“الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا” لباتريس بافيس شعرية العمل الفرجوي أم تقنية تحليل النص وإخراجه على خشبة؟

من ضمن الاصدارات المتنوعة للمركز الدولي لدراسات الفرجة، كتاب “الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا” لباتريس بافيس، استاذ الدراسات المسرحية بجامعة باريس ما بين 1976 – 2007 ، الغني عن التعريف في مجال الدراسات الموسوعية، الترجمة والتقديم لكل من الدكتور خالد امين والدكتور سعيد كريمي. وهو يتتبع تحولات مفهوم الدراماتورجيا وتداوله منذ المرحلة البريشتية، وما بعدها، واجمالا منذ الخمسينات في أوروبا، وبلورة منهجيته في قراءة النصوص المسرحية وتأويلها، ومدى إفادته الفعالة من العلوم الانسانية، التاريخية، الاجتماعية، واللسانيات، والسيميولوجيا.
يتجلى سوء الفهم بالنسبة لـباتريس بافيس، في الغاية من التحليل، وفي دور الدراماتورج، ويختزله في السؤال الآتي: هل الدراماتورجيا هي شعرية/انشائية العمل الفرجوي، أم انها تقنية دقيقة وبراغماتية لتحليل نص، واخراجه عمليا على المسرح؟ لكي يجيب، يحاول ان يتبع مسار الدرامتورجيا بالتحليق في تاريخ المسرح، لدراسة الانماط الدراماتورجية التي تمثل كل حقبة من حقب المسرح وطرق تحليلها، ابتداء من الشعرية الكلاسيكية الاغريقية، الى الكلاسيكية الجديدة الاوروبية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، والدراماتورجيا النصية، والعرضية لديدرو، وليسينغ، مرورا بالدراماتورجيا السياسية لبريشت، وبسكاتور، ليصل الى الدراماتورجيا المتشظية في وقتنا الحاضر. هذا يعني أن الدراماتورجيا كمفهوم ليست بجديدة أو مبتكرة، وإنما هي استمرار لمفاهيم قديمة تطورت بتطور المسرح وعناصره. وقد عرفت منذ أرسطو وحتى الآن، تطورا دلاليا ملحوظا، في المجال المزدوج للفكرة والنشاط المسرحيين، إلى درجة استحالة حصر وظيفة الدراماتورج في مجال محدد، وتعريف معناه. وعلى الرغم من كل ما كتب عنه وفيه وحوله حتى الآن- وهو كثير وفي لغات عدة- وعلى الرغم من كل ما يبدو عليه من بساطة في المفهوم، لا نكاد نعثر على تعريف دقيق يمكن الاعتماد عليه؛ بل لم يوجد تعريف واحد لا في المعاجم ولا في الكتب، يمكن الاتفاق عليه اليوم، وذلك بسبب تشظي هذه الوظيفة، واختلاف ادوارها من بلد إلى اخر.
يقوم دور الدراماتورج في فرنسا وألمانيا، مثلما يذكر بافيس، على التأويل التاريخي والسياسي للنص المسرحي، إلى جانب المخرج. وفي المملكة المتحدة، يساهم غالبا في تطوير الكتابة الدرامية، او في الاعداد الجماعي التوليفي للمسرح. وفي بلجيكا، وهولندا، غالبا ما يناط به الرقص، أو الاشكال التعبيرية المرتبطة بالفن التشكيلي، وإلخ. هذا الاختلاف في التسمية، يدل على البون الشاسع الموجود في الممارسة، وإلى اتخاذه أشكالا وأبعادا أخرى كثيرة متنوعة: دراماتورجيا المخرج، دراماتورجيا المؤلف، دراماتورجيا التوثيق، دراماتورجيا المشاهد، السينوغرافيا والإضاءة والتلقي وإلخ. وكلما كثرت الآراء والتعريفات ازداد الأمر غموضا والتباسا واتساعا في الوقت نفسه. لهذا دأب مركز دراسات الفرجة في طنجة اكثر من مرة على تناول مفهوم الدراماتورجيا في مؤتمراته السنوية واصداراته المتعددة والمتنوعة في مجال المسرح وعلومه التطبيقية والنظرية. ويأتي هذا الاصدار الجديد لتعزيز هذا المفهوم ومعرفته واختباره، إذ يأخذ في الاعتبار، تحول الأعمال الدرامية إلى “نصوص مسرحية”، ويعتبر “المُبلغ عن جميع الأنظمة الدلالية المستخدمة في العرض، وعن الترتيب والتفاعل الذي يتشكل منه الإخراج، وفقا للقاموس المسرحي لباتريس بافيس. بحيث صار يضع جسرا بين الكتابة النصية والكتابة المسرحية، ويمتلك اللغة الخاصة التي تقوم بتحويل الواحد إلى الآخر. ثم يبحث المؤلف الجانب التأويلي للدراماتورجيا الذي لا يأخذ معناه الحقيقي على الورق إلا اذا تمت ترجمته الى حركات فوق الخشبة، والى الفائدة من الدراماتورجيا، التي تكمن في ايجاد أحسن الحلول السيوغرافية (أو أقلها سواء)، وإلى التجزيء التدريجي للخشبة، ودراماتورجيا الفرجة (المعاد بناؤها من طرف المتفرج). ثم يلقي الضوء على الدراماتورجيات الجديدة، في المسرح التوليفي، الذي ليس ابداعا جماعيا بقدر ما هو مسرح للتعاون، حيث لا يحظى فيه الدراماتورج (نظريا) بمرتبة اعتبارية اكثر من زملائه. والدراماتورجيا البيداغوجية، التي تمثل جسرا بين عالم التربية والابداع المسرحي. ودراماتورجيا الممثل، وهو تعبير اخترعه يوجينيو باربا، ويخص عمل الممثل، والدراماتورجيا ما بعد السردية، والدراماتورجيا البصرية، الذي نحت مفهومه أرنتزين، في بداية التسعينات، ولا يتمثل معيارها في غياب النص على الخشبة فقط، ويبنى على سلسلة من الصور مثلما في اخراجات روبير ويلسون، وإنما على شكل سينوغرافي يكون فيه المظهر البصري مهيمنا الى الحد الذي يفرض نفسه باعتباره مكوّنا للخصوصية الرئيسية للتجربة الجمالية. تقود هذه الدراماتورجيا مباشرة نحو دراماتورجيا الرقص التي تشكل التحدي الكثر جدية بالنسبة للدراماتورجيا المسرحية الكلاسيكية، وتتأسس رؤيتها على ما هو خارج اللغة، وعلى الحركة، وليس على الحركات الدرامية والشخصيات. يشتغل الدراماتورج على قراءة الحركة، وعلى جعلها ترى، وعلى حكي قصة، مع العلم أن المقروء، والمرئي، والمحكي، ليست مضمونة، ولا اساسية.
يناقش بارفيس مستقبل الدراماتورجيا وتحدياتها، من خلال الدراماتورجيات الجديدة التي تركز في الأساس على تلقي الجمهور، فالتأمل النظري يمنح من الممارسة التطبيقية، لذلك يقترح ضرورة التفكير في طرائق الاشتغال الاكثر تأقلما مع التجارب الجديدة. ثم يطرح سؤال جوهوريا: ما هي الورش التي يجب علينا فتحها- نحن الجامعيين والدراماتورجيين المهتمين بالنظرية؟ وهل بإمكاننا اقتحامها دونما التحول بعض الشيء إلى فنانين؟
 
المسرح المعاصر
تحليل لمجموعة من النصوص، من ساروت الى فينافير، وهو مفصل من كتاب اقترحه المؤلف على المترجمين، صدر عن دار آرمان كولين الفرنسية. يتناول فيه باتريس بافيس نصوص كل من ناتالي ساروت، فينافير، كولتيس، ريزا، مينيا، لاغارس، نوفارينا، دور انجير، وكورمان، وهي تتموضع جميعها في اطار منظور قارئ يكتشف النص من دون الحاجة الى الاخراج، ومن دون معرفة قبلية ودقيقة بالمؤلف وبأعماله، وتصوراته حول العالم. ويقترح من خلالها نهجا تحليليا، يقدم نوعا من الكونية العابرة للتاريخ، يتلاءم مع السياقات التاريخية، التي افرزت الأعمال المعاصرة. مستوحى بشكل حر من التحليل الدراماتورجي ومن اعمال امبرتو ايكو أيضا، وجماليات الاستقبال وتعاون القارئ، أي يتموضع النهج التحليلي منطقيا في التلقي، وبالطريقة التي “يفعل” فيها القارئ النص، ويتأسس على المواجهة بينه وبين النص. ويشكل هذا التلقي مجموع العمليات المعرفية المنجزة، وهو نقيض المنهجية التوليدية التي تختص بتكوين العمل، وأصوله، وطريقة اشتغال المؤلف.
يقول باتريس بافيس، رغم غياب المنهج المأسوف عليه في اختيار هذه النصوص، فإن هؤلاء المؤلفين التسعة، ينقسمون ثلاث مجموعات: كلاسيكيو الحداثة الحقيقيون: ناتالي ساروت، وميشال فينافير، وجون ماري كولتيس. ورثة الثلاثة المذكورين اعلاه: ياسمينا ريزا، وفيليب مينيانا، وجون لوك لاغارس. والمخالفون للنماذج، بتهشيمهما للغة، كزافيه دورانغير، وإعادة تشكيله للطبيعوية، وكورمان اونزو، والوجوه الاستيهامية في كتاباته. يسعى باتريس بافيس من خلال دراسة هؤلاء المؤلفين إلى اسماع اصواتهم، بعيدا من الخشبات، مع الرؤية الداخلية للقارئ الذي سيعيش لحظاتها. وهذا منهج يمكن تطبيقه على نصوص اخرى، علما ان الكتاب موجه الى طلاب الأدب والمسرح، والى الطلبة والممثلين، بالإضافة إلى جمهور القراء المهتم بالمسرح عامة. بعيدا من النقاش المنهجيي فأن طموح بافيس في هذا التعريف، هو التعريف اكثر بهؤلاء المؤلفين، الذين استأثرت اعمالهم بإعجابه. وهذا ما يشترك به معه المترجمان الدكتور خالد امين وسعيد كريمي. في المقابل، لا يدّعي هذا الجهد، كتابة تاريخ هذه الدراماتورجيا الجديدة، ولا تقديم اهم توجهاتها، ذلك أن مشروعا من هذا القبيل، يتطلب عمل فريق جماعي، والحصول على مجموعة من المطبوعات، ومسافة تاريخية تجعل من الصعب تحقيق المراد.
 
—————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – محمد سيف – النهار

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *