أميـر فريـك : منهجي الأنثروبولوجي في تصوير الشرق أعمق من ملامح الأوريونتاليزم في تجارب بيتر بروك أو غيره من المخرجين في العالم الغربي حاورته : إبتسام بودريس#الجزائر

أميـر فريـك : منهجي الأنثروبولوجي في تصوير الشرق أعمق من ملامح الأوريونتاليزم في تجارب بيتر بروك أو غيره من المخرجين في العالم الغربي .

أمير فريك مخرج مسرحي جزائري في العقد الثالث ، عاش طفولته في مدينة ساحلية صغيرة بأقصى الشرق الجزائري أين خلفت التقاليد الإحتفالية و طقوس ما يعرف بالزردة تساؤلات و ذهنيات عديدة في مخيلته . مارس المسرح منذ بدايات الـ 2002 إنطلاقاً من الجامعة مرورا بجمعيات و حركات فنية عديدة . إلى أن إختار التكوين و الإلتحاق بالمعهد العالي لمهن فنون العرض و السمعي البصري ببرج الكيفان سنة 2006 ليبدأ مشوار أكثر إحترافية إنطلاقاً من هناك..

سحــــر الشــــرق ..
حاليا يزاول المخرج الشاب نشاطه المسرحي بين الصين و روسيا غرض البحث و التنظير من خلال الورشات الفنية و العروض المسرحية التي يخرجها تحت إشراف حركة فنية تسمى ميايم أو الحركة الفنية الدولية “ميف” / MIAIM – Mif Art International Movment . في السنوات التي تزامنت مع تكوينه المسرحي في الجزائر ما بين 2006 و 2010 قام بأداء أدوار و شخصيات عديدة في المسرح كممثل، إلى أن تحصل على منحة دراسية إلى الصين في سبتمبر 2010 أين كانت له الفرصة لتحقيق طموحات أكبر خارج حدود الوطن. فأُبهر بالأوبرا الصينية و جماليات الأقنعة و المكياج والتقنية الرقمية آنذاك و تعمق في عوالم الجسد و الممارسات الروحانية من تاي تشي تشوان ، يوغا و تشي غونغ و التي قادته إلى كل ما هو أنثروبولوجي أو شكل ما قبل مسرحي بحكم دراسات الماجيستير التي كان بصدد إتمامها في الأكاديمية المركزية للفنون الدرامية ببيجين – The central Academy of drama Beijing China – أين تخصص في تدريب و توجيه الممثل بقسم الدراما المسرحية – سينما و تيليفزيون .

الصــوفي تكنيــــك في فنــــون الأداء و ميــلاد سافيتــري ..
سنوات البحث الأولى في الصين أثمرت مبادئ التكنيك الصوفي ـ سوفي/ Sufi بالإنجليزية ـ في فنون الأداء التي وضعها الكوتش أمير فريك لطريقته الخاصة في تدريب الممثل إستناداً لمماراسات روحانية و طقوسية عديدة كالتاي تشي تشوان و التشي غونغ، الزِنْ الياباني، الكاتاكالي الهندي بما فيها المماراسات و المظاهر الإحتفالية في التصوف الإسلامي. و معنى صوفي أو سوفي ليس منحصرا في التصوف الإسلامي فقط و إنما بمعناه الموسع الذي يضم كل ممارسة تدعوا إلى الولوج في العوالم الداخلية و كذلك للمعنى اليوناني القديم لكلمة “سوفيا” التي تعني حكمة أو تبصّر . أما عن مبادئ التكنيك فيلخصها الكوتش في سبعة مراحل إرتقائية جسدية يقابلها سبعة مراحل إرتقائية روحانية، فعن مراحل الإرتقاء الجسدية: و هي الماكروبيوتيك ـ طاقة الماء ، إلغاء الحواس ، المرونة و التركيز الحسّي – التنفس التحولي ، إيقاع التآزر ، البناء الدائري، الحركة الهستيرية. و عن مراحل الإرتقاء الروحانية: فهي الترانيم الصوتية ، الإسترخاء و التأمل ، الهستيريا الحسّية ـ حواس العقل، التركيز الداخلي – العين الثالثة ، إنحلال الجسد ، نيرفانا الفناء ..
قام الكوتش أمير فريك بالعديد من الورشات التكوينية داخل الجزائر و خارجها إضافة إلى عمله بالمعهد العالي لمهن فنون العرض بالجزائر العاصمة كأستاذ مكون لطلبة التمثيل إلى أن قرر العودة إلى الصين من أجل أبحاث الدكتوراه و مواصلة رحلته الأكاديمية و لكن من خلال الإخراج و العمل على العرض الفني هذه المرة ، حيث كان أول إنتاج مع حركة ميايم عرض سافيتري سنة 2018 و هي النوعية المسرحية التي يسعى المخرج و الباحث أمير فريك إلى إثبات تفردها في ما يطلق عليه عالم المسرح الأنثروبولوجي المعاصر..

أمير فريك : سنوات البحث قادتني إلى خلق شكل جديد يشبه الشرق أكثر من خلال الخوض في المسرح الأنثروبولوجي المعاصر ..
عرض سافيتري أو “بنت النار” قد يصنف على أنه عرض أنثروبولوجي لخوضه في طبيعة وأصل الإنسان دون أيديولوجيته و قد يصنف أيضا كعرض بصري لأنه يعتمد على تقنيات الفن البصري من تكنولوجيا الإضاءة ، المؤثرات الرقمية البصرية ، الفنون التشكلية ، فن الديزاين المعاصر. كما يصنف عرض جسدي إحتفالي صوري لأنه يقدس الجسد و المحركات الروحانية في شكل إحتفالي صوري ، كذلك هو عرض ما بعد درامي لأنه يوصل المفهوم و المعنى دون الإعتماد على النص الكلامي أي تحويل المعنى المنطوق إلى أي تعبير أخر دون الكلمة أو الخطاب المباشر . لأنه حسب أمير فريك اللغات ليست سوى أصوات جمالية تضيف للمشهد الفرجوي و أن المعنى الحقيقي هو ما وراء الكلمة المنطوقة بأي لغة كانت ، فالأرواح تتكلم لغة واحدة والمقصود هنا هي الحوارات الداخلية التي تُفعّل دوافعنا فأحاسيسنا التي نجسدها بتعبير مرئي أو مسموع بأي شكل كان . لأن التركيز في الماورائيات التعبيرية الحسّية يوصل المعنى الحقيقي عكس الشكل الجمالي او اللفظة الصوتية الخالية من الحسّ أو الإستشعار من خلال الحواس الغير ظاهرة على حسب تعبيره ..
عندما طُرح السؤال على أمير فريك في ما يخص نوعية العروض التي يقدمها ، هل هي راقصة كوريغرافية أم غنائية موسيقية أم تمثيلية أم درامية أدائية كانت إجابته أنها كل ذلك مجملاً، فعرض سافيتري إعتمد على الرقص المعاصر و الطقوسي و التعبير الجسدي كما قدم الغناء و تنوع فونوتيك اللغات في الحوارات و الأصوات إلى توظيف الآهات و التناغم الصوتي مع العزف على الآلات الموسيقية كل ذاك تحت حبكة حكاية أسطورية من التراث الهندي القديم لإبراز صراع درامي محكم دون اللجوء إلى الطريقة الكلاسيكية في الخطاب ..

سافيتــري مـن الأسطــورة إلى العــرض ..
أما عن ملخص العرض فهو كالتالي:” في أرض مجهولة الأبعاد الزماكانية ، كان هناك ملك عديد الزوجات ، لكن لم يكن لديه ولد من صلبه . ذات زمان صلى الملك لآلهة النار حتى ينجب طفلا ، فتجسدت أمامه ملاك النار سافيتري و بشرته بأنه ملك عادل و أن ولداً من صلبه سيحل قريباً . لم تكد تمر السنة حتى أنجبت إحدى زوجاته بنتاً نيرة الجبين سماها على إسم الملاك المُبشِر سافيتري. بعد عشرين عاماً أصبحت الأميرة سافيتري شابة في قمة الجمال ، كان قلبها جاهزا للحب لكن لم يجرؤ أي شاب في المملكة على الإقتراب من بنت النار، فشعرت سافيتري بألم الوحدة إلى أن أمرها والدها الملك بالذهاب في رحلة مجهولة الأين علها تجد قدرها في زمكان ما . رحلت سافيتري و إلتقت في طريقها العديد من الشخصيات الغريبة إلى أن حلت بأرض الزُهاد قرية ساتيافان قدرها المنتظر . سارعت سافيتري لحبيبها مبتهجة، لكن فرحتها لم تطول خاصة بعد أن علمت أن إله الموت ياما يتحضر لساتيافان الحبيب بعد سنة من لقائها معه لإجتثاثه منها إلى أرض الغيب . قررت سافيتري مواجهة المصير الموعود و إعادة كتابة قدرها بنار الحب ، حينها بزغ التساؤل ـ هل يستطيع الحب تغيير القدر؟.”

إستناداً للأسطورة الهندية قام أمير فريك رفقة الدكتورة الروسية أنّا تاراسينكو بإعداد النص و من ثم إختيار الممثلين المؤدين بعد تجاوز ورشة فنية تكوينية في التكنيك الصوفي نتج عنها مشاركة إحدى عشرة جنسية مختلفة من أسيا ، أوروبا ، أمريكا ، إفريقيا و أمريكا اللاتينية . وقد تم توظيف ثلاثة عشر لغة و لهجة كفونوتيك صوتي أضفت على العرض صورة عالمية جديدة يتقبلها المتلقي مهما كانت صفته و هي ما تخدم نظرية ” مسرح للجميع – Theatre for everyone ” و التي يسعى أمير فريك ترسيخها كتجربة ملموسة من خلال شبيه هذه العروض ، أما عن موسيقى العرض فقد ألفها كل من الموسيقية ماري كريستين كلاريس من الموريشيوس على آلة الدف الكبير ” رافانا ” و الموسيقي الأمريكي من أصل إيراني يشار غارزان على آلة الغوجانغ الصيني القديم ـ 2500 سنة – إضافة إلى المغني الأوبيرالي ثايري غوه من ماليزيا ، كما تم تفعيل أدوار الثلاثة ، كعازفين رئيسيين من خلال شخصيات مهمة يؤدونها على الخشبة طيلة مدة العرض ، كذلك إعتمد أمير فريك على كل من ميلتون ماكوني زيمبابوي الأصل ، تانيا غارغيك من كرواتيا و يليينا كولافيك من صربيا على تجميل حركات العرض الجسدية من خلال وظائف ديزاين الجسد . أما عن الصورة و ديزاين الخشبة فقد تم من خلال توظيف الإضاءة الحديثة مختلفة الألوان و إنعكاساتها على أجساد الممثلين النصف عارية و التي إحتوت على رسومات أنثروبولوجية مبتكرة ، وقد جسد الفكرة الفنانان التشكيليان أولزيبايار دوندوف وأماراتوفشين ميغد من منغوليا ..

شخصية سافتري تعبر عن القوة الإبداعية المميزة التي ترفض الإمتثال إلى أي منظومة حتى و لو كانت الموت أو ملك الموت نفسه . بداية من كونها فتاة ذات كاركتر مختلف عن المجتمع التي عاشت فيه ـ صفتها النار لأنها متحمسة ملتهبة ذات حركة سريعة و جميلة أيضا إذْ تكون خطيرة حتى على نفسها في بعض الأحيان ـ وعندما علمت سافيتري أنها لن تجد حبيبا يتوافق معها في مملكتها قررت الذهاب في رحلة للبحث عن حقيقتا ـ رمزية الحبيب ـ و الحقيقة هنا هي كل التساؤلات التي نطرحها في حياتنا و لا نجد لها أجوبة سواءاً عمودية عن الرَّبّ و أسئلة الوجود أو أفقية عن حياتنا و أقدارنا . ترحل سافيتري و تقابل كاركتيرات عديدة في رحلتها ، تضيف لشخصيتها و تجعلها مستعدة أكثر لإتمام المهمة . فتقابل الملكة سافين و تتعلم منها المشاركة وتتناغم مع سّامسوميا سيدة الصحراء و تتعلم منها التأقلم ، فكاركتر بُوّوا أو اللاجنس الذي يعكس الإصرار و إثارة التساؤل ، و سُتراياماكوري أو المسخ الباكي الذي يمثل أصل الإنسانية أو التطهر ، إلى أن تقابل الحبيب ساتيفان المثالي في النهاية ، لكن ملك الموت ياما يريد قبض روحه بعد سنة أي أن فكرة نظام أو منظومة تحطم دوماً الأمال أو تفشل في بناء مجتمعات سوية ذات فطرة إنسانية سليمة و سافيتري هي رمز للمعارض لكل منظومة مهترئة و التي تسعى جاهدة لتغييرها حتى لو كانت قدرا محتوماً . أما عن ملك الموت ياما فهو يرمز إلى القيد ذو الوظيفة الواحدة و هي قمع كل حرية أو أي دعوة للتحرر .
و الصراع في العرض أزلي كما في الحياة ، لأن النهاية مفتوحة رغم فشل ياما في إتمام مهامه أمام إصرار سافيتري و صُحبتها في الجولة الأخيرة، لكنه يتوعد من خلال نظراته أنه باقٍ في الجوار و لن يبتعد كثيراً .
عرض سافيتري يعبر عن التحرر بكل معانيه و أبعاده الفلسفية العميقة و هو أيضا مرتبط بالدرجة العليا في التكنيك الصوفي أو ما يسميه أمير فريك نيرفانا الفناء الذي يبدأ من مرحلة التحرر من الجسد و كل مادة ملموسة أولاً و التواصل مع الروح لتحقيق المستحيل في النهاية و المعبر عنها بالحب الأبدي في القصة .

نحــو مســرح جــديد يعكــس الصــورة الحقيـقيـة للشــرق ..

يعكس المخرج أمير فريك من خلال عرض سافيتري الصورة الشرقية الحقيقية بكل أبعادها من خلال الأسطورة أو الخرافة ، كما يتعمق في البعد الفلسفي ، الميتافيزيقي و كذلك الشكل الجمالي أيضاً و هو الأمر الذي يطمح إلى تبنيه و الدفاع عنه كمبدأ قائم في عروضه القادمة ، رغم إيمانه الشديد أن السند الأول في التجريب المعاصر هو نظريات و أبحاث و تجارب العالم الغربي إبتداءا من أرتو إلى غروتوفسكي ، يوجينيو باربا و تجارب بيتر بروك ، كذلك توجهات ماكس راينهارد و أدولف آبيا ، إضافة إلى أعمدة المسرح الروسي ستانيسلافسكي و مايرهولد . إلا أنه يعيب على التجربة الغربية تلك النظرة السطحية للمشرق بصفة عامة من خلال إستخدام بعض الأشكال أو النصوص، و توظيف الكليشيهات و القوالب الجاهزة إتباعاً لتيار الأوريونتاليزم أو ما يعرف بالإستشراق في الفنون الغربية.
و يصرح المخرج الشاب أمير فريك بخصوص هذا الجانب: ” أنا أتبع منهج أنثروبولوجي في تصوير الشرق العميق و الحقيقي من خلال إبراز الجانب الفلسفي أو الماورائي بشكل فعلي مسرحي ، محاولاً بذلك كسر الصورة النمطية لملامح الإستشراق أو كليشيهات الأوريونتاليزم التي ظهرت في تجارب بيتر بروك أو غيره من المخرجين في العالم الغربي .”

حاورته : إبتسام بودريس الجزائر

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش