#الاستوديو_التحليلي_المسرح_العربي قراءة أولية في مسرحية (صفصاف) مسرحية (حي على الحياة) : محمد لعزيز

لا يستطيع الإبداع المسرحي أن يتخطى زمانه إلا إذا احتضن ما يعتمل في المجتمع الإنساني من قضايا وإشكالات، وما يمور فيه من أسئلة، وما يعلوه من صراعات وصدمات، وما يتهدده من مشكلات ومخاطر. وعلى المنوال ذاته لا تستطيع الذات المسرحية المبدعة تأمين حياتها ووطنها دون أن تعي نفسها، وتعي أدوارها المجتمعية. وهي في بحثها عن تطوير مجتمعها، وسيادة السلم الاجتماعي فيه، ودرء المخاطر عنه، لابدَّ لها من مواجهة الأخطار الداخلية، والتنبيه للأعداء المنظورين وغير المكشوفين، والتحذير من المنبثين في غفلة من الزمان.

بناء على ذلك تحاول مسرحية (صفصاف) أن تبني بمتخيلها الدرامي لحظات من حياة مجتمع عربي قد يكون العراق، وقد يكون أية دولة من وطننا العربي تشبه العراق وما أكثرها.

ملاحظات بصدد النص الدرامي وتيماته .

كان تشيخوف يرمي في سلة المهملات الصفحة الأولى من كل قصة كلما انتهى من كتابتها ، هو بذلك يحرر الموضوع من “الدوافع”  ويتحرر من المنطق العقلاني ، هكذا هو المؤلف(والمخرج في حالة صفصاف لأنهما واحد بقبعتين)  لا يبحث عن المنطق وإنّما يسعى رأسا إلى تطوير الأحاسيس[1] .

لقد افتقد نص صفصاف إلى مقدمات تدخل القارىء في موضوع المسرحية، إذ بمجرد ما تنفتح الخشبة ويبدأ العرض نجد أنفسنا أمام مقول نصي يحتاج إلى إعمال الفكر العميق، والذهاب به نحو تأويليات متطرفة للانفلات من شرك اللغة الدرامية التي كتب بها المؤلف (صفصاف) لنجدنا أما شريط أحداث يتزاوج فيه الماضي والحاضر، زواج شكّل دافعاً قوياً لبنينة الأحداث .

وما يؤكد ذلك بداية الحوار بالحديث عن الروح يقول وحيّد مفتتحاً الحوار: ( ما معنى أن تصل روحك للرصيف بعدك بأيام؟) ويجيب سعيّد: (الروح تنام أيضاً …روحي على العكس من روحك تصل للرصيف قبلي بأيام) في المسرحيات التقليدية غالباً ما تسعى إلى تبسيط مداخلها لشد انتباه المتفرجين، وضمان متابعتهم لها، بينما في مسرحيتنا تبتدئ بسؤال الروح، وكأنَّي بها تطرد المتلقي الكسول، وترغب فقط في أولئك الذين يملكون عيوناً  يدركون بها عمق الخطاب، المتلقي هنا أمام ذوات منشطرة الروح تسبق الجسد، وأخرى تتخلف عنه، وأنها تمتلك خاصية الجسد في النوم،ونحن نعتقد أنَّ الكاتب بنى نص صفصاف من أجل خلخلة نمط فكري متأصل في ثقافتنا، وهو ما عبر عنه وحيّد وسعيّد ، وتجب الإشارة هنا إلى أنَّ الفكر الكلاسيكي كما هو في مجتمع صفصاف سواء كان أسطورياً أو دينياً مثلما نجد عند (عنيّد) أو فلسفياً  قد انبنى على  ثنائية ميتافيزيقية مركزية هي ثنائية الروح والجسد، تحكمت الناحية المعرفية في كل الفكر المتصل بالإنسان والجسد، سواء كان تشريعاً أو معرفة أو عرفاناً”[2]

ولأنَّ الكاتب يعلم الطابع الملغز لموضوع الروح لكون المعرفة بها تتجاوز معرفة  الإنسان إلى العلم الإلهي فإنَّه استحضرها في افتتاح مسرحيته بوصفها مدار الفكر العربي الإسلامي، قديماً وحديثاً وأنها شديدة الارتباط  ببعث الأجساد والأرواح، وبالسؤال الميتافيزيقي عن أصل الوجود ومصيره على الخصوص .

على امتداد العرض المسرحي يلاحق القارىء أحداثاً لا تسير على نهج خطي، وتتطور في ممشى تقليدي، فهي تتطور وتفيض في كل الاتجاهات، جعل النص متجاوزاً عن عمد الأبنية التقليدية في الكتابة الدرامية، ليكون أكثر تعقيداً تماماً كما هي الحياة المعاصرة التي انهارت خلالها كل الأيديولوجيات، وهو بذلك يخضع لرهانات المسرح المعاصر  شكلاً ومضموناً.

على هذا المستوى الأخير تعالج (صفصاف) شواغل ومشاغل الإنسان العراقي /العربي ومعاناته الحياتية التي كبلت تجاوزه لمختلف العوائق،وأرغمته على العيش في العوز والفقر والحروب التي لا تنتهي.لأجل ذلك يكشف النص عن انحيازه إلى جهة المظلومين والمقهورين والتعساء ضحايا التسلط والتعسف، ولهذا الأمر علاقة وطيدة بالفضاء الدرامي،ونظيره المشهدي  دونما مرجعية جغرافية محددة .

و قيمة المسرحية تتجاوز المظهر الانتقادي للواقع، لأنها ذات أبعاد سياسية أعمق مما يشي به خطاب الشخصيات. وتجنباً لما يطرحه مصطلح السياسة من إشكالات نتبنى هنا تعريف ستيفان كوليني القائل (السياسة هي تلك المحاولة التي يتم من خلالها تحديد علاقات القوة في فضاء ما) [3].

إنَّي أقصد هنا قوة المسرح (في هذا العمل وغيره) الكامنة في قدرته التوليدية على  إعادة إنتاج الواقع ورسم خرائطه المشروطة ثقافياً واجتماعياً مثلما هو حال الواقع العربي.

يقول وحيّد : (أسواق الورود كلها مغلقة تماماً )

ويعقب سعيّد: (هذه أول مرة أسمع أنَّ عندنا أسواقاً للورود)

(وحيد: لقد وجدت هذه الوردة الذابلة في قارعة الطريق، نظفتها من الغبار والطين، ووضعتها في إناء الماء، قلت :ربما تصحو قليلاً من ذبولها

حميّد: وهو ينظر للوردة ولكنها ليست بوردة طبيعية)  (ص:10)

بهذا المشهد يفضح الكاتب الواقع الذي تعبر عنه المسرحية ، عالم لا ورد فيه، فأرضه يباب، أرض قفر، بلا ألوان، لا شيء غير التراب..  .

 

إلى جانب هذه الصورة حيث التراب والغبار، لا تخطئ الأذن طغيان معجم الحرب من قبيل

(جبهة القتال – قتال- أقاتل- الرصاص – جبهة القتال- التجنيد –الجندية- الحرب أكثر من مرة، بندقية مواجهة الأعداء – الأعداء -طبول الحرب ..كما لا تخطئ العين تلك البندقية الكبيرة والطويلة  الممتدة التي كان يحملها حميد وهو يستعد للذهاب لساحة الحرب من كل ذلك يفسر أسباب واقع الشخصيات في المسرحية التي عاشت أزيد من أربعين عاماً في الحروب ، لم تتوقف، ولم تستطع الأضواء الخضراء أن تلجم حركتها فظلت تسير سيرها السريع لتقتل وتطحن كل من سولت له نفسه العبور إلى ضفة الأمان . وبعيداً عن كل إسقاط نرى أن العمل لم يرسم حقائق واقعية، ولم يؤرخ لمسار الحرب في واقع بعينه،   لقد كانت المسرحية تفكيراً في هذا الواقع، وإعادة سؤال الهزائم والانكسارات  ومرارة ما ترتب عن ذلك من إرهاب وخوف وتفريق الناس، وتشتيت الأرواح وغير ذلك مما يرمز له النص والعرض معا.

إنّنا نؤمن أن إعمال الفكر في قضايا الذات والمجتمع عن طريق الفن المسرحي كما في صفصاف لهوَ أعمق أثراً، وأبعد تأثيراً من كل الطروحات المباشرة بما فيها التاريخ نفسه.

لذلك نزعم  أنَّ هذا العمل الفني (صفصاف) لا يحاكي زمنه وحسب، ولا يعبر عنه فقط، وإنَّما يغنيه، ويشحنه بأبعاد رمزيةٍ تحرض الإنسان على تغيير واقعه، وتبديل عالمه، وضبط عقارب زمنه جهة حريته وكرامته، عن طريق ما يبث فيه من طاقة خلاقة بما يملكه من وعي بظروفه، وذلك عن طريق تبئير الوعي والإرادة وإدراك الحال والمآل.  وإذا صح ذلك فإننا أمام نص يؤكد نخبوية المسرح وتعاليه  كما هي أبهى نماذجه.

مكون الشخصية في صفصاف

أشرنا سابقاً إلى أنَّ الكاتب تجاوز التطور الخطي للحكاية وأحداثها، واستعاض عن ذلك بتركيبات  مشهدية (خمسة مشاهد) أسسها على رؤية فكرية استهدفت أفعالاً عبرت عنها الشخصيات ببوح درامي، أبان بها كاتب النص عن قدرة تخييلية في تأثيث عالم (صفصاف) بخمس شخصيات تنبعث فوق الخشبة مندهشة تتأمل جوانب عالمها تتوقف وتتابع المسير في أجواء سوداوية، خمس شخصيات تجمع بينها قواسم مشتركة كثيرة منها أنها تحمل أسماء مصغرة،أو طالها تصغير خالقها (المؤلف) وهي:

وحيّد (الملقب بتعبان) كصفة لمن أصابته مشقة وكلل، وسعيّد، وعنيّد، وحميّد(أو سالم)، وصبرية الأنثى التي حمل ذكر صورتها.

والتسمية التي لجأ إليها الكاتب لوسم شخصياته هي بالأساس مجال حرية الآباء هم من يختارونها، وهي إحالة على هوية، أو هي خلق لها، لتلتصق التسمية وتسكن المولود منذ مسقط رأسه. و(الاسم وشم يربط بين الذات والتسمية ولكل وشمة كنوزها وطاقاتها وكذلك آلامها وجراحها) لذلك كانت وراء كل عملية اختيار مرجعية ما، والأمر ذاته مع صاحب صفصاف (بل وكل كاتب) فتسمية الشخصيات عنده ترمز لعوالم كائنة أو ممكنة، وتحيل على بداية ما، وتحمل في ثناياها مشروعا ومشروعية) [4]

ولأنَّ شخصيات النص لم تبد أي اعتراض على تسميتها أو رغبة في تغييرها،  فهذا يعني أنها تؤمن به، وتستسلم لسوْقها وسِياقَتِها من قبل الكاتب نحو مصائر حددها مسبقا.والحقيقة أن الأمر يتعلق بصفات وليس أسماء مما يعني أنَّ صاحبنا يرغب في أن يذوبها في أنماط إنسانية ليوسع من دائرة إبداعه.

إنَّ المشترك الوصفي للشخصيات يجد صداه في اللغة العربية الدال على التحقير في المكانة والدونية في الحجم ،والتقليل في القيمة،  والقارىء لا يعدم في عمله التأويلي إيجاد مسوغات لكل معنى من هذه المعاني بالرغم من اختلاف رؤى الشخصيات الظاهرة فوق الخشبة.

في المشترك بينها أيضاً نجد الأصابع المبتورة، التي أكلها أصحابها  بسبب الجوع وأسباب أخرى توحي بها الأحداث الدرامية،   لأسباب يعلمها القارىء من خلال سياق. فوحيّد أصابع يديه مبتورة إلا السبابة، وسعيّد أكل أصابع قدميه اليمنى واليسرى . وعنيّد ولد دون أصابع، وأكل أصابعه قيل ميلاده. هي إذن كائنات تآكلت أطرافها وقُضمت بموجب أشياء يستشفها القارىء  في سياق الحوار الدائر بينها .

على خشبة المسرح تمشي تلك الشخصيات الهوينا وهي تبرر ذلك بكونها  تنتمي للعقد السبعيني :

يقول وحيّد : أنا في الخامسة والسبعين وستة أشهر من عمري الآن

ويرد سعيّد : وأنا أصغر منك بشهر وواحد وعشرين يوماً فقط

ويقول عنيّد : أنا أقترب من أعماركم

ويقول حميّد: وللدقة.. أنا أكبر منكما بثلاثة أشهر وواحد وعشرين يوماً كاملات  (ص:10)

تقول صبرية : وأنا متعبة وفوق السبعين من عمري كما تعرفون (ص:13)

 

أجساد متعبة جسدياً ومنهكة نفسياً تنتمي كلها لجيلٍ واحدٍ، عاشت جميعها  الظروف ذاتها جعلت منها كائنات مقضومة الأطراف ومهشمة ، وأجساد ناقصة.

إنَّ القواسم المشتركة المذكورة ملمح صريح للمتلقي ليتأكد أننا أمام أزمة جيل بكامله، جيل سعى الكاتب إلى تبئير واقعه، وفضح معاناته في محاولة لتجاوزها،و الكشف عن أصلها ابتغاء الانفلات من رواسبها، ومن أزمات حاضرها .

تصور (صفصاف) إذن واقع شخصيات ضائعة وتائهة بين متاهات واقع  أهم مياسمه  التسلط القاسي على أناسه بالجوع والحرب والقتل وكل ما يجعل معيشتهم ضنكاً، ويحول دون تحقيق آمالهم .

ضراوة ذلك الواقع اختار لها المؤلف شخصيات ذكورية لأنَّها الأقدر على تحمل قساوة الوقائع الصعبة وقسوة المجتمع، والأقدر على مقاومة ومقارعة الزمن الصلب، وضنك واقعه، ولم تحضر المرأة رمز الضعف إلا في جسد رجل باسم صبرية بما هي صفة دالة على الصبر والجلد الاحتمال  أو هي أنثى في لبوس ذكر /رجل[5] ..

المهم أنَّ تلك الأجساد المنهكة عبرت وجوهها الشاحبة عن دواخلها،وكشفت ملابسها المغبرة والموحلة والتي لا ألوان صافية لها، أو هي ألوان تكاد لا تبين، لا جمالية فيها هي إذن ملابس تلائم واقعاً طاحناً  لا حسن فيه ولا أناقة إنسانية.

الحركة ولابدَّ من الاعتراف هنا ما دمنا في صلب الحديث عن الشخصيات أنَّ حركية الممثلين ساهمت في تكون لغة جسدية لا تقل قيمة عن اللغة الملفوظة في توصيل الدلالات النصية ونقل المعاني والأفكار للجمهور،  ويعزى ذلك إلى كونها منظومة إشارية بمعانٍ منفتحة  ولغة  بصرية جسدية استعان بها مخرج (صفصاف) لتشييد رموز بانية للتشكيل الحركي عند شخصيات  سبعينية ذات حركات بطيئة منتظمة على مساحة الخشبة، غير أنها حركات دينامية حين تنتفض وتحتج على واقعها القاهر والضاغط، آنذاك فقط ترسم لذواتها خطوط تحركات تصل حد الرقص الدرامي يبين نجاح المخرج في تصميم حركات الشخصيات في تساوق مع داخلها، وما اعتمل فيها من مشاعر متلونة عبر عنها الجلوس الجماعي والهرولة الجماعية والتجمع وقوفا  في زاوية الرصيف والابتعاد عنها، والمشي الهادىء، والتوقف المفاجئ، والانتقال خلفاً أو أماماً إلى غير ذلك مما يشي بإيقاع جسدي عبر عن قدرة الممثلين واحترافيتهم  .

 

مكون الفضاء في صفصاف

تجري أطوار المسرحية في الفضاء العام، فضاء شوارع وطرقات فضاء شاسع شساعة الوطن بلا ديار ومنازل وعمارات.وحدها طرقات تحفها أرصفة مصبوغة بالأبيض والأصفر،تقلص من رحابتها، على زواياها تقف علامات تشوير مضاءة باللون الأخضر الخاص بمرور السيارات المسرعة، وكل الآلات المانعة للراجلين من تجاوز الرصيف.

فعل المنع هذا قاس وقاتل لا يكتفي بتضييق الخناق وحصار العابرين عن المرور إلى الضفة الأخرى، بل إنه يهدد كل من سولت له نفسه ذلك بالهلاك والدوس أو القتل  بموجب سرعة الآلات العابرة ومشروعية مرورها. ليصبح الضوء الأخضر تهديداً صريحاً بالقتل،وحده الطوار  يحمي الشخصيات الراغبة في العبور ، غير أنها هي أيضا تتحول إلى رقيب لبعضها البعض، فكل من أبدى جرأة للعبور، رفعت في وجهه لفظة مانعة تراوحت بين: هذا حرام، هذا انتحار، هذا قلة إيمان.. (ص:9)

إنْ يتميز فضاء المسرحية بالضيق والحجر على الناس وحجزهم في مساحة خانقة، أمر طارىء لم يكن كذلك  قبل أربعين عاماً ، كان الفضاء رحباً منشرحاً والنفوس مطمئنة:

يتساءل  سعيد:  ولكن لماذا  الرصيف ضيق هكذا؟

يجيب وحيد: أتذكره قبل أربعين عاماً كان واسعاً جداً

ويعلق عنيد: كان الرصيف يتسع لسجادة صلاتي وتسبيحاتي ودعائي وحي على الصلاة أو حي على الحياة .

بين الصلاة والحياة عالم الآخرة وعالم الدنيا ، الدنيوي والأخروي ، المقدس والمدنس..

إنَّ تبدل حياة الناس من سعة الأفق ورحابته إلى ضيقه وانكماشه، هو ما حذا بمخرج المسرحية إلى صبغ الفضاء اللعبوي بالسوداوية طوال مدة العرض، وليظل حيزَ تنقل الممثلين تحت ضوء المنع (الأخضر للسيارات )فوق الخشبة شبه معتم تكاد لا تبين معالمه. تحولت معه تلك المساحة إلى فضاء رمزي وبلا حميمية .لأجل ذلك كانت الشخصيات تتنازع الأمكنة كل شخصية تخاصم الأخرى وتصرخ: (هذا مكاني، لقد وقفت في مكاني)  هو الضيق الداخلي قبل المكاني ،لا أحد مرتاح في هذا الفضاء الضيق الخانق .

ومع ذلك فهو فضاء يمور بحركة دائرية تتماوج خلاله مشاعر مضطربة، هو فضاء بين السماء والأرض لا غرف تحضن شخصياته ولا زوايا أو حيطان تأويهم ، عالم مشرع لا أسرار فيه مفتوح فاضح لكل الحكايات والتحولات  والهواجس، وبالرغم من أنَّه  عالم ضيق خانق لتطلعات الأرواح التي تعيش فيه، إلا أنَّها أرواح لا تكف عن الحلم والتمني والتطلع نحو أفق آخر باد للعيان ، أفق منظور ظلت الشخصيات كلها ترنو إليه غير أنها كلما خطت نحوه باعتباره حلماً عادت أدراجها محملة بالخيبات والنكوص.

ولكأنَّ الزمان العنيد يجاهد كي تظل الهويات هي نفسها لا تتغير على امتداد 40 عاماً ،غير أنَّ شخصيات المسرحية  تصر على رفض واقعها ،مشتاقة كي يعيد الزمن عقاربه إلى ما كانوا عليه،  لتعيش استرجاعاً إبدالياً يستغور ذواتها وأزمنتها الجميلة التي كانت فيها الأرض أكثر رحابة و أكثر إشراقاً ودفئاً. وهذه الاستعادات للسالف من الزمان والمكان هي استعادة للذات بلحظاتها المنغرسة في الوجدان.

بين الوضع الحالي للمكان، ومحاولة الانعتاق منه والسفر نحو أفق آخر مغاير تترآى لسعيد وأصحابه بناية بيضاء، اعتبرت  المكان البديل المتشوف إليه ، المكان الأمنية،ولأنَّه كذلك فقد أضحى مكاناً متعدد الهويات فهو مشفى في حين سعيد، وهو بيت الله ومكان الصلاة في نظر عبيد، وهو في نظر وحيد مركز البريد هي في كل الحالات الوجهة البهيجة المتطلع إليها. وهي (البناية) في كل الحالات أفق الانعتاق من أشكال اليأس والدمار المتوحش وسواد العالم مقابل بياض البناية البيضاء  فيها الأفق المستقبلي لتجاوز الحال المنهك بسياسات قديمة حالت دون تحقيق السعادة الفردية والجماعية وتجاوز التعاسة والعبور للأفضل والأحسن والأجمل.

مكون الزمان في صفصاف

على امتداد مدة العرض المسرحي يتوزع خطاب الشخصيات بين أزمنة متقابلة ، ماض مأسوف على انقضائه، الأول ماضٍ عبر عنه حميد بقوله: (إنَّ الرصيف كان واسعاً جداً قبل أربعين عاماً ، أضحى اليوم زمناً تشتاق إليه شخصيات عاشت ظروفه الماضي الممتد على طول أربعين سنة عايشته شخصيات عمّرت أزيد من سبعين عاماً.

وحاضر الحاضر ممتد هو زمن حروب ومآسٍ وجوع ، زمن جعل السعادة تغادر البلاد بسبب الدمار يقول حميد : يوم أمس استلمت شهادتي  الجامعية من كلية الآداب قسم الفلسفة، وغداً سأذهب للحرب لكي أقاتل الأعداء بفلسفتي ومنجل أبي الفلاح جاثم على صدورهم يحاصرهم فوق الرصيف يمنع عنهم كل تشوف إلى الآتي، أو طموح نحو زمن آخر. وأما الزمن الأخير فهو الزمن الآتي المحلوم به يمثله انطفاء الضوء الأخضر.

ويضيف في مكان آخر :وهو يشير لشخص هو وحده من يراه: ما الذي يدعوك لقتلي؟ الصواريخ التي أطلقوها على البلاد، والصواريخ التي أطلقتها البلاد كانت كفيلة أن تجعل السعادة تغادر البلاد؟

ويقول سعيد: لم تقبل جميلة  زوجتي أن أذهب للحرب.

يقول وحيد :الحرب أكذوبة حتى لو كانت عادلة!

ويلخص حميد أعمار أصحابه: عمري كله انقضى على هذا الرصيف .ويقول سعيد مخاطباً وحيد: لماذا لم تأكل أصبعك السبابة؟ يجيب هذا الأخير: تركته لكي أشتم به هذي الحياة التي شتمتني كثيرا.

في هذا الزمن الضيق أو زمن الكوارث ماتت فيه الخطيبة، ومرضت الحبيبة، وأكل فيه سعيد أصابع يديه، ووحيد أصابع قدميه، وعانت صبرية معاناة صعبة هؤلاء جميعهم عاشوا زمن الضنك والحرب والخراب.

ظل هذا الزمن الطاغي في العرض يجري دون توقف زمن الحرب وزمن آثارها على الوضع ، هو زمن جارف دفع وأرغم الشخصيات على البقاء وراء الرصيف،يعيشون التوتر والإنهاك ، هو زمن تراجيدي لا مهادنة فيه، زمن ثابت يأكل من أجساد الشخصيات ويعصر ذواتهم في ركن من الرصيف عبرت عنه الإضاءة بالسواد كإطار يلف أجساداً متهالكة عجوزة.

وما من زمن أمام تلك الشخصيات غير زمن افتراضي وحده سمح لهم بتشوف زمن السعادة، إنْ تحققت أحلامهم، لذلك وجدنا في ثنايا الخطاب المسرحي عبارات من قبيل (زمن الحياة)  أو  الزمن الحالم، غير أنه لا يعدو أن يكون زمناً شعورياً .

في النص الدرامي حضرت الإرشادات التالية :

( الوقت  ليلاً وقد يكون نهارا)

(الثامنة بعد منتصف الليل) (ص: 8)

(الساعة التاسعة فجراً (ص:8))

ليس من تفسير لعبارات من هذا القبيل غير عدم اكتراث كلي بالزمن، أو هو تلاعب به ، إنها الأحداث التي تمر لا يهم متى كانت ومتى تنتهي ، غير أنها أحداث تفرض نفسها ، قد تمر في كل وقت أو أنها ستتكرر إلى درجة حضورها الدائم، لأنَّ الواقع سوداوي الطابع فلم يعد يهم متى تكون الثامنة ، ومتى تجري المسرحية ذاتها أليلاً أم نهاراً .

 

ويمكن أن نضيف لأزمان النص /العرض بعض المقاطع الحوارية التي شكلت لوازم زمنية ظلت تتكرر معبرة عن تذكير الجمهور بضرورة استحضارها كل مرة بموجب دلالتها في سيرورة بناء المعنى النصي  ونميز منها ما يلي:

وحيد: حميد ابتعد عن مكاني على الرصيف

حميد: ابتعد أنت أولاً، فتبتعد عن مكانك على الرصيف.

سعيد: لن أسكت بعد الآن على احتلال مكاني.

عنيد: هذا الرصيف رصيفي منذ أربعين عاماً.

إلى جانب هذا  الشجار عن الأمكنة  هناك لازمة أخرى تتمثل في صفارات القطار وصدى أصوات عرباته المزعجة والمخيفة  ربما عبرت عن الخيبات التي لا تتوانى ولا تتوقف حتى لكأنَّ تلك الأصوات لازمة صوتية  زمنية لواقع عاصف لن يهدأ كي لا تطمئن قلوب هؤلاء الذين يلتفتون كلما مرّ وأخافهم.

 

إلى جانب تلك الأصوات تعج الخشبة بأصوات  وصراخ وانفجارات وآهات وترانيم ورطانات وأجراس  وصفارات جعل من الخشبة أصداء حيوات الشخصيات، وعبرت عن ما يعتمل في أحشاء تلك الشخصيات المتراوحة أنفاسهم بين الألم والأمل، بين واقع ناء بكلكه على أجسادهم الواهنة،و حروب لا تنتهي إلا لتبدأ ، وموت وبكاء ..كل ذلك جعل زمن الخشبة يعج بإيقاعات صاخبة تصل حد الجذبة مادامت تختلط بمناحات تأتي من خلف الستار تعضدها حركات أجساد الممثلين وهم يرفعون أياديهم تارة، ويمشون منكسرين تارة أخرى، ويجرون أخرى.

إنَّنا أمام سيمفونية عربية ، موسيقى سوداء إنْ جاز لي التعبير.

 

خاتمة

قد توحي بعض فقرات هذه القراءة أننا أمام خطوط التماس مع الواقع العراقي/العربي، والحقيقة التي لا تحتاج إلى كثير كلام أننا أمام عرض مسرحي. فعلى خشبة المسرح لا شيء غير الفن والإبداع، وأما الحياة الواقعية فخشبتها تقف وراء أستار المسرح، وإذا ما نقل الواقع إلى الخشبة نكون أمام شيء آخر غير الفن.

هو عرض و موضوع صادم يضع الإنسان العربي المعاصر أمام مخاوف من واقعه، بل وأمام مواجهته ومواجهة أزماته ابتغاء إيجاد حلول لواقع قاس يرغمه على الامتثال المطلق له، ويمعن في قساوته والامتثال له .نحن إذن أمام مسرحية تنزف أسئلة عن الواقع والمآل ..

[1] – أندري تاركوفسكي السيناريو والإخراج ترجمة محمد ماسي جريدة الاتحاد الاشتراكي  بتاريخ 16 أكتوبر 2016 ص:10

[2] – فريد الزاهي “الجسد والصورة والمقدس في الإسلام” افريقيا الشرق ، الدار البيضاء، المغرب، 1999، ص: 42

[3] – جو كيهلر “المسرح والسياسة” ترجمة لبنى إسماعيل، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ج م ع  2015، ص:11

[4] – عبد الله حمودي” الحداثة والهوية ص 186-169

[5] –  لا أدري  لماذا أستحضر “صبرية” تلك الفنانة العراقية (عضو في فرقة للفنون الشعبية) التي فرت نحو سوريا بحثا عن لجوء نحو أمريكا غير أن الخيبة  ستلاحقها  هي وابنتها حين أغلقت أمريكا سفارتها بسوريا زمن الفوضى.

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر