أسئلة برتولت بريخت “البريئة” في تصديه الحائر لممارسات ستالين

مؤسس المسرح الحديث في سيرة تعيد الاعتبار إلى ضميره المتعب

 

نعم… لقد حوكم الشاعر ترتياكوف، وأعدم باسم المصلحة الوطنية العليا، ولكن ماذا لو كان ترتياكوف بريئاً؟”، كان يكفي الكاتب المسرحي الألماني برتولت بريخت أن يورد هذا السطر بكل خجل، و”براءة”، في سياق واحدة من قصائده التي كتبها في سنوات الثلاثين، حتى يسفر ذلك عن صخب، وربما عن غضب يفوق ما أثاره إعدام الشاعر ترتياكوف نفسه. والسبب بسيط: كانت “المحاكمات الستالينية”، المعروفة بمحاكمات موسكو، هي التي أعدمت ترتياكوف الذي كان صديقاً لبريخت ورفيقاً له في “النضال”. ولما كان الاثنان “اشتراكيين” يقفان عادة إلى جانب موسكو “في السراء والضراء”، كان لا بد لبريخت من أن يكتب تلك القصيدة ما إن جاءت الأنباء من موسكو مؤكدة إعدام الشاعر الذي كان مقرباً له، بالتالي كان يعرفه عن قرب إلى درجة يمكنه أن يؤكد معها أن ترتياكوف ما كان يمكن أن يكون حقاً مذنباً بالنسبة إلى التهم التي رمته بها المحاكمات الستالينية.

أسئلة بريخت مكثفة في كتاب

والحقيقة أن المفاجأة كانت في عدم توغل بريخت أعمق من ذلك السؤال في المسألة التي بدا واضحاً أنها قد حيرته. وفي المقابل توغل عميقاً في هذا الأمر الباحث والناقد الأميركي فردريك أوين في سيرة كتبها لبريخت يمكن أن نعتبرها السيرة الأفضل والأكثر إنصافاً التي كتبت لمؤسس المسرح الحديث في القرن العشرين، وصدرت ترجمتها العربية عن “المركز القومي للترجمة” في القاهرة قبل سنوات، حيث يتمكن أوين في تلك السيرة من إعادة الاعتبار إلى بريخت في المجال الفكري – السياسي، بعدما أمعن كثر في وصمه بـ”الستالينية” في سير كانت حيناً تبرر “ستالينيته”، بل تثني عليها أيضاً، وفي أحيان كثيرة تعتبرها مأخذاً عليه من شأنه نسف قيمته المسرحية برمتها. كان من الواضح أن بريخت قد سيس كثيراً منذ رحيله في صيف عام 1956، بل سيس أكثر من اللازم ليأتي كتاب أوين، وعنوانه “برتولت بريخت، حياته فنه وزمنه” معيداً العمل لاستخلاص الموقف الحقيقي لبريخت، في السياسة والحياة والنضال، ليس فقط مما يمكن قوله حول سيرته، بل كذلك من قلب أعماله نفسها. ولعل اللافت هنا هو أن معظم الدارسين الذين اشتغلوا على بريخت منذ صدور كتب أوين، قد تجاهلوه، إذ عجزوا عن نسف أطروحاته، مفضلين عليه كتابات تؤدلج بريخت إلى أبد الآبدين.

الغوص الصعب في عمل متكامل

ومع ذلك، لا بد من القول إنه إذا كانت هناك حياة وعمل يصعب اختصارهما في كتب ودراسات كثيرة أو قليلة، فإنهما حياة برتولت بريخت وعمله الكتابي الذي كان استثنائياً في قوته التعبيرية ومكانته وجماله الشكلي، والدور الذي لعبه في تاريخ المسرح العالمي في القرن العشرين، ناهيك بمجال الربط الحاسم بشكل متكامل، بين أعماله وحياته وزمنه؛ هو الذي لن يكون ثمة بالطبع أي مبالغة في القول إنه يمثل ثالث نقطة انعطافية في تاريخ المسرح، مقابل إسخيلوس الذي يمثل النقطة الأولى، وشكسبير الذي يمثل النقطة الثانية. وربما من هنا تنبع صعوبة الغوص عميقاً في فكر هذا المسرح والخوف من أي جهد يحاول ذلك.

وينطلق كتاب أوين من فكرة ترى أن العقود الماضية قد حاولت أن ترمي بريخت وفنه في مهب النسيان، غير أن عودة مسرحه نفسه دون انقطاع، إلى الحياة منذ ذلك الحين، والعودة باستمرار إلى اكتشاف ما كان مخبوءاً في ثنايا مسرحياته، أمران يقولان لنا إن مكانة بريخت لا يمكن أن تنضب، وأن المسرح العالمي سيظل يعيش في ظل مسرحه، تماماً كما عاش – ولا يزال – في ظل مسرح شكسبير. ومع هذا، حين مات بريخت عن ثمانية وخمسين عاماً، لم تكن له تلك الأهمية التي أسبغت على اسمه وعمله بعد ذلك بسنوات، وربما عاد السبب تحديداً إلى كونه ارتبط، فكرياً وسياسياً، بصورة جعلته يبدو ستالينياً، في زمن كان فيه بعض شعوب أوروبا الشرقية قد بدأ ينتفض ضد الستالينية، بيد أن تلك الصورة كانت مخطئة. وخطؤها لن يظهر من خلال تحري مواقف بريخت السياسية أو علاقته بالأحزاب الشيوعية، أو من خلال رد فعل منظري تلك الأحزاب على عمله، بل من خلال قراءة متأنية وواعية لمسرحيات بريخت نفسها هي بالتحديد قراءة أوين؟

تناقض تام مع الستالينية

بالتالي، هل سيكون من قبيل المغامرة أن نقول إن الوقت قد حان للنظر إلى مسرح بريخت على أنه يقف موقفاً مناقضاً تماماً، في جوهره كما في بنيته، لكل ما تمثله الستالينية من فكر وممارسة؟ إنه أمر يقترحه علينا قلة على أي حال من الذين بحثوا في تراث بريخت وقرؤوه على ضوء الظروف التي كتب فيها، وفي مقدمتهم، بالطبع، فردريك أوين، الذي قدم لنا ما يمكن اعتباره أفضل دخول إلى عالم بريخت في كتابه الذي نتحدث عنه.

في كتابه يروي أوين حياة بريخت، فيقول لنا – ما يعرفه الكثيرون على أي حال – إن بريخت ولد في عام 1898 في أوغسبورغ، على الرغم من أن أصوله العائلية تعود إلى منطقة الغابة السوداء، وأنه اكتشف الماركسية في عام 1926، حيث وجدها تتلاءم مع همه في تثوير المسرح. وخلال تلك الآونة كتب بريخت العديد من مسرحياته الكبرى، مثل “أوبرا القروش الثلاثة”، و”طبول في الليل”، و”رجل برجل”، وغيرها، وكتب الكثير من الشعر، ووضع العديد من النظريات المسرحية، وابتكر ما أطلق عليه اسم المسرح الملحمي، وحاول أن يخلص المسرح من تقاليده الأرسطية.

الصدام مع النازية أبدي

غير أن بدايات بريخت الحقيقية والأكثر أهمية تعود إلى تصادمه مع النازية ومع الفكر الشمولي إثر حريق الرايخشتاغ، حيث نراه كما يفصل أوين ذلك بدقة، يختار درب المنفى، ويكرس معظم مسرحياته لمقارعة الديكتاتورية. وهو لئن أبدى الكثير من الشكوك حول الستالينية (ولا سيما لمناسبة إعدام ستالين للكاتب ترتياكوف عند نهاية سنوات الثلاثين كما رأينا)، فإنه رأى أن الوقت يضطره لأن يلتفت لمقارعة النازية وصعود هتلر، فكتب في ذلك الاتجاه، أكثر مسرحياته قوة ووضوحاً، ولكنه في الوقت نفسه ضمن معظم مسرحياته تلك الأسئلة القلقة والحائرة التي تقف موقف الضد من يقينية الستالينية المريحة. والحال أن قراءة متأنية لمسرحية “غاليليو”، أو “دائرة الطباشير القوقازية”، أو، خاصة “الأم كوراج”، و”رؤى سيمون ماشار”، تضعنا، بحسب أوين، مباشرة، أمام كاتب يشك في كل ما كان قد آمن به من قبل. مهما يكن، فإن برتولت بريخت، الذي يظل يبدو لنا شديد المعاصرة، وتظل أعماله تبدو لنا حافلة بالأسئلة والشكوك المدهشة، لم يكتفِ بأن يجعل من مسرحه مسرحاً أيديولوجياً سياسياً، بل كان يرى أن المتعة يجب أن تشكل جزءاً أساسياً من اللعبة المسرحية، وهو لئن كان أصر دائماً على أن يورط جمهوره في أفكاره المسرحية، فإنه حرص على أن يكون التوريط عن طريق إعمال العقل، لا عن طريق العاطفة. وبهذا المعنى كان بريخت سقراطياً حقيقياً يعمل على انتزاع الأجوبة والمواقف المطلوبة، من جمهوره انتزاعاً، لا على فرضها عليه.

رحل بريخت منذ أكثر من نصف قرن، لكن حضوره ظل – ولا يزال – قوياً، من خلال أعماله التي تقدم في مئات العروض سنوياً، ومن خلال السمعة الجيدة التي تمتعت بها فرقته “برلينر إنسامبل” التي أسسها مع زوجته وشريكته، هيلينا فايغل، في ألمانيا الشرقية التي عاد إليها بعد منفاه الأميركي الطويل، ولكن خاصة من خلال التأثير الذي مارسه على كبار كتاب المسرح في العالم من ماكس فريش إلى ثورنتون وايلدر ومن فردريك دورنمات إلى تنيسي ويليامز وجون أوزبورن وستيفن سبندر وآرثر آداموف وبيتر فايس، وصولاً إلى كاتبينا العربيين ألفريد فرج وسعدالله ونوس.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش