الدمية “سيروجا” ينجح في إعادة الجماهير إلى مسارح سانت بطرسبرغ / أمير فريك #روسيا

في الفترة التي تنتشر فيها الملتقيات والدراسات والمحاضرات الإفتراضية، والتي تناقش مُعضِلة هجرة الجماهير المسرحية للعروض في زمن الجائحة، شهد الـ 27 والـ 28 من شهر نوفمبر الماضي، على خشبة مسرح البولشوي للدراما بسانت بطرسبرغ – روسيا. وفي إطار الذكرى السنوية لمهرجان “القناع الذهبي” (Golden Mask)، الذي إنتهى بتتويج عرض “سيروجا” (Seryozha) أو “سيرچي” (Sergey) بجائزتين: أولهما جائزة أحسن إخراج من نصيب مخرج العرض “دميتري كريموف” (Dmitry Krymov)، وثانيهما جائزة أحسن دور نسائي للممثلة “ماريا سمولنيكوفا” (Maria Smolnikova). وَقْع حدث إعادة عرض “سيروجا” -مسرحية من إنتاج مسرح موسكو للفن- أمام حضور جماهيري صاخب، أَبى إلا أن يعبر عن رأيه بالمشاركة والإحتفال كرّدة فعل عملية في مواجهة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العالم، والتي فرضت قيوداً لا يستحسنها المسرح ممارسة ومتابعة.

إستقام بناء أحداث العرض إنطلاقاً من ثلاث مصادر أدبية هي: رواية “آنّا كارينينا” لـ “ليو تولستوي”، ورواية “الحياة والقدر” لـ “فاسيلي غروسمان”، ونص ثالث هو “أسئلة” والذي ألفه “ليف روبنشتاين” خصيصاً لهذا الإنتاج. في الحقيقة، “التياتر كوميونتي” الروسية تدرك جيداً مدى قدرة ومهارة المخرج “دميتري كريموف” على تفسير الكلاسيكيات، وتغيير وقلب مؤامرات النصوص الأدبية بحرفية كبيرة، ورغم كل ذلك لم يَكُفّ جمهور مسرح البولشوي للدراما في سانت بطرسبرغ عن التساؤل حول حيثيات عملية المزج التي جمعت بين رواية “ليو تولستوي” وملحمة “فاسيلي غروسمان” العظيمة والمعروفة بأحد أهم مواضيعها التي شملت الحرب الوطنية الكبرى في الجبهة الشرقية.

وخلافاً لما كان متوقع، لم يرتكز عرض “سيروجا” على شخصية “آنّا كارينينا” فقط، بل على القصة كاملة، إنطلاقاً من الدوافع العميقة والغير معلنة في الرواية. وبالرغم من ذلك، لم يكن هناك أي حضور لشخصيات مثل “ليفين” ولا “كيتي” ولا “ستيفا أوبلونسكي”، ولم تتشكل مناظر تيبيس الكلأ أو شرب الكفاس أيضاً، مع إنعدام أثر القمصان المتعرقة وحساء “الستارلاتس” ومحار المطاعم .. كما توارى المشهد الرائع لـ “آنّا كارينينا” وهي تزور المحامي وتتعرض للإذلال لأول مرة في حياتها. ولم يكن هناك مشاهد سباق، ولا مشهد حدث سقوط “فرونسكي” .. ولا موت حصان السباق فُرو- فُرو، وبصفة صادمة لم يكن هناك قطار أصلاً .. فقط مجرد لعبة أو دمية صغيرة. أرادها المخرج أن تكون مجسّم شبيه لـ “تولستوي” نفسه، لكن أصغر حجماً .. وكأنها جزء منه وليس كله. كان “سيروجا” الدمية -وهو صورة رمزية لإبن “آنّا كارينينا”- صبي الثامنة من عمره، متواجداً في وسط العقدة العامة للعرض، تحديداً بعدما تم تحطيم كل شيء، بداية من منزل “أوبلونسكي”، لقاء “آنّا كارينينا” بعشيقها “فرونسكي”، خيانتها لزوجها وإهمالها لولدها “سيروجا”، وصولاً إلى شكل موسع شمل التكوين الصوري للعرض ككل.

وكما هو معروف أيضاً عن لمسة المخرج “دميتري كريموف” الفنية في عروضه، كان لابد من إبراز جزء من تاريخ المسرح الروسي. حيث عمد قبل بداية العرض، إلى تشغيل تسجيل صوتي قديم لعرض “آنّا كارينينا” للمخرج “نيميروفيتش دانتشينكو” الذي يعود إلى عام 1937، حين جسدت الممثلة “تاراسوفا خميلف” شخصيىة “آنّا كارينينا” وقتها. وهي كذلك إشارة من المخرج المتمكن لِكسر القاعدة اللفظية في العرض، حيث إشتهر مسرح “دميتري كريموف” بالقطيعة مع حوارات النص، لأن إهتمامه وبشكل خاص يصب حول كل ما يدور بين الكلمات، وخصوصاً تلك الحياة الضمنية التي تنبض في فجوات ما وراء الكلام. وقد بدى ذلك بوضوح منذ البداية في لقاء جمع “آنّا كارينينا” والكونتيسة “فرونسكايا”، إذْ تجسد الحوار بينهما حول موضوع علاقتهم بالأطفال كأمهات، من خلال عبارات مبعثرة غير مرصوصة ولا تملك أي تسلسل منطقي، وكأن الشخصيات تثرثر ولا تصغي للكلمات المنطوقة بجدية كافية مثلما يحدث في الواقع. لذلك فالنص المسرحي في تركيبة “دميتري كريموف” لا يرتبط إطلاقاً بما تدور حوله معاني الألفاظ. لأنه قائم على نظرية الإستهزاء بالحوار في الأساس.

ينطلق العرض لحظة ظهور شخصية “آنّا كارينينا” من أداء الممثلة “ماريا سمولنيكوفا”، وهي شابة أنيقة تتشح بالسواد، تضع على رأسها قبعة صغيرة مع حاجب جزئي للوجه، وتحمل في يديها حقيبة أنيقة. تتحرك بسلاسة وحذر شديدين على طول الممر المؤدي إلى خشبة المسرح، في مشهد يوحي بأن كل تفاصيله تليق بسيدة مثالية من القرن التاسع عشر. ولكن، بعد أن تصعد إلى خشبة المسرح مباشرة، فجأة تنزلق السيدة الواثقة وتسقط إلى الوراء مطلقة صرخة لا تتوافق مع بطلات “تولستوي” لأنها الآن في ضيافة عالم المخرج “كريموف” الخاص.

في عوالم المخرج “كريموف” الإبداعية يتحدث أبطال العرض بكلمات ومصطلحات خاصة لا تتضح وظيفتها إلا بمرافقة الصور التعبيرية. وكأنها شكل من أشكال الهَذيان أو الكلام الفارغ من أي معنى. إلى أن ينتابك إنطباع كمشاهد بأن الممثلين يرتجلون مونولوجات منفصلة في الحين، وأن حيّز رواية “تولستوي” نفسها صغير جداً وغير محسوس تقريباً في المسرحية، ولكنك بنظرة ثانية، تحليلية ودقيقة ستتبيّن كيف تعامل صُناع العرض مع نص “آنّا كارينينا” بحذر وعناية جد فائقة. ليس لحقيقة خلق جزء من “تولستوي” في شكل دمية فحسب في العرض، بل لكون التوجه توغل أبعد من ذلك من خلال خطابات متميزة بلغتها البسيطة والعميقة في آن واحد، وذلك عبر توظيف الجُمل المتداخلة التي لا تنصاع لقوانين تسلسل الحوارات، بحيث لن تتمكن كمتلقي من معرفة أين ينتهي المؤدي الأول ويبدأ الآخر في ترتيب الكلام.

أما عن القراءات التي خلفتها الصور الخارجية والتعبيرية للشخصيات، فقد إتصفت “آنّا كارينينا” ببعدها عن قالب الشخصية السلبية في العرض، ولم يتجلَّى إنزعاجها من زوجها كما يخلفه إحساس المُبحِر في أحداث الرواية، بل على العكس تماماً، فهي تتأسف جدًا لحاله، وبالمقابل يسجل الزوج المخدوع ظهوره الأول في الجزء الخلفي من المسرح، حين يقف متوجاً بقرون حيوان “الرنّة” المتفرعة. ورغم دلالات الصورة، لم تَبْرُز إهانة صريحة للرجل رغم رمزية القرون على رأس الزوج في الثقافة الروسية، والتي تعبر عن الخداع وخيانة الزوجة، لأن كل تلك الأفكار والإنطباعات تتلاشى نتيجة المنظر المهيب والفخم الذي أضفته “القرون” بحد ذاتها على مظهر شخصية الزوج. إلا أن حضور العشيق “فرونسكي” من أداء الممثل “فيكتور خرينياك” كان كافياً لقلب كل شيء رأساً على عقب، ورغم كل الحب والصدق في المشاعر التي يكنها هذا الأخير لـ “آنّا كارينينا”، فقد ظهرت تلك الشخصية العاشقة بمظهر غريب أثار الكثير من التساؤل عند المشاهد، إذْ كان يمشي على يديه طوال الوقت مع توازن مُتقَن بشكل مُلفت، وهو إشارة من المخرج أن كل الأشياء حول شخصية  “فرونسكي” متوازنة بين كل لحظات الحب تلك.

لعبت الدمية “سيروجا” الدور الأساسي في العرض، وهي دمية مصممة بإحترافية عالية يحركها محرك ومصمم الدمى “فيكتور بلاتونوف” رفقة ثلاثة ممثلين آخرين في وقت واحد هم: “أنطون لوبان” مسؤول عن حركة الساقين، و”ماريا سوكولسكايا” مسؤولة عن حركة اليدين، إضافة إلى “ماروسيا بيستونوفا” المتحكمة في سيميولوجيات حركة الرأس. كان “سيروجا” الدمية محاطاً طوال الوقت بحشد من المعلمين والموجهين، تجسيداً لأعراف الطبقة الأرستقراطية في تربية الأطفال في القرن التاسع عشر من جهة، وكذلك للإشارة عن التخلي التام للصبي من قبل والديه من جهة أخرى، فبالرغم من تواجدهم الدائم بجواره على خشبة المسرح، إلا أن آداءهم غير التفاعلي مع محيط الدمية صوّرهم كمن يعيشون في حياة موازية. وكثيراً ما شاهدنا “سيروجا” الدمية في عديد المواقف، أثناء تناول وجبة الإفطار، أو في لحظات التحكم بالطائرة الورقية، وفي حصص تلقي دروس الفرنسية، يتخطى حدود شخصية “آنّا كارينينا” المكانية دون أن تلاحظه هذه الأخيرة أو تبدي أي إستجابة ملموسة تجاهه، وكأنها تجمدت مثل تمثال صامت في منتصف المسرح، إلى أن تتحرر حركتها أخيراً في مواجهة الستارة السوداء التي تسببت في إختفاء العشيق “فرونسكي” قبل ذلك. أما عن شخصية “فرونسكي” التي لم يؤديها “فيكتور خرينياك” في تلك اللحظات تحديداً، ظنًّا منا أن الموقف يستوجب ظهوره كرجل عسكري بعد أن كان العشيق المحب كما حدث في الرواية، إلا أن المخرج فاجأ الجمهور بإظهاره في صورة طفل، لا يفهم ولا يعي أي شيء يدور من حوله في الغالب، لأنه لا يرى العالم إلا بنفسية الحماس والإنفتاح المفرط من خلال نظراته البريئة والساذجة، حيث لا يكاد يكتمل حضوره على خشبة المسرح إلا بوجود والدته الكونتيسة “فرونسكايا” التي أدت دورها الممثلة “أولغا فورونينا”.

وعن نهاية العرض التي إرتبطت بمصير “سيروجا”، فقد شكلت وجسدت أيضاً دلالات الإنتصار لحياة المسرح بجانبيه بين المعروض والمُتلقي، بعد أن قابلها الجمهور وكما كان متوقع بموجة هستيرية من التصفيق تحية للممثلين وهم: ماريا سمولنيكوفا، أناتولي بيلي، فيكتور خرينياك، أولغا فورونينا، نينا جوزيفا، ناديجدا زاريشيفا، أنطون إيفريموف، فلاديمير كوزنتسوف، كوزما كوتريليوف، نيكيتا كاربينسكي، أنطون لوبان، ماروسيا بيستونوفا، نيكولاي سوكولنيكوف، ماريا سوكولسكايا، فيرونيكا تيموفيفا، فاليري زازولين. وخاصة للدمية “سيروجا” التي باتت رمزاً معبراً وصريحاً للدعوة والإستمرارية في الإبداع مهما كانت ظروف العالم قاسية اليوم. وعليه تم تقديم تقدير خاصة لصناع العرض، من المخرج: ديمتري كريموف، التصميم التقني: ماريا تريجوبوفا، تصميم الدمية: فيكتور بلاتونوف، تصميم الإضاءة: إيفان فينوغرادوف، تصميم الفيديو: إيليا ستاريلوف، تأليف موسيقي: كوزما بودروف، تصميم الرقصات: أوليغ جلوشكوف، تصميم الباليه: ناتاليا شورغانوفا، العزف على آلة التشيلو: فاسيلي ستيبانوف، تحريك الدمية: ميخائيل تسيتيلاشفيلي، توجيه الدمية: ماكسيم كوستوف، ملقن: أوليسيا ماتفيفا، إلى مدير المسرح: أليكساندرا زوتوفا.

من أمير فريك – روسيا

مخرج جزائري مقيم في روسيا

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش