ألم المنفى في جدلية الحضور والغياب والأسئلة المشاكسة  – قراءة في عرض مسرحية ” سأموت في المنفى ” للفنان غنام غنام – 

     *سعيد محمد سعاده

      بين يدي العرض :              

       ” سأموت في المنفى ” عرض مسرحي منودرامي ، يرتكز ، في ثيمته الفنية ووسيلته التعبيرية على لعبة فرجوية درامية ، اتخذت من عنصر السرد ــ  كعنصر فني انزاح عن المفهوم الروائي كبنية لغوية نثرية ، ليدخل حيز الفعل المسرحي ومساحته الأدائية ــ  قالبا توصيليا لها . هذا السرد ، المؤدى مسرحيا ، أو القصّ المعبأ بالأفعال الدرامية ، حمل في داخله ( جينا ) تعبيريا يشير بإصبعه البلاغي إلى أسلوب فني درج عليه كثير من الأدباء والكتاب ، وخاصة الشعراء منهم ، يسمّى أسلوب ( السهل الممتنع ) ، حيث يغريك ، كقارىء أو مشاهد .. ، بسلاسته وبساطته ، وأنه يعبر عن أشياء كثيرة تجول في ذهنك وخاطرك تريد البوح بها ، لذلك فأنت عندما ترى هذا العرض ، أو تقرأ ذاك العمل الذي يحاكي مشاعرك وأحاسيسك وهو حامل لهذا الجين ، تشعر بأنك تستطيع الاتيان بمثله ، ولكن ما أن تبدأ محاولات التنفيذ حتى تجد نفسك لا تقدر على فعل شيء بهذا الخصوص .

وهذا ما بدا واضحا في العرض المسرحي المنودرامي ” سأموت في المنفى ” ، والذي كتبه وأخرجه وقام بتمثيله أيضا الفنان غنام غنام ، فقد حمل هذا العرض بين دفتيه سيرة ذاتية لحياة هذا الفنان ، بمعنى آخر أن المسرحية ، وعلى امتداد ما يقارب الستين دقيقة من الزمن ، عبارة عن استعراض سريع لشريط حياة غنام ، متوقفا عند مفاصل وجزئيات عاشها هنا وهناك ، حيث يطغى عليها جانب الألم وتغلفها الحرقة والمرارة ، وذلك كونه عاش سني عمره وحياته منفيا عن وطنه فلسطين ، ولذلك فقد أخذنا ، وعبر مشاهد متلاحقة في العرض ، إلى أماكن حدثت له فيها مواقف مؤلمة ، وخاصة في المطارات الدولية حيث تنقّله بين الدول بوثيقة سفر لا تمت لوطنه الأم بأية صلة ، وإنما تعود لبلد المنفى الذي يسكن فيه ، وهذا بحد ذاته ما يسبب له الألم من أنه يعيش حياة لا طعم لها ولا لون ، حياة بدل فاقد ، حسب قوله في العرض ، ويستمر العرض على هذه الوتيرة حتى يأخذنا في النهاية إلى موته في منفاه ، ويكتب على شاهدة قبره اسمه واسم بلده الأصلي الذي ولد فيه ، مع العلم أنه لو مات في وطنه لا يكتب عليه اسم بلده .

إذن هذا هو عرض ” سأموت في المنفى ” بشكل موجز وسريع ، حيث تم تقديمه على مسرح مركز حمدي منكو التابع لبلدية نابلس ، وسوف يقدم هذا العرض في عدد من المحافظات الفلسطينية على امتداد الأيام القادمة .

    انفتاح الجرح والأسئلة المعلقة :

     مما لا شك فيه أن العمل الفني ، أيا كان نوعه أو شكله ، لا بد وأن يتضمن في حيثياته التبليغية وفنياته التوصيلية ، والتي تبرز كمعطيات وظيفية تهدف ، في إطارها العام ، إلى تحقيق رسالة ما أو هدف معين من ورائها ، لا بد وأن يتضمن مجموعة من الأسئلة والتي يتم طرحها على المتلقي ، تلك الأسئلة التي منها ما يبقى معلقا دون إجابات ، وذلك من أجل امتحان القارىء وشحذ همته وذهنه ، لكي يجيب عنها هو بنفسه بناء على الزاوية التي ينظر من خلالها لهذا العمل برمته ، ومنها ما يجيب عنها الفنان بنفسه في طيات عمله ، حتى يضيء بإجاباتها بعضا من الجوانب المعتمة فيه ، وذلك عندما يصبح هذا الأمر ضرورة فنية ولازمة موضوعية لا غنى عنها في اثراء العمل وإدراكه .

فإذا نظرنا إلى العرض المسرحي المنودرامي ” سأموت في المنفى ” نلحظ أنه يقوم على تناسل كثير للأسئلة وتوالد لا يقف عند حدّ معين في سيرورته السردية الدرامية للأحداث ، وبإمعان النظر أكثر يتبين لنا أن هذا العرض ـ بحدّ ذاته كبنية فنية ، شكلا ومضمونا ـ يشكل سؤالا كبيرا يتمحور حول قضية الهوية والانتماء للوطن من قبل هذا الشخص/غنام ، الذي يعيش لوعات الاشتياق لوطنه ، حيث يقبع هناك في ظلمة منفاه وألم اغترابه . ولعل عنوان العرض ” سأموت في المنفى ” كعتبة دالة ، تشير في إحدى إشعاعاتها الدلالية المسكوت عنها إلى هذا المعنى سالف الذكر المتمثل بألم المنفى ومرارته ، فهو عنوان يفجر في النفس ، وخاصة عند أؤلئك الذين يعانون عذاب المنفى والغربة عن أوطانهم ، ألما شديدا ، ما يدفعهم هذا كل لحظة إلى طرح أسئلة كثيرة عن العودة لوطنهم الأم ، من مثل : إلى متى سنبقى في أرض المنفى ..؟ وهل سوف تتحقق عودتنا إلى ربوع الوطن ..؟ ومتى تتحقق هذه العودة ..؟ وهل نعود إلى الوطن أحياء ..؟ وإذا متنا في المنفى هل سينقل رفاتنا إلى تراب الوطن ..؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تطرح بشكل مستمر ومتكرر في كل لحظة وحين ،  بل وأشد من ذلك ، أن هؤلاء الذين يعيشون في بلاد الغربة أكثر ما يقلقهم هو خوفهم من الموت ومن ثم يدفنون هناك في أرض المنفى ، ولا يعرّف عليهم وعلى بلدهم الأصلي إلا شاهدة القبر التي سوف يكتب عليها : ” هذا فلان ابن فلان من بلدة كذا وكذا ” ، لذلك ولا غرابة أن يسرد غنام قصيدة أحمد شوقي التي تدور حول حب الوطن والتمسك به ويوظفها في عرضه المسرحي ، حيث يقول شوقي في آخرها :” هب جنة الخلد اليمن .. لا شيء يعدل الوطن ” . إضافة إلى ذلك فإنه يستحضر نصا شعريا لمحمود درويش ، ليؤكد ، من خلاله ، على وطنه فلسطين  الذي تجذّر في روحه ودمه كفلسطيني يحبه ويغار عليه ، بل ويقدم له الغالي والنفيس في سبيل تحريره وخلاصه من أيدي الغاصبين والمحتلين ، وذلك لكون فلسطين بالنسبة له هي الهوية والانتماء بكل ما تحمله الكلمات من فهم ومعنى .

  وتجدر الإشارة أن هذه الأسئلة ، في هذا العرض المسرحي ، ظلت معلّقة بدون إجابات ، وما زالت معلقة حتى بعد الانتهاء من العرض ، وذلك بسبب أنها أسئلة إشكالية ومن النوع المشاكس ، لأنها تتعلق بإجابات دقيقة وحساسة ترتبط بقرارات مصيرية ، يتحدد من خلالها مصير شعب بأكمله هجّر من وطنه بسبب الاحتلال ، ليجد نفسه يعيش في بلاد المنفى مجرد لاجىء لا حقوق له ، ولا حتى أي نوع من الامتيازات ، التي يجدها لو بقي في وطنه ، ولم يصبه واقع الاحتلال باغتصاب أرضه ، ومن ثم تشريده منها ، ولعل أهم هذه الامتيازات هي المواطنة الني تعكس الهوية والانتماء ، لذلك جاء التركيز في كثيرمن مفاصل العرض على هذا الجانب ، جانب المواطنة والهوية والانتماء ، كحالة يسعى إليها الفلسطيني ، في أماكن تواجده كافة ، ويركض خلفها مستخدما كل وسائله النضالية ، حتى يخرج بها من عالم الحلم إلى أرض الحقيقة والواقع ، في مقابل أننا ، أن هذا الفلسطيني ، يعيش حياة بدل فاقد ، بل كل شيء لديه أصبح في هذا الوضع المتردي والبائس بدل فاقد .

وبناء على ما تقدم ، فأن عرض مسرحية ” سأموت في المنفى ” تسوقنا نحو حالة من المأساوية والألم المنعكسة من حياة الفلسطيني المشرد عن وطنه ، وما يحسب للفنان غنام ، مهندس العرض ومؤديه ، أنه أستطاع ، وبخبرته الفنية الطويلة في مجال المسرح وفنه الأدائي ، أن ينفتح بجرحه الإنساني الخاص ، لينقله لنا ، عبر سرده /أدائه المسرحي  لإحداث من حياته ، من حالة فردية تخصه هو كغنام  ، إلى حالات إنسانية كثيرة عامة ، سواء أكانت هذه الحالات مشابهة له ، ام كانت غير ذلك ، فإنه لامسها بشكل أو بآخر ، بل وأكثر من ذلك أنه أخرجها للنور كحالات أنسانية تعاني ألم التشرد وحرقة الابتعاد عن الوطن ، بسبب الاحتلال وظلمه وجبروته ، كل هذا جاء بأداء درامي عفوي ، وبإسلوب فني ابتعد فيه المؤدي عن البهرجة والتكلف والإسفاف .

    عنصر السرد / من النثرية إلى الفعل الدرامي :

   معلوم لنا أن عنصر السرد ، أو القص ، هو من العناصر الفنية المهمة في بناء النص النثري ، إن لم يكن أهمها على الإطلاق ، خاصة في عالم الفن الروائي ، وذلك لأن السرد يشكل الوعاء الحامل والإطار العام الذي يقوم عليه عالم الرواية من ألفه إلى يائه . أمّا في عالم المسرح ، فإن هذا العنصر يخبو نجمه وينطفىء ، أو على أقل تقدير ، يقل وجوده وحضوره ، في مقابل حضور الدرامية المفعمة بالفعل والحركة .

ولعل حضوره يكون في المسرحيات المنودرامية ، ذات الممثل الواحد ، أكثر من أي نوع آخر من الأنواع المسرحية الأخرى ، وذلك لأن المسرحية المنودرامية ترتكز في عرضها وتقديمها على حالة من البوح ، التي تستخدم السرد والقص كوسيلة تعبيرية ، وهنا يأتي دور الفنان المسرحي في قدرته على تحويل هذا الأسلوب التعبيري من الحالة السردية الجافة إلى حيوية الدراما وفعلها التشخيصي ، بمعنى أن النص المسرحي ينزاح ـ من كونه ثيمة لغوية ساكنة وصامتة ، تميل إلى الرتابة في الطرح والعرض ، معتمدةً على ذهنية المتلقي في رسم الشخصيات وتخيّل الأحداث ـ ليدخل إلى عالم الفعل المسرحي بمساحاته الحركية وايماآته التعبيرية ، كفعل حي ينبض بالصراعات الممتلئة بالتوتر والانفعال ، والتي يراها المشاهد مؤداةً أمامه مباشرة على خشبة المسرح .  

وفي العرض المسرحي المنودرامي الذي بين أيدينا ” سأموت في المنفى ” حيث تقدم الحديث عنه في الأسطر السابقة ، من أنه يقوم وينهض ، في أسلوبه التوصيلي ، على عنصر السرد ، بمعنى أن آلية القص شكلت الثيمة الرئيسية فيه ، كبنية توصيلية أتكأت على اللغة بعناصرها البلاغية : من مجاز هنا وتكثيف هناك وأطناب في هذا الجزء وايجاز في جزء آخر ، بالإضافة إلى أسلوب الفصل والوصل ، والجمل الطلبية والخبرية وغيرها من ألأساليب البلاغية التي اكتنزها النص/ العرض كلغة منطوقة محكية تلقى على مسامع الجمهور الذي يتلقى هذا العرض ، وفي هذا السياق قد يبرز سؤال مفاده : إذا كان هذا العمل المسرحي ، وكما تمت الإشارة ، يتخذ من أسلوب السرد وعاءً وقالبا فنيا لعرض فكرته ومضمونه ، فأين الجانب المسرحي الدرامي فيه ، والذي يقوم على الفعل الحركي ، وعلى لغة الجسد بتعبيراته وايماآته ، وذلك لكون العمل المسرحي بعموميته يرتكز ، في وعائه التوصيلي ، على الفعل وليس القول ، وذلك من باب ” أفعلها ولا تقلها ” ؟ .  

إن للفنان غنام غنام باعاً طويلاً في عالم المسرح ، وقد دل على ذلك كثير من أعماله المسرحية التي قدمها خلال مسيرته الفنية الممتدة لعقود من الزمن ، لذلك فهو لا تنقصه الخبرة في اللعب على خشبة المسرح , سواء أكان كاتبا أم ممثلا أم مخرجا مسرحيا ، ولكن لكي نجيب على السؤال المتقدم ، لا بد لنا من صياغته بطريقة أخرى مغايرة لما سبق : لماذا اتجه غنام ، في  تقديم سيرة حياته ، إلى الفن المسرحي ، ولم يذهب إلى عالم الرواية الواسع ، أسوة بكثير من الكتاب والأدباء والفنانين  الذين نحو منحى الرواية في توثيق سيرهم الذاتية وكتابتها ؟ .

معلوم أن الأعمال الأدبية التي تعتمد على القراءة فقط مثل : الرواية ، أو القصة القصيرة ، أو القصيدة الشعرية .. لا ترقى فعاليتها وتأثيرها على ذهنية المتلقي ونفسيته إلى مستوى التأثير الذي يحدثه العرض المسرحي ، وذلك لأن العرض المسرحي يقدم فكرته وموضوعه بشكل حي ومباشر على خشبة المسرح كما تمت الإشارة سابقا ، ومن خلال شخصيات تتفاعل وتتصارع مع بعضها بعضا أمام المشاهد ، فلا يقتصر الأمر على تقليب صفحات يتكىء فيها المتلقي على آلية التخييل للأحداث والشخصيات بدل مشاهدتها حية تتفاعل وتتصارع أمامه ، ولهذا ، فلا غرابة أن يعدّ الفن المسرحي ، بعروضه المتنوعة ، من أهم الوسائل التعبيرية في إحداث التغيير المطلوب في المجتمعات وأهلها .

وبناء على ما تقدم فإن غنام غنام لا بد وأنه يدرك هذه المسألة بشكل واع وفهم عميق ، ولأن مضمون عمله الفني حساس جدا وغاية في الأهمية ، إذ يتمحور حول معاناة فئة كبيرة من أبناء شعبه ، بسبب ما اصابه من تشريد ونفي على يد قوات الاحتلال عند اغتصابه لفلسطين  ، لهذا ولغيره من أسباب الألم والمعاناة التي لحقت بالشعب الفلسطيني وأرضه ، لجأ غنام إلى استخدام العرض المسرحي الذي يعتمد على المباشرة في التعامل مع الجمهور ، وذلك من خلال عملية تفاعلية حية بينه كمؤد للعرض ، وبين المتلقي كمشاهد له ، وتأكيدا لهذا الأمر، وإمعانا في توصيل الفكرة وتكريسها ، فأن غنام تخلى في عرضه عن العناصر المسرحية الأخرى ، كالإضاءة والموسيقى والديكور وحتى خشبة المسرح إلا من كرسي وحيد شاركه مجريات العرض ، من خلال الاشتغال على تفجير دلالات متعددة له ، غير دلالته الحقيقية ، ككرسي للجلوس فقط ، مثل تحويله لحقيبة سفر وشاهدة قبر وعربة بائع للخضار  ونعش لميت محمول على الأكتاف .. ولهذا أيضا انزاح غنام في وسيلته التعبيرية وتقديمها من أسلوب النثر كسارد يروي الأحداث بشكل ( مونوتونيّ ) جاف ، إلى أسلوب درامي تمثيلي قوامه الحركة والفعل المسرحي الباعث على الحيوية والجمال في التقديم والعرض .        

        جمالية التوصيل في بساطة الطرح وكثافة الفعل :

    يقع بعض الفنانين في إشكاليات فنية ، تتعلق بآليات التوصيل لهذا العمل الفني أو ذاك ، فمنهم من ينجرّ ــ في أثناء خلقه لعمله من أوله إلى آخره ــ  خلف التقريرية والمباشرة في عرض الفكرة وطرحها ، ليغدو ، هذا الفنان بعمله مجرد واعظ أو معلم يلقي شعارات أو مبادىء وقيم على جمهور المتلقين ، والذي سرعان ما يستشعر ، هذا الجمهور، بالملل والرتابة عند استقباله وتلقيه لهذا العمل ، وذلك بسبب جفافه وجموده ومن ثم ابتعاده عن حيوية الفن وجمالياته التي تنعش الروح وتغذي العاطفة والوجدان . ومنهم من يلقي عليك بحزمة من الألغاز والطلاسم ، لتخرج ، بعد قراءتك له عدة مرات ، بانطباع يستحضر مقولة القائل :” .. ويدي مما علقت به صفر”، وذلك لشدة غموضه وانغلاقه ، ما يستحيل على القارىء المسكين أن يأخذ منه لا حق ولا حتى باطل ، فيرميه جانبا بسبب الإحباط واليأس من قراءته ، فلا يعود ينظر له مرة أخرى ، مهما كان نوعه أو شكله .

وفي عرض مسرحية ” سأموت في المنفى ” ، سبق وأن قدمنا أن غنام غنام يأخذنا عبر رحلة درامية لسيرته الذاتية ، حيث امتد زمنها لعقود من الزمن ، بمعنى أنها سيرة جاوزت الخمسين عاما ، هي في الحقيقة عدد سنوات عمرغنام ، وهذه المساحة الزمنية الطويلة تم عرضها في ساعة من الزمن تقريبا ، والتي هي عمر العرض المسرحي المنودرامي المقدم إلى جمهور المتلقين ، وبذلك اختلف زمن الحدث عن زمن العرض اختلافا واضحا ، إذ يبدو فيه الفارق الزمني كبيرا جدا بين طول الزمنين ، ولكن السؤال المطروح هنا : هل استطاع غنام الإحاطة بأحداث حياته الممتدة لعقود من الزمن وسردها كلها ، وهل نجح بتجسيدها وعرضها دراميا  في هذه المدة القليلة جدا ، وهي مدة زمن العرض ؟ .

إن السؤال المتقدم ذو شقين ، والإجابة عنهما متناقضة ، فالأول إجابته ( لا ) ، لأن غنام لم يقم بسرد أحداث حياته كاملة ، وليس هذا بسبب عدم قدرته على ذلك مثلا ، وإنما يكمن السبب في أنه تناول ، فقط ، بعضا من المواقف والقضايا التي شكلت مفاصل مهمة في تاريخ حياته ، ولعل أهمها تلك التي تعرض فيها للتشريد عن وطنه فلسطين بسبب الاحتلال ، ثم معاناته في المنفى ، نفسيا وأجتماعيا وكذلك سياسيا ، وخاصة في أثناء سفره وتنقله في المطارات بين الدول بوثيقة سفر تخص بلدا آخر غير بلده الأصلي ، ما جعله هذا يشعر بالحسرة والألم ، ليتفجر داخله كمّ من الأسئلة الموجعة ، والتي ما زالت معلقة عنده بدون إجابات .

أمّا إجابة الشق الثاني من السؤال فهي ( نعم ) ، فقد نجح غنام في تجسيد مواقف وأحداث من حياته بشكل فني درامي ، قوامها السلاسة والعفوية في الفعل التمثيلي والمنطوق القولي للنص المسرحي ، وبذلك فهو ، من ناحية فنية ، قدم  فكرته ومضمونه في إطار فني بسيط  وسهل ، فهو لم يلجأ إلى المبالغات الفنية أو البهرجات المسرحية ، ولم يثقل كاهل العرض بقطع الديكور والإكسسوارات المتنوعة ، وذلك حتى لا يضيع تركيز المشاهد ، فيذهب باتجاه هذه العناصر بدلا من التركيز على الفكرة التي يشير إليها العرض ، في حين استخدم عنصري التكثيف والايجاز المدعّمين  بزخم الأداء وجديته في عرض الفكرة وطرحها ، كل هذا قدمه بإسلوب جمالي ممتع وشيق انعكس في أدائه المسرحي ، والذي إن دل ذلك فلا يدل إلا على أنه شخص متمرس في الأداء التمثيلي ومدرك لأسرار الصنعة المسرحية برمتها .

       كلمة أخيرة :

    استطاع غنام غنام ، ومن خلال عرضه المسرحي المنودرامي ” سأموت في المنفى ” ، وعلى امتداد ساعة من الزمن ، أن يضعنا في قلب معاناته وآلامه، كشخص شرّد من وطنه ليعيش في المنفى ، وهذا الحال طبعا ينطبق على شريحة واسعة من الفلسطينيين الذين تعرضوا لنفس هذا المصير . كل هذا قدمه غنام في قالب فني جميل ، ابتعد فيه عن الرتابة والجمود ، مما جعله عرضا مسرحيا ثريا بالدلالات والمعاني ، والتي هي بحاجة إلى الالتفات إليها وقراءتها مرات عديدة للكشف عنها وإبرازها للقراء .    

*ناقد ومخرج مسرحي / فلسطين ــ 0598/772827  

Said.saada@gmail.com

—————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *