة من معان ، ومجموعة من إستجابات متفاعلة ومتوافقة من حيث وحدة الموضوع وتساميات الهدف المركزي والرئيس لهذا العرض وتوريداته البصرية وتداخلات لواحقه من رسم وسينما ومسرح ومصدات لإختبارات نفسية ، في فضاء حرّ ومحسوب ، تحسبه – من فرط كثافة ووفرة إنتاج المعنى الذي سعى إليه جودي- لم يعد مكتفيا بخشبة واحدة تدور عليها إنثيالات تلك الهواجس واللوامس والظنون ، بل أقترح مخرج العرض وصانعه إستبدال الخشبة التقليدية بصالة ذات فضاء خاص أفاض بتوالد عدة خشبات ، هي محددات وعوازل مرئية لأماكن جرى عليها تباري مشاهد حيّة بنوابض ومتممات برعت تزيد من قيمة التفاعل ما بين المتلقي ونتائج تلك القراءات المتعدّدة والمتحركة في ميادين ومرامي مهام التأويل والتناظر الضمني للخواص الجمالية ، وبسجادته الحمراء يكون جبار جودي قد وضع نقطة بدء ومثابة إجتياح كبير لما يعرف- اليوم- في العالم بفن ما بعد الحداثة في تأريخ المسرح العراقي من خلال دقة ونبوغ ما قدم ومن فرط دهشة ما أقدم على الخوض فيه بجرأة نادرة ووعي مركز، من خلال عمل واسع الرؤية متعدد الجهات مبتكر بخوالص سعيه ونبل مقاصده وبحاصل جمع كل هذه الفنون & مسرح ، سينما ، موسيقى ، تشكيل- رسم ، فوتوغراف ، أزياء& فضلا عن حوافل أخرى من نواتج وذروات فنون  متواشجة ومجتمعة مع بعضها على مساحة تلك السجادة التي خط عليها عذابات ومحنة وطن بات يأنّ جراء ما يحيط ويحدق به من ظلم وغل وخراب ، وطن لا يريد له جودي في أن يسير الى الهاوية مع رهط من مجموعة مثقفة ، مثابرة ومتطلعة في مقدرة تحدّيها ومواجهاتها الإبداعية لدرء كل آثار الدمار بالممكن واللازم من قيم الخير والتسامح والجمال ، وبما يشاغل متعة البحث وعراقة الجدوى وثوابت الجد الإستثنائي في هذا المفتتح الجمالي-الفكري الذي أبتكره جودي وهذا الإنفتاح والتناسق المرهف المُعد والمرسوم وفق متواليات خبرة محكمة وإستعدادات ذهنية متقدة )(37) .

وقد كتب الناقد الدكتور صميم حسب الله عن سجادة حمراء قائلاً :

( إن إعتماد المخرج – السينوغراف على تقطيعات مكانية داخل فضاء العرض أسهم في خلق تشكيلات بصرية مستفيدا من توافر العرض على تقنيات متنوعة أسهمت في إلغاء الحواجز بين الفنون بما يتفق مع تقنيات مابعد الحداثة ، وقد بدا واضحاً ان المخرج أفاد من تقنيات السينما ، والبرفورمنس ، والإعتماد على عناصر بصرية في الكشف عن الشخصية الدرامية ،  التي يأتي في مقدمتها توظيف الألوان في الأزياء ، والإكسسوارات التي أسهمت على نحو فاعل في التعبير عن افكار العرض ، على الرغم من إختزال الاداء التمثيلي على نحو واضح بما يسنجم مع الطروحات البصرية التي إعتمدها المخرج ، بمعنى آخر فإن تنوع المشاهد البصرية أسهم في إنتاج متوالية فكرية كشفت عن معنى منسجم وقائم على مبدأ السبب والنتيجة على وفق فرضية بصرية  أسهمت الإشارات التي إختارها المخرج داخل فضاء العرض في التأكيد عليها )(38) .

* الهوامش :

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *