إيفو فان هوفا ومسرحية “الملعونون” الكتابة الإخراجية الخلاقة

مشهد من مسرحية الملعونون موقع مهرجان أفينيون

 

 

 

 

 

د. صبري حافظ

حينما أخرج المخرج البلجيكي أيفو فان هوفا (المولود 1958)، وهو مدير مسرح تونيل Toneelgroep  في أمستردام، الذي يعد بمثابة المسرح القومي الهولندي، في العام الماضي مسرحية آرثر ميلر الشهيرة (مشهد من الجسر A View from the Bridge) لمسرح “الينغ فيك Young Vic” في لندن تحول العرض إلى حديث بريطانيا المسرحي. ونال عنه جائزة أوليفييه في الإخراج المسرحي للعام الماضي، وهي أرفع الجوائز المسرحية الإنكليزية. وحينما انتقل العرض نفسه إلى الولايات المتحدة وعرض في “برودواي”، لم يقل ما ناله من تقدير نقدي وجوائز، عما حصل عليه في بريطانيا، إذ حصل على جائزة دائرة نقاد المسرح الأميركية. ذلك لأن فان هوفا استطاع أن يطرح نفسه طوال السنوات التي أدار فيها مسرح تونيل في أمستردام (2001 حتى الآن) وأخرج له خلالها العديد من الروائع المسرحية، كأحد أبرز مخرجي المسرح في أوروبا وأشدهم تحكمًا في أدواته الإخراجية، وأغزرهم إبداعًا في مفردات لغته المسرحية، ووعيًا بدلالات التشكيل المشهدي والحركة.

لذلك حرصتُ على مشاهدة عرضه، الذي استقدمه أعرق المسارح الفرنسية “الكوميدي فرانسيز” وأهمها (يستمر عرض المسرحية حتى 13 يناير/كانون الثاني)، لإخراجه له في أول عرض يقدمه في مهرجان أفينيون، منذ ربع قرن لم يقدم فيه “الكوميدي فرانسيز” أيًا من عروضه في هذا المهرجان الشهير، الذي بلغ دورته السبعين هذا العام. وكعادة كبار المخرجين الأوربيين يختار المخرج المسرحية التي سيخرجها للفرقة الداعية. وقد اختار فان هوفا، الذي سبق له أن قدم عروضًا مأخوذة عن سيناريوهات ثلاثة من أفلام إنغمار برغمان على مسرح تونيل في أمستردام، أن يكون عرضه “للكوميدي فرانسيز” مسرحة لـ (الملعونون Les Damnes) المأخوذة عن سيناريو فيلم لوتشينو فيسكونتي Luchino Visconti، الشهير عام 1969 ويحمل الاسم نفسه بالإنكليزية، وإن اختلف اسمه الإيطالي الأصلي فهو بعنوان (سقوط الآلهة La caduta degli dei). وهو الفيلم الأول في ما يعرف باسم ثلاثية فيسكونتي الألمانية، حيث تلاه “موت في البندقية” 1971 و”لودفيغ” 1971.

والواقع أن فان هوفا صمم إخراجه خصيصًا للعرض في أكبر فضاءات المهرجان وأشدها مهابة، ألا وهو فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي Cour d’Honneur du Palais des Papes ومسرحها الضخم الذي يمتد طوله لأكثر من أربعين مترًا، ويزيد عمقه على العشرين. وقد استخدم العرض بمهارة إبداعية ملحوظة رحابة تلك الخشبة الفسيحة، ومهابة المبنى الذي يشكل إظهارًا لها لإضفاء أبعاد جديدة على تأويله المعاصر لنص فيسكونتي، ودخل بعرضه في نوع من الحوار، أو المباراة البصرية مع هذا الفيلم المتميز، ومع لغة فيسكونتي البصرية المتقدمة. عرض إيفو فان هوفا الجميل والممتع معًا، بتأويله المعاصر لتحولات أسرة إيزينبك في قبضة الحكم النازي أثناء مرحلة صعوده، عرضٌ تحذيري يريد منا أن نتريث قليلًا عنده، لندرك كيف يعيد خطاب اليمين الجديد في أوروبا، مفردات خطابات النازية واستراتيجياتها في مرحلة صعودها الدامي في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي. ويكشف لنا عن المسارب التي يتسلل منها الموت والدمار ليلتهم القيم الإنسانية والأمل.

حينما ندخل فضاء ساحة الشرف بالقصر البابوي، نجد أن خشبة مسرحه العملاقة فارغة في الوسط، وقد فرشت منطقة الوسط فيها بغطاء برتقالي يلفت لونه الساطع الانتباه، ووراءه شاشة سوداء ضخمة لا يقل طولها عن عشرة أمتار في ارتفاع خمسة أمتار. وفي أقصى الناحية اليسرى من المسرح، أي يسار المسرح المواجه للجمهور نجد مجموعة من المربعات المرتفعة قليلًا عن الأرض، وبينها قواطع أو حوائط تقسمها إلى عدد من الأقسام، بينما في أقصى المسرح من الناحية اليمنى ما يشبه المصطبة الضخمة التي تمتد بعمق المسرح، وعليها ستة نعوش متجاورة وكأنها في انتظار الامتلاء واحدًا بعد الآخر، كما سيجري أثناء العرض، الذي يوشك مشهده في البداية أن يكون الساحة التي سيكتب عليها المخرج بمنطق الكتابة الأوروبية التي تبدأ من اليسار وتنتهي سطورها في اليمين، رحلة الحياة من التألق، حيث ستتحول الحواجز بين الفضاءات المختلفة في يسار المسرح إلى صفوف من لمبات الإضاءة، والمساحات المختلفة إلى ما يشبه غرف الممثلين، وهم يستعدون لمشاهدهم التالية أو يستريحون في انتظارها، والحياة المترعة بالحيوية والحركة، إلى الموت الذي ستنتهي الشخصيات في نعوشه المفتوحة في آخر سطر المشهد في يمين المسرح، في نوع من تأكيد جدلية الحياة الموت في هذا العمل المسرحي المهم.

مسرحية الملعونون 

فالعرض يحرص من البداية على تفكيك عملية المسرحة أمام أعين المشاهدين، ليثير تفكيرهم أو يحول بينهم وبين التماهي مع الشخصيات، فلسنا بأي حال من الأحوال بإزاء عرض من عروض الحائط الرابع التقليدية. إذ يبدأ العرض بكل الممثلين وعددهم 32 ممثل أمامنا، وسوف يعيد ظهورهم الجمعي عدة مرات طوال العرض، وكأن هذا الظهور أحد علامات الترقيم في العمل المسرحي، مع تناقص عددهم بالتدريج، بالموت أو بالقتل والانتهاء في النعوش في أقصى اليمين. ومع تلك البداية التفكيكية يستخدم العرض أيضًا الأشرطة الصوتية أو الفيلمية الوثائقية التي يخبرنا أولها بحريق الرايخستاج  Reichstag Fire في 27 فبراير 1933، وصعود النازي إلى الحكم في ألمانيا بعد انتخاب هتلر مستشارًا في يناير عام 1933، التي تموضع الأحداث التي تدور على الخشبة في سياقاتها التاريخية. حيث يحرص العرض على خلق هذا التوازي بين ما يدور في حياة هذه الأسرة وما يدور في ألمانيا ككل، في نوع من لعبة المرايا المتقابلة. ثم ينصرف الممثلون إلى عملهم، أي تقديم أولى مشاهد العرض حول رئيس تلك العائلة الصناعية الألمانية الكبيرة البارون “يواكيم أيزينبيك” Baron Joachim von Essenbeck وأفراد أسرته وخلصاء مؤسستهم الاقتصادية الضخمة، التي يشير كثيرون ممن تناولوا فيلم فيسكونتي إلى أن اسم العائلة، هو كناية واضحة عن بلدة Essen التي انحدرت منها عائلة كروب Krupp صاحبة مصانع الصلب العريقة والمعروفة بهذا الاسم، والتي قامت على إنتاجها من الحديد والصلب، الصناعات الحربية الألمانية والمدافع العملاقة منذ الحرب العالمية الأولى، وما جرى لها ولمصانعها في زمن النازية.

ويقيم كل من فيلم فيسكونتي وعرض فان هوفا المسرحي توازيًا بين حريق الرايخستاغ وقتل البارون يواكيم إيزينبيك، في القسم الأول من العرض، لأنه كان يمثل الأرستقراطية الألمانية القديمة، التي كانت تحتقر هتلر، ومنهجه في التعامل مع كل ما تمثله التقاليد والثقافة الألمانية العريقة معًا. وكأننا بإزاء بداية تدمير رمزَي التقاليد والقيم القديمة: الرايخستاغ (البرلمان رمز الممارسة الديمقراطية)، والرأسمالية التقليدية العريقة، رمز الاستقلال الاقتصادي الحر الذي سيطيحه هتلر مع إطاحته المؤسسة الديمقراطية ذاتها. وإذا كانت الأشرطة الوثائقية القديمة التي عرضت على الشاشة الضخمة، قد جسدت لنا بشاعة حرق الرايخستاغ، فإن إجبار البارون يواكيم إيزينبيك على الدخول إلى النعش الأول وإغلاق النعش عليه، ثم تجسيد موته البطيء داخل النعش المغلق أمامنا على الشاشة الضخمة، وبراعة الممثل في تأدية ذلك، جعل الجمهور يتململ في المقاعد ذعرًا؛ بصورة أصبح معها المشهد في عرض فان هوفا المسرحي أقوى تأثيرًا من إطلاق الرصاص عليه في فراشه في فيلم فيسكونتي.

وقد شاهد الجمهور قبل هذا المشهد المؤثر كيف أنه تم الإيقاع بنائبه “هربرت ثالمان” في شركة الصلب العملاقة، وهو زوج “إليزابيث” ابنة أخي يواكيم، خاصة بعدما أعلن البارون في حفل عيد ميلاده كراهيته للنازية، وتعيينه لهربرت مديرًا للشركة عند تقاعده، بسبب مشاركته له في آرائه السياسية وكفاءته، وإجباره على الهرب وإلصاق تهمة قتل “يواكيم” به. وهكذا آلت إدارة الشركة العملاقة إلى “كونستانتين” ابن يواكيم الثاني الفاسد، والعضو النشيط في فرقة العاصفة النازية Sturmabteilung  والمشهورة باسم (SA). بينما كان الحفيد “مارتن” الذي آلت له بحكم الوراثة، وحكم الدور البطولي الذي لعبه والده في الحرب العالمية الأولى ومات فيها، أكثرية اسهم الشركة، غارقًا في اهتماماته الجنسية الغريبة بالأطفال والعاهرات والولع بالتحرش بفتيات العائلة الصغيرات، وبطفلة يهودية جميلة قادها اهتمامه الجنسي بها للانتحار، وانتهت في النعش الثاني، بعد نعش “يواكيم” الذي كان ثاني النعوش الستة؛ وهو الأمر الذي أوقعه في قبضة سلطة قريب العائلة “آشنباخ” الذي كان عضوًا في فرقة الحماية Schutzstaffel المعروفة باسم (SS)، المنشقة عن الـ(SA) والمناوئة له في آن. فقد عرف بموضوع انتحار الطفلة اليهودية، وعلاقة مارتن بالأمر، ووعد بمساعدته وحمايته، مقابل وعد مشابه منه بالالتزام بتوجيهاته. مع أن “مارتن” ظل دومًا متمتعًا بحماية أمه البارونة صوفي أرملة ابن البارون يواكيم الأكبر، التي كان نفوذها في العائلة يتزايد، مع تنامي علاقة عشيقها “فريدريك بروكمان”، المدير التنفيذي في الشركة، بضابط الـ(SS)، الذي سرعان ما خلصه من غريمه “كونستانتين” ومهد أمامه طريق الصعود لإدارة الشركة العملاقة. وذلك في تلك الليلة التاريخية المعروفة باسم (ليلة السكاكين الطويلة die Nacht der langen Messer) في نهاية يونيو/حزيران عام 1934.

كأن تلك الليلة التاريخية تفصل بين ألق الحياة وتوهجها في ألمانيا كلها، وسيطرة سواد الرعب والموت والدمار عليها بعدها

والواقع أن تجسيد فان هوفا للمجزرة التي تمت في تلك الليلة الشهيرة في تاريخ صعود النازية، التي تعزز بعدها نفوذ هتلر المطلق في ألمانيا كلها، بعدما تخلص من كل مخالفيه، بمن فيهم عدد من أبرز أعضاء الحزب النازي الذين كانوا يشعرون باستقلالهم النسبي عنه، كان من أجمل التجارب البصرية والحركية التي شاهدتها على المسرح، برغم كثرة ما شاهدت عليه من عروض، ولكبار المخرجين. وقد دفعني جمال تجسيده لها إلى العودة لفيلم فيسكونتي ومشاهدته من جديد، وأستطيع الجزم بأنه تفوق بصريًا وحركيًا على فيلم فيسكونتي الجميل في هذا المجال. هنا بدت أهمية غطاء الأرضية البرتقالي الذي توسط الخشبة من البداية، الذي دارت عليه الأحداث كلها. فقد جسد أمامنا وقائع تلك الليلة الشهيرة بشكل رمزي يلائم المسرح، حيث كانت تفاصيل الاحتفال الحسية بالقوة والسيطرة بعد قيام الـ(SA) بنجاح بحرق كل الكتب المعادية للنازية أو غير المتماشية مع رؤيتها في جل ميادين المدن الألمانية، تجسد أمامنا في صورة شخصين صاخبين سكرانين، ينزلقان فوق الأرضية المبللة الملساء، بينما تعرض الشاشة الضخمة عشرات الأعضاء العرايا على هذه الأرضية البرتقالية، في محاكاة تضخيمية لما يدور أمامنا، تنتهي بهم جميعًا غارقين في دمائهم. بعدها يجيء عمال المسرح للف ذلك الغطاء البرتقالي، والكشف عن أرضية سوداء من تحته، وكأن تلك الليلة التاريخية تفصل بين ألق الحياة وتوهجها في ألمانيا كلها، وسيطرة سواد الرعب والموت والدمار عليها بعدها.

وهكذا يتعزز الارتباط بين ما يدور في الأسرة وما يدور في الواقع السياسي الألماني من ورائها من ناحية، وبين جدلية الحياة الموت التي حرص الإخراج المسرحي على رقش مفرداتها في تضاريس المشهد من البداية من ناحية أخرى. لأن ما يتبقى من العرض يكشف لنا عن سعار الشر وصعوده الدامي، وعن تهاوي مارتن وقد وقع كلية في قبضة “آشنباخ” والـ(SS)، من حضيض إلى آخر، وكيف ضحى بأقرب الناس إليه، حتى بأمه نفسها التي تفانت في حبه ودللته، في سبيل إنقاذ نفسه، وتسخير الشركة كلية لأغراض المشروع النازي العسكرية. بصورة يتحول معها العرض المسرحي إلى استعراض من نوع ما لجماليات الشر، وإلى عملية تفكيك درامية وشعرية لصعود الشر والعنف والدمار، وإلى تحذير درامي لنا مما يدور في واقعنا الراهن من مؤامرات اليمين ومناوراته.

——————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ضفة ثالثة 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *