الحكواتي ماحي صديق..تروبادور الزمن المتحول

الحكواتي صديق ماحي

احميدة عياشي 
في “ربيع أسود”يقول كاتبي الذي أحببت حياته المتشردة ونزق كتاباته يوم كنت طالبا جامعيا الأمريكي هنري ميللر(1891-1980)”انا رحالة، ولست مغامرا”وهل يمكن آن يكون المرء رحالة دون آن يلتف حول عنقه حبل المغامرة،؟!الرحلة مغامرة، والمغامرة هي رحلة في قلب المجهول والخطر، رحلة في الظلام وفي أذغال الزمن المبهم المليئ بالأشياة الحلوة والمرة التي لايمكن آن تنسى لتتحول في لحظة الراحة المؤقتة أو الاستراحة من الترحال إلى حكاية تروى،يستعيد فيها صاحبها الوجوه التي بات يفتقدها والأزمنة التي أصبحت تشكل بالنسبه اليه مصدر الشوق والحنين،حكاية تنقل من مكان إلى مكان ومن سخص إلى آخر..
قفزت إلى ذهني مثل هذه العبارة التي قرآتها منذ وقت طويل وعثرت عليها في أحد دفاتري القديمة وأنا آتهيأ للكتابة عن ماحي صديق الذي أصبح حكواتيا محترفا منذ التسعينيات،هل كانت الحرب التي عشنا نارها وأوارها وجحيمها هي من فتقت في أعماق ماحي ذلك الخيط الإبيض الذي جذبه إلى سحر الحكاية التي لم تتوقف لياليها التي تحولت من السواد إلى ألوان ستى عمرة بالحياة والرغبة الجامحة في العيش الذي يجعل من المأساة حكاية تروى، ومن التاريخ خيوطا تنسج ومن التجربة الشخصية زادت لتعددالحكاية وانبعاثها من تحت رماد الحياة اليومية القاتلة كما الطير الأسطوري الخرافي كما العنقاء !
ماحي ليس مجرد حكواتي بالنسبة إلي وحسب بل هو صديق تعودعلاقتي به إلى أكثر من ثلاثين سنة،لا أكاد أصدق أن تكون علاقتي به تمتد إلى هذه السنوات الطويلة التي تذكرنا بالماضي السحيق شبه المندثر وبالزمن وبالموت المحلق في السماء كعقبان مسرحيات كاتب ياسين القديمة وكغربان أفلام هيتشكوك العظيم…ماذا لو أردت استعادته من أيامنا الأولى لأروي حكاية الصديق الذي أصبح حكواتيا ،تروبادورا يجول في داخل البلاد من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى أخرى..أحد الصورة مستتة، متلاشية أحيانا ومكثفة في أحيان أخرى
إبن الڤرابة الذي يروي حلمه وهو يمشي
عاش ماحي طفولته في المدينة العتيقة وتسمى الڤرابة،في هذا الفضاء أتفت سيدي بلعباس حول ذكرتها وتلافيف حياتها الحميمة، قريبة من وادي ماكرُة الذي يمشي متهاديا حينا ويشتد هيجانه تارة ليتحول إلى فيضان كاسح، متمرد، متجدر ، فالع للشجر والحجر والحيوانات والأشخاص..فيضان وادي ماكرٌة أسطوري وغريب،لم يكتب عنه إلا القليل، حكاياته ظلت تروى من العجائز إلى الأحفاد، وكان ماحي من هؤلاء الأحفاد الذي تفتح ذهنه على شجرة الحكاية المتشابكة والمعقدة والمتدفقة،حيث تأخذك إلى حيث لاتدري،ولد في سيدي بلعباس العتيقة،في العام 1960 كان يفصلنا عن يوم الاستقلال عامان،لم تكن سيدي بلعباس مدينة عادية، بل كانت مدينة كولونيالية بامتياز،حولها نابليون الثالث إلى عرين اللفيف الأجنبي،جاءها العسكريون المغامرون من كل الجهات، وتدفق نحوها المعمرون من كل الأنحاء، من جنوب فرنسا، من إسبانيا، من إيطاليا، من مالطا، لكن اأيضا توجه نحوها المغاربة من سجلماسة والسود من المالي والنيجر، وكانوا يسمون بالعبيد،تحولت سيدي بلعباس إلى موزاييك حقيقي، تمازجت في بوتقته الإثنيات والقوميات والديانات والثقافات،تلاقى فيها المغامر بالمقاوم، المهجر بالرحالة،الغازي بالاجئ،لم تكن مدينة ذات جاه تاريخي برغم وجود الأثار الرومانية والبربرية في الضواحي التي تدل على أن للمدينة ذاكرة
وصل اليها الأمير المقاوم عبد القادر، كان لديه رجاله في سيدي بلعباس،كان الأمير يقاوم على أكثر من جبهة،يواجه العسكر الفرنسي من جهة والخائن المنقلب الذي رأى في أوامر الأمير تضييقا وردعا وحدا لحريته وإلحاق ضر بمصالحه
كان الطفل ماحي مسلم شديد الارتباط بوالدته التي كانت تتكلم الى جانب العربية الفرنسية والإسبانية،كان وضعهم متواضعا،يفتقر البيت إلى الإضاءة عندما يحل الليل وهنا يقول لي ماحي كانت “الأم لا تتوقف عن الرواية،تحكي بتدفق وغزارة خاصة وأن حكاياتها تكاد لا تتوقف أو تذبل،كانت بالنسبة لماحي المنهل الذي تغذى به مخياله، يتحول الليل الى كتاب مفتوح وصوت الأم لا يتوقف بل يجول بالطفل في القرى، والجبال، والبراري،ينتقل به من زمن إلى أزمنة مفتوحة تلك الحكايات يقول لي ماحي “ظلت محفورة بذاكرتي ومنقوشة في خيالي،كانت نبعث بقوة وحيوية وأنا ألتقي بجمهوري المتعدد في مدن عربية وأوروبية وجزائرية،كان صوت الأم ينبعث من تحت الطبقات السميكة التي علاها غبار الزمن المتتالي والتراكم، وغطت عليها الأيام المتناسلة”
ناس الطحطاحة
يتذكر ماحي صديق مكان طفولته الآول ومهد صباه الزاخر بالصور والوجوه يقول ” كانت الطحطاحة قلب القرابة، وقلب سيدي بلعباس العتيقة التي كان يسكنها الأهالي وقت الاستعمار بينما المدينة الكلونيالية فلقد كان يقطنها الفرنسيون والاسبان والمالطيون ،عالمان متناقضان ومتصدمان، هناك في المدينة الكولونيالية،المقاهي التي تجلس على طيراساتها البنات الحسنوات والشباب الذي يتجرع الجعة، والاستيديوهات التي تنطلق منها الاغاني الشهيرة في ذلك الزمان،بينما في المدينة العتيقة حيث الطحطاحة تنتشر المقاهي العربية من مقهى الهلال إلى مقهى ولد الزين هناك كان يجلس مغنيي الراي القديم مثل الشيخ المدني صاحب الأغنية الشهيرة “يا عودي واش بيك!؟”هناك كان يلتقي الشعراء الشعبيون يتداولون قصائد الملحون،ويتبادلون الاخبار والقصص، وفي قلب الساحة المسماة طحطاحة يجلس المداح ن والڤوالون والشعراء،تنطلق الاغاني من الديسك لتنتشر في ساحة الطحطاحة”هذا العالم المليئ بالألوان والأصوات لايمكنني نسيانه” يرددعلى مسمعي،
انتقل ماحي إلى شارع ڤومبيطا، وكانت عائلته تشجعه على ممارسة الفن،فدخل حركة مسرح الهواة وهنا كان ماحي صديق من بين الممثلين الذين برزوا ولمعوا وظهرت مواهبهم بشكل قوي في التمثيل،وكانت هذه التجربة المسرحية التي ابتدأها مع فرقة مسرح الأحياء غنية وقوية أقرت روحه كما يقول “وأضفت لي تجربةًجديدة ساعدتني على مواصلة مغامرتي المسرحية في شكل فن الحكاية”كان رئيس الفرقة يدعى قادة بن شميسة، وهو نفسه انتقل بعد تجربة زاخرة في المسرح إلى فن الحكاية وقد انتقل الى عدة بلدان أوروبية،وقدم قصصا محلية وأخرى مقتبسة من التراث الفني العالمي
الحكواتي في زمن الدم والعودة إلى بشير حاج علي
كان معي وهو في ريعان الشباب يؤمن باليسار كمخرج وحلم طوباوي لكن في الوقت ذاته طل متعلقا بتاريخه السخصي والمحلي والعائلي، طل الدين عنده يأخذ تلك المكانة الحميمة في حياته الشخصية، كقصة مفتوحة على كل الامكانا ت التي تقربه من الإنسان،الدين عند ماحي ،لحظة انبثاق الكلمة والحكاية،ماحي يقرأ باستمرار ويعيد ما قرأه في حكاية يتحد فيها الشفوي بالمكتوب، الحلمي بالطيفي، التاريخي بالميتي والواقعي بالخيال،
آتذكر في الثمانينيات كنت عائدا في العطلة إلى مسقط رأسي بسيدي بلعباس، التقينا ولم نتوقف عن الكلام،حدثته وقتها عن شعراء مصريبن متمردين ومختلفين أمل دنقل ونجيب سرور،كانت كتابات ياسين وقتها تجمعنا،طلب مني نصوص نجيب سرور، حسن وبهية، كانت ملحمة حب مصرية شعبية استلهمها الشاعر في عمل شعري باهر،قرأها ماحي عشرات المرات،سكنته حتى النخاع،استلهما هو بدوره وكتبها بلغته المتدفقة الشعرية الجزائرية،كنت وقتها منجذبا إلى تجربة مسرح الممثل الوحيد “قدور البلاندي”الذي دفعني إليها مختار بوجمعة الذي بدآت ممارسة المسرح لأول مرة معه في فرقته التي كانت تسمى فرقة “الأصلي”..مختار بوجمعة كان أيضا صديقنا في تلك الفترة، كانت لديه تجربة متميزة،مختلفة ألبترحوله الكثير من سوء التفاهم والانكار، كانت أثارها عميقة على مسيرته المسرحية التي توقفت ووصلت إلى طريق مسدود للأسف،سافر إلى سوريا،قضى زمنا كعامل في ورشة الديكور بأحد المسارح بدمشق، عاد إلى الجزائر بعد خمس سنوات من الغربة، جاء محملا بالكتب والأحلام والطموحات، قدم بعض الأعمال المسرحية التجريبية ثم ابتلعته روتينية المسرح الجهوي ببلعباس والصراعات النقابية العقيمة التي أطفآت جمرته المتوقدة التي بها وعلى نورها سلكت طريق النضال والابداع الثقافي..لم يحدث لماحي ماحدث للمختار،التزم ماحي لوقت بالنضال السياسي اليساري ودافع عن الخيارات التقدمية والثقافية المرتبطة بالهوية،التقينا مجددا في العاصمة ،وكان قريبا من فرقة دبزة التي كان يمثلها سليم بن سديرة الطالب في معهد العلوم الاقتصادية والناشط في محيط اليسار التروتسكاوي ،أذكر كيف وقف الماحي بصمود يوم حاولت ادارة مهرجان مسرح الهواة بمستغانم في المنتصف الأول من الثمانينيات حظر وجود فرقة البزة بالمهرجان وذردها،ثم أذكر شجاعة ماحي في سنوات الدم،كان مع ايقاف المسار الانتخابي ومواجهة الاسلاميين، التقينا يومها في أحد شوارع سيدي بلعباس وكان نقاشنا حادا، كنت ضد ايقاف المسار وكان هو مع مساندة ايقاف المسار،كان قد انتهى من مسيرة تندد بالاسلاميين الراديكاليين،كان رفقة رفاق واصدقاء، كان رفقته صديقنا محمد شاهي الذي شجعه فيما بعد على انتهاج طريق الحكواتي،تلاسنا وتشابكنا بالكلام، وظننت آن فصلا من الصداقة قد وصل إلى نقطة النهاية بسبب السياسة،التقيت بمحمد شاهي بعد سنوات وكان قد تغير قليلا وأعاد النظر في حماسته الراديكالية، ثم مات في ذات عيد أعياد الأضحى، تحول ماحي مع الزمن المتحول الذي يترك في أعماقك الكثير من الخيبات،توصل ماحي إلى لحظة انقسعت فيها شمسه الروحية وفتحت آمامه طريقا جديدا للتآمل والالتزام الجديد المختلف يقول لي ماحي “كانت سنوات الحرب التسعينية جدرية في إعادة بناء نظرتي حول نفسي وعن العالم الذي يحيطني، كنت أروي وأعلق على ما كان يدور وقتها وأنا أجلس إلى الاصدقاء مثل محمد شاهي واحميدة العياشي وعباس الزين وجمال وفاتح ،كان جمال رفيقي في الأحاديث اليومية التي كانت تجمعنا في تلك الأيام المرعبة التي تعرض فيها الصحفيون مثل الطاهر جاووت وعمر ورتيلان واسماعيل يفصح وبختي بن عودة ومبدعون مثل عبد القادر عللولة وعز الدين مجوبي والمغني حسني ومعطوب لوناس للاغتيال،يفتح الموت والدمار أمامك أبواب أخرى تعود بك إلى نقطة البداية من اجل اعادة ترتيب كل هذه الفوضى التي تقذف بنا فجأة في تياراتها المتضاربة والمتناقضة والهائجة كعاصفة هوجاء ومجنونة”
ويضيف ماحي صديق قائلا وهو يعود الى سنوات الصخب والعنف”في ذلك الوقت صمت المسرح وساد الصمت في المباني المسرحية،واغلقت أبواب صالات الاحتفالات، وتفرقت الفرق المسرحية،منهم من مات واختفى في غياهب الصمت ومنهم من ترك البلاد هاربا بجلده،كان علي أن أجد طريقي لاحتفظ بسلطة الكلام التي كانت تعرضني يوميا الى مخاطر الموت” 
اهتدى ماحي في تلك الفترة إلى فن القول، إلى الحكواتي الذي ينقل حكايته المأساوية إلى الناس ليرويها ويقصها، استعاد فنا كان شبه منسي وملقى به في ظلام النسيان،يقول ماحي”لقد وجدت آخيرا ضالتي وسلطتي الحقيقية التي آبني بها آحلامي الجريحة واعيد من خلالها بعث قصوري التي تلاعبت بأطيافها الرياح والعواصف،لقد عثرت على كنزي المفقود، الحكاية،وكان نص الشاعر الجزائري، والمناضل اليساري بشير حاج علي الذي تعرض في السنوات الأولى التي أعقبت انقلاب 19جوان الذي قاده الكولونيل هواري بومدين ضد احمد بن بللة مصدر انبعاثه وملهمه،نص البشير يسمى “العسف”يروي بشير حاج علي التعذيب في سجون بومدين،ينقل التجربة المؤلمة التي تعرض لها المناهضون للانقلاب العسكري الذي قام به بومدين ومن بين هؤلاء المناضلين كان الشيوعيون المنتمون إلى حزب الطليعة الاشتراكي الذي كان يقوده بشير حاج علي ،صمد البشير، وحول ليليه إلى أقمار وآناشيد للصمود والآمل،،كنت التقي ماحي في تلك الفترة، انتقلت اليه شعلة البشير، ليحولها الى خطاب انساني،مدين للقهر والتعذيب،تحول ماحي معها،تخلص من سطوة الايديولوجيا واستسلم لبهجة الحكاية التي جعلت منه آكثر شفافية وإنسانية،طاف ماحي صديق بنص العسف عند الرفاق، وانتقل به إلى أماكن لم يكن ليفكر أنه يصل اليها،هي تلك القرى المنسية وسط الجبال، هي تلك الوجوه المغمورة الصامتة ولها كنز من القصص التي لم ترو بعد،وفتح نص “العسف”أمام ماحي بهجة اكتشاف مولود معمري،الكاتب الذي اشتهر بروايته “الهضبة المنسية” وقصة “الأفيون والعصا “التي اقتبست للسينما وتحصلت على عدةًجوائز وهي تروي قصة الحرب والثورة في زمن الخمسينيات
“اماشاهو”لمولود معمري كانت الباب الثاني للحكاية التي جعلت ماحي صديق يختار طريقا جديدا سينتقل به إلى فصل جديد من الحياة،حيث سيغادر مهنته الاساسية موظف في الخزينة الولائية،ينتقل من سيدي بلعباس بعد زواجه إلى مدينة بني صاف، ويتفرغ نهايئا لفن الحكواتي،يقدم بعض حكاياته في الخارج لانشر بعد آن سدت الابواب في وجهه بالجزائر،تبدأ رحلته الى مارسيليا، الى دول مغاربية في تونس، والمغرب لتفتح الابواب على مصراعيها الى بلدان أفريقية، الى دبي، الى اسبانيا،الى البرتغال،الى الاردن الى مصر الى الكونغو
“الحرب تدمر لكن تخلق الحياة من جديد”
لا آتذكر أين قرأت هذا القول، لكن على كل حال قرأته وأنا طالب في الجامعة، ربما قال أحد المعلمين الثوريين الذين تعلمت منهم الكثير،تعلمت من حياتهم الشجاعة في قول الحقيقة، والاخلاص في تأدية الرسالة التي خلقنا لأجلها آو خلقت لأجلنا حتى نعطي لحياتنا وأفعالنا معنى،ربما يكون قائلها فلاديمير اليتش لينين،صاحب الكتب التي ايقظت عقلي مثل “ما العمل”و”الدفاتر الفلسفية” و”خطوتان الى الخلف وخطوة إلى الأمام”
الحرب ليست شرا مطلقا عندما تفرض نفسها علينا أحيانا بسبب المجانين الذين يتسببون في اشعالها ،لم يكن واحد من الجزائريين يتوقعون آن الحرب كانت تنتظرهم في قارعة الطريق بعد أن تخلصوا من جثة الحزب الوحيد وفرحوا بانتفاضة أكتوبر 1988،وقتها التقيت بماحي بمقهى الصومام القريبة من بيت عائلته في شارع ڤومبيطا،كان جالسا مع صديقه الحميم أحمد مهاودي، شاعر تروبادور،عاشق للرحلات لكن رجله أعاقته عن ذلك،فاطلق لحيته وصار مثل المتصوف المحنون، دائم الرحلات بين الكتب والاسماء التي لاتريد ان تنتهي في غابة الشعراء والكتاب والمسرحيين، من كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود معمري الى شارل بودلير ورامبو وريلكة،كان ماحي واحمد يجلسان النهار كله وهما يتحدثان بشراهة،القي القبض على أحمد مهاودي واقتيد الى مقر الاستخبارات،غداة اكتوبر وقتلت طفلة آمام آعين ماحي برصاصات طائشة غيرت من حياة ماحي صديقي،وفجرت حساسيته الشعرية بشكل عميق ومهول
وجد ماحي نفسه في مفترق الطرق بين الانسان والمثقف الملتزم سياسيا، بين الحلم الطوباوي والحقيقة الواقعية المليئة بالنتوءات السوداء، توقف أمام الالام التي أثارتها بأعماقه الحرب ليعيد اكتشاف لغة جديدة، لغة الحب ولغة الانسان،الانسان حيثما كان،الانسان بعيدا عن اللغة واللون والنتماء العرقي والقومي، الانسان بكل ابعاده ،بكل الانسانية التي تجعل منه شريكا ونظير،لا عدوا ،قريبا لا بعيدا، حميما لا غريبا
الحرب يقول لي ماحي “غيرتني، انسنت خطابي، وسعت من نظرتي الى الأشياء وعمقت من حساسيتي تجاه الالوان والاشياء والكائنات”
اصبحت الاشياء قطعة موسيقية متعددالانغام بالنسبة لماحي ،وزاد من ايقاعها،تلك المرأة التي أحبها ومنحت له سارة التي تخرجت من الجامعة، وحاج علي،الذي اطلق اسمه على بشير حاج علي،يقول لي ماحي “شكرا لك لأنك منحتني ان آتحدث عن علاقتي بزوجتي التي منحتني كل شيئ لما ارتضت ان تقاسمني زهدي، بساطتي وحياتي المتواضعة “
عندما اتصلت بماحي صديق ليروي لي بدري حكايته ،كان على آهبة السفر الى معسكر، والى مدن جزائرية أخرى ليحط به الترحال بتونس،كان قادما لتوه من مدن آخرى لينتقل الى مدن آخرى، واحداها مدينة مراكش حيث التقى بجمهوره المغربي في الساحة الاسطورية للحكاية،التي مر بها الرواة وصناع الحكايات من المغاربة والعرب الرحالة،وقد يكون منهم الرحالة الطنجاوي الاسطوري الذي لا يموت “ابن بطوطة”؟!
يرتدي ماحي لباسه التقليدي الموشح بالبياض والصفرة الجمعية المشيعة للنور الداخلي الذي يجعل من اللسان حصانا حرا،يطير،يحلق في سماء الحكايةيطلق شعره كأي راو قادم من زمن الحكاية ومدن الأوشام، يحدق في الوجوه كأي انسان متشرد عركته الحياة وحنكته الأيام والحار والعواصف،يفتح يديه وهو يتآمل السماء حيث عين الرب ترعاه، يفتح كتبا الحكاية فينتفح الجسد مثل عباءة في قلب السماء، تشرئب الاعناق، تتعدد الجنسيات، تتناسل الاصوات،تتراقص الكلمات وتهطل الصور مثل التبر من آعالي العوالم البعيدة ويشرق العالم المحكي عبر ذاك النداء العميق الذي يشدنا الى منبع الخيال والنقاء،تلك هي حكايتنا جميعا التي يرويها حكواتي تروبادور.
——————————————————–
المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  الحياة نت 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *