استذكارٌ عائليٌ لأحد روّاد المسرح الحديث في العراق وتنوّع أدائي مثيرٌ للجدل / فيصل عبدالله

 

 

المصدر/المدى/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

على مدى ثلاث ليالٍ، قدمت فرقة “ستوديو الممثل” اللندني بقيادة المخرجة المسرحية العراقية روناك شوقي وفريق عملها مسرحية “كان ياما كان في حلم” على خشبة مسرح كويسترز، غرب العاصمة البريطانية لندن. وتأتي هذه العروض، ضمن حفل استذكار عائلي بمناسبة مرور عامين، أو حولها، على رحيل الممثل القدير خليل شوقي، أحد أعمدة وروّاد ومؤسسي حركة المسرح الحديث في العراق.

فقرات الحفل تنوعت بين تقديم نبذة حياتية مختصرة عن الفنان الراحل تناوب على قراءتها الفنانة مي شوقي وفارس شوقي وأيسر شوقي وواثق شوقي، وعلى شكل نصوص شخصية مؤثرة وحميمية توقفت عند أبرز محطات حياة والدهم كأبٍ ومعلم وصديق وفي عائلة كبيرة عُرفت بولعها الفني، والمسرح بالذات. كلمات عائلة شوقي لم تنس من شارك والدهم رحلة الحياة والمسرح، بل استذكروا أيضاً الفنان الكبير يوسف العاني وفنانة الشعب الممثلة ناهدة الرماح اللذين غيّبهما الموت خلال العام الحالي.
-ومن مقاطع فيديوية عائلية خاصة نتعرف على عالم الفنان شوقي، ومن خلال مقاطع حوارات يتحدث فيها عن ظروف نشأته العائلية واشتغالاته الفنية في المسرح والتلفزيون ومواقفه السياسية وما تعرض له من اعتقال بسبب تلك المواقف، وكيف كان يلتقط حكاياه من أفواه الناس العاديين ويختم بما ورثه من والدته من “عزة النفس” كما يقول.
-وقامت المخرجة/الممثلة روناك شوقي بإعداد نص المسرحية، وبتصرف معاصر يقترب من عالم اليوم، من حوارية “السيد والعبد”، نص بابلي قديم مكتوب باللغة المسمارية قام بترجمته المؤرخ الألماني دبليو. جي. لامبرت وضمنه في كتابه “أدب الحكمة البابلية” وعربه عن الإنكليزية المصري عبد الغفار مكاوي. وسبق للمخرج العراقي الراحل عوني كرومي أن قدمه في لندن بداية تسعينيات القرن الماضي، وقام بأداء شخصية “العبد الفنان خليل شوقي، فيما أُسند دور “السيد” الى الممثل الراحل منذر حلمي، وعبر حوارية تألق فيها فريق العمل أداءً وإخراجاً، وكأنها كانت آخر مشوار فني لتعاون ثلاثي مسرحي نادر قبل ان يخطفهم الموت تباعاً بكمائنه.
-تُدخل مسرحية “كان ياما كان في حلم” مشاهدها مباشرة في أجواء لعبة حوارية محكمة ومكثفة فيما تستبطنه، وعلى شكل لوحات فنية متقنة، قوامها لغة بوح علني عما يجول في خواطر ممثلة ومغنية أفلَ زمانها (أداء الممثلة روناك شوقي)، وبين خادمتها الأمينة فيروزا (الكاتبة سلوى جراح). ولعل حوارية السيد والعبد، كثيمة ونص درامي، أستهوت الكثير من كتاب المسرح العالميين، نذكر على سبيل المثال- لا الحصر- مسرحية “الخادم” للبريطاني هارولد بنتر، تلك التي حولها الأمريكي جوزف لوزي الى فيلم سينمائي رائع، ومثله مسرحية “عربة إسمها الرغبة” للأمريكي الآخر تينيسي وليامز ولتأخذ صيغتها السينمائية على يد أيليا كازان بفيلم فاز بثلاث جوائز أوسكار، ومسرحية “السيد بونتيلا وتابعه ماتي” للألماني برتولد بريخت.
-الحكاية تأتي تترى، ومن خلال مقدمة قصيرة ومتن أطول نسبياً جُمعت في فصل مسرحي واحد. نبدأ بالتعرف على السيدة الممثلة والمغنية السابقة حين تسأل خادمتها عن اليوم وحالة الطقس خارج البيت ورغبتها بزيارة القصر، تورية عما كانت تعيشه وتعرفه. إلا أن جواب الخادمة فيروزا كان حاسماً بان الأمور تغيرت ولم يعد للقصور وجود. من هذه البداية ندخل كمشاهدين تدريجياً في لعبة سردية حذقة تطال تبدلات الزمن وتغيرات الأماكن، ومعها يتصاعد الشد الدرامي بين طرفي نقيض. طرف عاش الشهرة وتذوق طعم الجاه والحظوة حتى غدت صنواً لسلوك ومجد عابر، وآخر أقرب للند والعارف بما يجري على أرض الواقع. ذلك أن العودة الى الماضي، بما يحمله من رمزية، لا توفر ضمانات لنهايات سعيدة، بل أحياناً تفضي الى نتائج مجللة بالندم، وهو ما نتابعه على المسرح، بفعل استمراء الزمن.
-تتخذ فكرة الفعل واللا فعل، وما يشتق منهما، مكاناً بارزاً ضمن لوحات العمل، ومن خلال حوارية تبلغ ذروتها الدرامية
بالمصارحة لما كان وما كان ينبغي أن يكون وفي إشارات صريحة وبليغة الى عالم اليوم. فما تحمست إليه تلك الممثلة/المغنية لفكرة الثورة، كحل شخصي وعام، سرعان ما تتراجع عنه، بفعل غياب الوعي وعدم إدراك الشعب لـ “بشاعة” و “الفوضى..الفوضى..الفوضى….” التي تضلل حياتهم، وتغدوا “أكل وجبة دسمة” هو كل ما يتمنون كما تقول لفيروزا. ما يجعلها تحجم عن التفكير بالثورة، وفي هذا الزمن الرديء، أو أن طالبت بتساوي حقوق البشر أو ناقشت فكرة العدالة إذ ستتهم بالجنون. بالمقابل يأتي جواب فيروزا صادماً وكأنه توصيف لعالم لا تعرف تفاصيله سيدة حبيسة ماضيها وفضاء أسوار سكنها. عالم “يقتل فيه الإنسان او يسلخ فيه جلده أو يترك في السجن كالكلب الميت” لسبب تافه..عالم أختلط فيه الظالم بالمظلوم، الطيب بالشرير،…كلهم كلهم منسيون في مدن منسية”. في حين تأتي الخطوط التالية من هذه الحوارية بمثابة بيان قاسٍ و “بأسى” “ما أسوء حياتكم أيها البشر” التي تكررها أكثر من مرة.
-وبقدر ما تثير هذه الحوارية الجدلية من قلب لمعادلات تستحضر الرأي والرأي الآخر، ومن خلال خلق حالات صراع ودراما عنيفة بين هاتين الشخصيتين، فإنها تغري وتشرك المشاهد بتداول المخبوء والمستور علناً حسب المبدأ البريختي القائم على التشارك بين ما هو معروض وما يدور في ذهن المشاهد. في حين جاءت عناصر سينوغرافيا فضاء المسرح لتضفي مفرداتها على هذا العمل بعداً جمالياً إضافياً، وعبر هندسة لافتة لفضاء المكان بما يمنح للمشاهد متعة التنقل بين الأداء الحركي الحي والصور السينمائية تلك التي استعارتها من أفلام عربية وأوربية تجمع العشاق وعلى أنغام موسيقى تتنقل بين الأوبرالي، خصوصاً مقدمة العمل، والسمفوني، وكأنها تستحضر عالماً صار يستدعي الحسرات. تمكنت المخرجة روناك شوقي في عملها “كان ياما كان في حلم” إن تنوع بين رؤياها لوظيفة المسرح، وبين الحفاظ على جمالية العمل المسرحي. وفي أداء تمثيلي لافت يحسب الى الثنائي، شوقي/ سلوى جراح، الأخيرة رافقت عمل فرقة “ستوديو الممثل” منذ بداية تأسيسها قبل أكثر من ربع قرن. عمل ينفذ الى عمل الشخصيات، ويستحق أن يتكرر عرضه على خشبة مسارح أخرى، فضلاً عن كونه إضافة نوعية الى رصيد فرقة “ستوديو الممثل” الإبداعي.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *