التونسيون تخنقهم أزمات الحياة وتجمعهم خشبات المسارح – حكيم مرزوقي

مسرحية “غيلان” آخر أعمال المخرج الراحل عزالدين قنون

ببادرة مشتركة بين مؤسسة المسرح الوطني التونسي بإدارة الفاضل الجعايبي، والمخرجة سيرين قنون، مديرة مسرح “الحمراء”، عقدت مؤخرا بفضاء الفن الرابع بالعاصمة تونس ندوة صحافية مشتركة للحديث عن برنامج احتفالية تونس باليوم العالمي للمسرح، علاوة على إطلاق الدورة الأولى لمهرجان عزالدين قنون للمسرح، والذي يهدف إلى التعريف بالأعمال المسرحية للمخرجين الشبان ومساعدتهم على توزيع أعمالهم في المهرجانات الدولية، وعكست الندوة، وما رافقها من تغطية إعلامية مميزة، حقيقة مفادها أن تونس لا تزال عاصمة الفن الرابع في المنطقة العربية والقارة الأفريقية بامتياز، وأن التونسيين يتنفسون مسرحا رغم كل العوائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

مثلت الندوة الصحافية المشتركة التي عقدت مؤخرا بالعاصمة تونس بين مؤسسة المسرح الوطني التونسي وفضاء “الحمراء” الخاص للحديث عن برنامج احتفالية تونس باليوم العالمي للمسرح، علاوة على إطلاق الدورة الأولى لمهرجان عزالدين قنون للمسرح، توأمة بين تظاهرتين في احتفالية واحدة، أرادها كلا من الفاضل الجعايبي، المخرج المسرحي المخضرم، وسيرين قنون، ابنة عزالدين قنون، (الذي كان قريبا من الجعايبي طرحا وأسلوبا)، لقاء بين جيلين متباعدين، لكنهما يتبادلان الخبرة والتجربة والتواصل، والشغف بالمسرح.. الراية التي لم تغب شمسها عن سماء تونس رغم بعض العثرات الفنية الأخرى.

عكست الندوة المشتركة بين الفاضل الجعايبي، مدير المسرح الوطني، وأحد أكبر رواد الحركة المسرحية في تونس منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، وسيرين قنون، مسؤولة فضاء “الحمراء”، الذي أسّسه والدها الراحل عام 1987 وحوله من قاعة سينمائية معطلة ومهترئة وآيلة للسقوط إلى مسرح له حضوره الحي ومركز عربي أفريقي لتكوين الممثل، مدى دقة التنسيق والتعاون بين اثنين من أهم روافد الفن المسرحي في تونس، بدليل استضافة وإنتاج بعض الأعمال المشتركة.

فن التواصل بين الأجيال

                                                                                                                               مسرحية “خوف” للفاضل الجعايبي.. تونس الآن وهنا

المسرح الوطني التونسي يتباهى بإنتاج ما يقارب عشرة أعمال فنية هذا العام، ضمن ميزانية توفرها وزارة الثقافة التونسية، وتتوزع بين الإنتاج والتوزيع واستقبال العروض الزائرة، بالإضافة إلى تهيئة وصيانة فضاءات مسرحية لم تعد تلبي احتياجات جمهور نهم، وله باع طويل وتقاليد عريقة في الإقبال على الفنون الحية رغم الضائقة المالية.

بات من الواضح أن التجربة المسرحية التونسية على المستوى الرسمي، لم تعد تحبو، ولم تنزلق نحو الحسابات السياسية الضيقة في دولة الديمقراطية الناشئة، ونأت بنفسها عن التجاذبات الحزبية، مستندة إلى إرث ثقافي أسّس له رجالات منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي على شاكلة محمود المسعدي والشاذلي القليبي والبشير بن سلامة والحبيب بولعراس، وغير هؤلاء من الذين وثق بهم الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس ما بعد الاستقلال، وأولاهم المناصب والمسؤوليات الثقافية رغم نرجسيته التي استفاد منها التونسيون من جهة تمجيده للثقافة والقول إنه رجل مدني في محيط عربي غلبت عليه القيادات العسكرية والزعامات الأيديولوجية في عصره.

ولا بد من القول إن لليسار الثقافي (وليس السياسي) التونسي بصمة لا يُستهان بها في إخصاب المسرح ومده بكل أسباب وجوده واستمراره، ذلك أن الفن الرابع -وكذلك السابع- يعد من أهم طرق التواصل والتوعية بين الأجيال في عصر ما قبل الميديا الرقمية، ولقد ركزت النخب الثقافية على هذا الموضوع أيما تركيز.. الأمر الذي غفلت عنه القوى اليمينية من الاتجاهات الإسلامية، لأنه لم يكن من ثقافتها ومنطلقاتها الأيديولوجية.

ويتفق محللون كثيرون للمشهد الثقافي التونسي على أن سيطرة اليسار وامتلاكه لمبادرات في النشاطات السمعية البصرية قد أنقذ -أو خفف إلى حد بعيد- من تنامي التيارات الأصولية مقارنة ببقية البلدان العربية والإسلامية.

تاريخيا لا فرق بين مسرحيي “القطاع العام” ومسرحيي “القطاع الخاص” في تونس إلاّ بمقدار الاقتراب أو الابتعاد عن السلطة بلغة الامتيازات والنوايا، فتبادل الأدوار، في مجمله، وارد في كل لحظة، ما عدا بضعة أعمال تُحسب على المسرح التجاري وتُنعت بالتجارية، لكنها قليلة مقارنة ببلاد مثل مصر أو سوريا بدرجة أقل.

                                                                                                      الراحل عزالدين قنون كان مؤلفا ومخرجا ومشرفا على أداء الممثل على الخشبة في ذات الوقت

أما مسرح “الحمراء” الذي أسّسه الراحل عزالدين قنون، في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كفضاء إبداعي خاص بدعم خجول من وزارة الثقافة التونسية، ثم توسع نشاطه ليحتضن المركز العربي الأفريقي للتكوين المسرحي، ويشرف على ورشات عمل تخرج منها ما يقارب 400 شخصية مسرحية في القارتين الأفريقية والآسيوية، فقد أثبت جدوى ما خطط له وأراده، وها هو اليوم يقطف ثمار جهده، ويعيد له أبناؤه الاعتراف بالجميل في تخليد اسم مؤسسه ضمن مهرجان يولد كبيرا، حتى أن المشرفين على إدارته لم يجدوا صعوبة في وضع برنامج عروض وندوات، إلى جانب مسابقة للمخرجين الشبان ورصد جوائز معتبرة تمنحها لجنة تحكيم من جنسيات مختلفة وحساسيات مسرحية متنوعة.

ولم يتأسّس مسرح “الحمراء” لعزالدين قنون من فراغ، فلقد جاء بعد جملة من التجارب خاضها صاحبه مع رفاق له من تونس وخارجها، وكان أبرزها مغامرة “المسرح العضوي” التي تأسّست على مغامرة تجريبية تستند إلى خلفية فكرية تجعل من أطروحات الإيطالي أنطونيو غرامشي، مرجعا وبوصلة تحمّل المثقف مسؤوليته أمام شعبه.

والمميز لدى عزالدين قنون هو قدرته على أن يكون مؤلفا ومخرجا ومشرفا على أداء الممثل على الخشبة في ذات الوقت، وهو أمر قلما يجتمع لدى مسرحي عربي، ذلك أنه بارع في إلغاء الفوارق ومحو الحدود بين التمثيل والتأليف والإخراج من منطلق مفاده أن العملية الإبداعية تولد مجتمعة بفعل التحريض الذي يتولى الإخراج مهمته ضمن ورشة عمل تشاركية.

لا فرق بين مسرحيي “القطاع العام” ومسرحيي “القطاع الخاص” في تونس إلاّ بمقدار الاقتراب أو الابتعاد عن السلطة

ولقد خطا مهرجان عزالدين قنون في دورته الأولى التي تنطلق في الـ24 من مارس الحالي وتتواصل حتى الـ29 منه، نحو هذا التوجه من خلال عدم الاكتفاء بالعروض التي يستضيفها، بل بتقديم ندوات موازية ستمثل إحداها بحثا في العملية الإخراجية من داخل “الرحم المسرحي” في مراحل التشكّل والتكوين، بالإضافة إلى البحث عن رد على سؤال مسرحي مزمن: لماذا لا يريد بعضهم الذهاب إلى المسرح؟

أما القراءات الموازية للمسرح، التي يتضمنها المهرجان في نسخته الأولى، والتي تتطلب إصغاء خاليا من المؤثرات البصرية فتتضمن نصا كان نتاجا لإقامة فنية وكتبته الطفلة نور الرياحي (15 عاما) إلى جانب الاستماع إلى واحد من أجمل نصوص عزالدين قنون وهو مسرحية “المصعد” التي سبق أن قدمها في مهرجانات كثيرة ونال عليها العديد من الجوائز.

مسرحيون غصبا عنهم

.                                                                           مثلت الندوة التي جمعت بين الفاضل الجعايبي وسيرين قنون وعبدالمنعم شويات لقاء بين جيلين متباعدين، لكن الشغف بالمسرح يجمعهم

ذهبت تونس بعيدا نحو إدماج المسرح ضمن استراتيجية تنموية وخطة وطنية تجعل منه منطلقا ومبتغى، وليس مجرد جنس فني من اهتمامات وزارة الثقافة وحدها، بدليل أن استحداث “مدرسة الممثل” التي تحصلت على تأشيرة العمل مؤخرا، هي من مشمولات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية كما أكد الفاضل الجعايبي في ندوته الصحافية للتوضيح بأن المسرح لم يعد مجرد وسيلة للترفيه أو حتى ملء الفراغ الروحي والثقافي.

ويبدو أنه لم تعد هناك علاقة للمسرح التونسي بـ”المناسباتية”، والظرفية التي تكتفي بملاحقة الحدث وتسجيل الحضور.. “حبذا ذلك”، يقول الحضور والمتوجّسون من ذهاب الأموال العمومية هدرا منثورا وسط حالات فساد تستفحل في بلد فقير، لكنه يصرف الكثير على الثقافة مقارنة بإمكانياته المالية وسط محيطه العربي والأفريقي.

ويقول الفاضل الجعايبي إن المسرح الوطني التونسي يقف على مسافة واحدة من كل الحساسيات المسرحية داخل تراب البلاد، وإن مقاييس اختيار الأعمال وبرمجتها عملية فنية بحتة، لكن المتذمرين والمشتكين كثيرون.. وهذا أمر شبه طبيعي في بلد يصبو ويتطلع إلى ديمقراطية ثقافية بإمكانيات صعبة.

كل ظروف المجتمع التونسي ووضعيات شبابه المبدع قد وقعت مراعاتها من خلال الخطة الاستراتيجية للمسرح الوطني التونسي، وفق زعم إدارته، فبالأمس كان بإمكان مسرحيي تونس التنقل بسهولة إلى الضفة الشمالية للمتوسط بغية الاطلاع على أحدث الإنتاجات الفنية، أما اليوم فلا وسيلة متاحة غير “المراكب المتهالكة للهجرة السرية”، لذلك كان لزوما على المؤسسة المسرحية الوطنية أن تجعل الفن يأتي إلينا بدل أن نذهب إليه، في محاولة لاستضافة “ما تيسر” من بعض الأعمال الأجنبية.

والواقع أن المشهد المسرحي لا يبدو قاتما في تونس بالنظر إلى إمكانيات البلاد وانشغالاتها، لكن المنتقدين محقون في إشارتهم إلى أن أموال الضرائب المخصّصة للثقافة تذهب إلى غير مستحقيها ضمن منظومة الفساد والمحسوبية.

تأثيث لا تأسيس

                                                                                                                                جليلة بكار وفاطمة بن سعيدان في مشهد من مسرحية “عنف”

بداية ينبغي التنويه إلى أن القضية التي تبدو ملتبسة، وقد تكون محيرة بالنسبة لمتابعي مسيرة المسرح الوطني التونسي، ومن الجدير توضيحها، هي أن عملية تأسيس هذا الهيكل الفني بصفته الرسمية عام 1983 على يد المسرحي الراحل المنصف السويسي، ووزير الثقافة آنذاك البشير بن سلامة، هي بمثابة التتويج ولم الشمل لجهود ومبادرات ونشاطات مسرحية وليس إعلان انطلاقة تبدأ من الصفر.

وهذه المبادرات تُحسب على مسرح الجهات التي شكلت رافدا ودافعا نحو ذلك التأسيس الذي يبدو متأخرا مقارنة بنظيره المصري أو السوري أو العراقي، بدليل أن من تولى مهمة إدارة المسرح الوطني التونسي منذ المنصف السويسي، مرورا بالفنان محمد إدريس وحتى الفاضل الجعايبي في وقته الحالي، هو فاعل ورائد ومسبب لهذا التأسيس أي أن عليه أن يرعى ويحفظ هذا الإرث دون أن يضطر إلى ادعاء إثرائه وتطويره إلاّ بما ملك من نزاهة وحسن إدارة.. صفوة القول هي أن المسرح التونسي قد تأسس قبل “المؤسسين”.

ويقول متحمسون ومغالون ومغازلون: ما كان للمسرح التونسي أن يحتل الريادة في المحيط العربي والأفريقي، وحتى المتوسطي، لولا “الإرادة البورقيبية”، ذلك أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، قد أكد في خطابه الشهير المؤرخ في 7 نوفمبر 1962 على أهمية المسرح في بث الوعي والارتقاء بالمجتمع، قد أسرّ وأوحى بشكل غير مباشر، إلى أنه “رجل مسرح ظل طريقه نحو السياسة” من خلال الاستشهاد بتجربة له على الخشبة في مراهقته، لكن الحقيقة تشي بأن بورقيبة لم يحب المسرح إلاّ رغبة في استخدامه كأنجع الأساليب نحو البروباغندا السياسية وطريقته في استدرار العطف وكسب ود الجماهير كما يؤكد الباحث التونسي عبدالحليم المسعودي، في كتابه “بورقيبة والمسرح.. قراءة في بيان تأسيسي”.

وإذا كان للمسرح التونسي من سرّ في تألقه، بحسب دارسين ومتخصصين ميدانيين وأنثروبولوجيين، فهو طبيعة إيقاع الحياة التونسية، ومزاجية أصحابها ذوي الحوارات المتوترة والجمل المتقطعة والبحث عن “الغرائبية” في السؤال والجواب.

هذا القول يجد مشروعيته بعيدا عن خيارات الدولة، والتميز الأكاديمي، وبقية العوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية، ذلك أن طبيعة الفنون لها حواضن اجتماعية تستقر أو تنفر من خلالها وفق نظريات أنثروبولوجية وطبيعة المناخات وما تنتجها من أمزجة.

لقد خلقت شعوب للشعر، أخرى للرقص والموسيقى.. فلماذا لا نتحدث عن شعوب خُلقت للمسرح؟

الطبيعة الاحتفالية للمجتمع التونسي عبر التاريخ في مكوناته الإثنية والعرقية في منطقة وُصفت بأنها مسرح حضارات (وليس مهدها)، تجعل من هذه الكتلة البشرية، ذات المزاج الحاد، كائنات تحتفي بـ”الآن وهنا”.. وهو تعريف المسرح بامتياز.

والذي زاد في حب التونسيين للمسرح إنتاجا وتلقيا، هو السياسة الثقافية التي تجلت في البرامج التعليمية كأنموذج منفرد في العالم العربي، ذلك أن مادة “التربية المسرحية” مقررة ضمن دروس التعليم الابتدائي والثانوي، وعززتها معاهد الفنون المسرحية التي ترفد كل عام خريجين ليس أمامهم إلاّ التعليم في بلد تقل فيه الصناعة الدرامية التلفزيونية والسينمائية على عكس سوريا ومصر على سبيل المثال.

موضوع آخر يعلي من شأن المسرح التونسي، ويغني من تجربته ويعزز حضوره في البلاد العربية، ألا وهو الانفتاح على تجارب وشخصيات مسرحية مهمة في المحيط الإقليمي، نذكر منها على سبيل المثال تعاونه مع المخرج لويجي دلاليو في مسرحية “فاجعة في باريس″ وكانت السينوغرافيا لسارجيو ترامونتي، والمخرج فرانشيسكو سانسي في مسرحيّة “الليلة نرتجل بيرانديلو” (إنتاج المسرح الوطني الشاب بمساهمة المعهد الإيطالي للثقافة) والمخرج نيل فليكمان في مسرحيّة “موتة العزّ” (بمساهمة المركز الثقافي الأميركي)، ولا تزال تجربة التعاون والإنتاج المشترك مستمرة رغم بعض المعوقات ذات المنشأ المادي والإداري، لكن المسرح من أساسه مبني على مبدأ اللقاء والتلاقح الثقافي، فلا وجود لتطور فني دون احتكاك أو حوار أو انفتاح.

فئة لا يستهان بها من المسرحيين التونسيين عادت إلى البلاد على فترات متباعدة، محملة بتجارب سابقة كانت قد تركتها وراءها في بلدان أخرى مع خبرات ذات كفاءة عالية مثل عزالدين قنون نفسه، والذي خاض تجارب متميزة مع أسماء أوروبية مميزة، الأمر الذي جعله يؤمن بهذا المبدأ ويعمّمه على تلاميذه ضمن المختبر العربي الأفريقي الذي أسسه في فضاء “الحمراء”.

المسرح الوطني التونسي ومسرح القطاع الخاص، حالة من التكامل إلى حد التماهي، تلخصها مبادرتا الجعايبي وقنون، ولكن، هل يمكن الحكم والتعميم أم هي مجرد مغازلة تمليها المصالح والظروف.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش