صراع الدين والسياسة على خشبة المسرح : محمد عبد الهادي

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور ينقذ المسرح المصري من ضعف النصوص وهروب النجوم.

لا تزال مسرحيات الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور تحظى بإقبال كبير لدى مخرجي المسرح في مصر، الذين يعيدون اكتشافها باستمرار وتقديمها بصيغ إخراجية جديدة تضاعف من دلالاتها وحضورها وتأثيرها، مستفيدين من قوة موهبته الشعرية وتمتع أعماله المسرحية بعناصر الصراع، وهو ما ينسحب على غالبية أعماله المسرحية، وتغطي موضوعات الشاعر حالات سياسية واجتماعية ونفسية ودينية.

القاهرة – في خضم ضعف بعض النصوص المسرحية الجديدة بمصر، وجد مخرجو المسرح الشباب ضالتهم في أعمال الراحل صلاح عبدالصبور، أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي، بحياكته الشديدة لأبطال مسرحياته التي جعلها حبلى بقضايا وصراعات صالحة لكل زمان ومكان، وحصل البعض من المخرجين على تذكرة مرور خضراء إلى قلوب المشاهدين.

أعاد المخرج الشاب محمود فؤاد قبل أيام، تقديم مسرحية “مسافر ليل” بمركز الهناجر بدار الأوبرا المصرية، في الذكرى الـ37 لرحيل عبدالصبور، بتصميم المسرح على شكل عربة قطار، ليضع الجمهور مع الممثلين في مكان واحد يتسق مع هدفه في إظهار سلبية الشعوب، مختلفا عن عشرات العروض السابقة التي قدمت المسرحية ذاتها.

تنتمي “مسافر ليل” إلى تيار التجريب المسرحي المنطلق من عباءة مسرح العبث الحديث الذي يعكس الواقع الاجتماعي المؤلم، ويمتاز بقلة عدد شخوص أعماله وجريانها بمكان ضيق أو محدود جدا، وتعتمد على الحوار الذي لا يهتم أحيانا بعنصر التوصيل أو الترابط، لكن عبدالصبور تجاوز تلك المشكلة بحوار متماسك يتسم بانتقالات منطقية.

مع ضعف رواتب الممثلين بمسرح الدولة، والمجهود الشاق المطلوب للوقوف على “الخشبة”، هجره معظم النجوم إلى الدراما التي تحقق عائدا ماليا جيدا، ما اضطر بعض المخرجين إلى الاستعانة بمغمورين، لأن المحك النص القوي الذي يجذب الجمهور والشهرة الواسعة للمؤلف، التي قد تدفع الجمهور إلى الحضور، بصرف النظر عن أسماء الممثلين أو المخرج.

تدور أحداث المسرحية، التي تم نشر نصها عام 1968، داخل عربة قطار بين “مفتش التذاكر” ويجسده الفنان علاء قوقة ممثلا للسلطة الباطشة، و”راكب” يجسده الفنان مصطفى حمزة، ممثلا دور المثقف، بالإضافة إلى الفنان جهاد أبوالعنين في دور الراوي أو الشعب، ويطرح العرض العلاقة الجدلية بين الفرد والسلطة والتي تنتهي بانتصار الأخيرة وقتلها المواطن.

تمتاز نصوص عبدالصبور، الذي ولد في 3 مايو 1931، بمدينة الزقازيق على بعد 80 كيلومتر من القاهرة، بالشعر الحر المعتمد على “التفعيلة” والرمزية والموسيقى الداخلية المناسبة بين الألفاظ والتحرر من القافية الواحدة، بما مكنه من تطويع قضايا السياسة والدين الشائكة، وحتى الصراع النفسي، والنزول بها من برج عاجي إلى لغة خاصة تلعب على وتر السهولة والرصانة بالوقت ذاته.

احتل عبدالصبور المرتبة الثانية في المسرح الشعري بعد أمير الشعراء أحمد شوقي، رائد المسرحية الشعرية بمصر، لكن الأول كان الأكثر حضورا على المسرح فائزا في معركة اللغة وتطويعها والصراع وإدارته عبر أسلوب شعر درامي.

اختار شوقي أبطاله من الصفوة بلغة راقية تناسب طبيعتهم في مسرحياته (مجنون ليلى، عنترة، كليوباترا، قمبيز، علي بك الكبير، الست هدى) لكن عبدالصبور فضل الحديث في أعماله (بعد أن يموت الملك، الأميرة تنتظر، مسافر ليل، ليلي والمجنون، مأساة الحلاج) عن الفقراء والجوع والعدل بلغة حرة رشيقة متحررا من الوزن والقافية التي سيطرت على شعر أمير الشعراء.

توظيف مستمر

المواطن حينما يفقد القدرة على المواجهة ويفقد حقوقه
المواطن حينما يفقد القدرة على المواجهة ويفقد حقوقه

تعتبر “مسافر ليل” بحكم توظيفها المستمر الأكثر شهرة بين مسرحيات عبدالصبور، ويعتقد المخرجون أنها الأكثر درامية في أعماله، لكن يبدو أن هناك سببا آخر خلف ذلك الحضور، نابعا من أنها الأسهل نقلا إلى المسرح، فالمشاركون لا يتجاوزون “الراوي وعامل التذاكر والراكب” وتعتمد كثيرا على الحوار الذاتي.

يقول محمود صدقي، مخرج العرض الأخير لـ”مسافر ليل”، “إن نصوص عبدالصبور صالحة لفترات طويلة، ويبقى على من يقدمها اكتشاف طرق جديدة لجعلها أكثر إبهارا، مثل تقديمها داخل عربة قطار تضم الجمهور ليصبح جزءا من العرض”.

ويضيف لـ”العرب” أنه لجأ إلى حيلة ذكية لزيادة عدد المشاركين في المسرحية من ثلاثة إلى 60 بإدخال الجمهور إلى العربة ليلعبوا دورا سلبيا كمشاركين للراكب أو المسافر في تعرضه المستمر للبطش أو القهر من قبل عامل التذاكر الذي يمثل المستبد في كل العصور.

كان رهان المخرج الشاب على مسافر ليل لحجز مقعد مع الشهرة ناجحا، فالعرض جذب ثلاثمئة من المشاهدين، بينما الديكور كان مصمما لستين متفرجا فقط يمثلون متوسط العدد المتوقع للجمهور الذي يحضر عروض المسرح القومي بمصر، ما دفع المنظمون إلى تجهيز مقاعد إضافية ووضعها خارج الديكور لاستيعاب الجمهور الذي استهواه اسم عبدالصبور قبل العرض.

تجسيد أدب عبدالصبور يبعد المخرجين عن أزمات عانى منها زملاؤهم، عندما تناولوا عروضا جديدة مثل “قواعد العشق الـ40″ المقتبسة من رواية شهيرة للكاتبة التركية إليف شافاق، بطولة بهاء ثروت وبمشاركة فرقة المولوية للتراث الصوفي، وإخراج عادل حسان، والتي لم تراع الفضاء الرحب لخشبة المسرح واتسمت بالإيقاع الحركي الرتيب الذي لم تعوضه قوة معالجة النص المترجم.

وأعاد مسرح معهد الفنون المسرحية، أخيرا، تقديم “ليلى والمجهول” عن نص “ليلى والمجنون” من إخراج أحمد كشك، وبطولة محمد عادل ومارتينا عادل، مع تدخلات شعرية لإبراهيم جمال أسقطت البعض من النص الأصلي في ما يتعلق بمساحات الهجوم السياسي، مع غناء وألحان أحمد شرف، والتي تمتاز بكم أكبر من الممثلين وحوار أكثر سخونة بينهم.

ربما كانت “ليلي والمجنون”، التي نشرت عام 1972، الأكثر نضجا بمسرح عبدالصبور، ويعبر فيها عن جريدة معارضة تضطر إلى الإغلاق، ليكتب نهاية مأساوية “الصبر تبدد واليأس تمدد.. لا تنسى أن تحمل سيفك.. لا تنسى أن تغلق باب المكتب.. أن تغلق باب الشقة.. هذا زمن لا يصلح أن نكتب فيه.. أن تتأمل أو تتغنى أو حتى توجد”.

تدور المسرحية بين زمنين، أحدهما ظاهر يعود إلى ما قبل عام 1952، أما الخفي فيتناول فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ولا يظهر هذا التفاوت الزمني إلا في مقطوعة واحدة كتبها عمدا عبدالصبور “أنا وقت مفقود بين الوقتين.. أنا أنتظر القادم”.

تنبع خصوبة المقطوعة من فكرة المعاناة والحزن واليأس الشديد الذي سيطر على أبياتها ما بين وفاة الحب بسبب الفقر، وموت الأمل بسبب الجوع، وموت المستقبل بسبب الظلم.

“مسافر ليل” و”ليلى والمجنون” و”مأساة الحلاج”.. حضور مستمر لجدلية علاقة السلطة بالشعب

“ليلي والمجنون” هي مرثاة للجيل الذي انتمى إليه عبدالصبور وتناولت العلاقة التصادمية بين السلطة ومثقفي الستينات بأبيات طغت عليها النزعة الثورية.

كانت السلبية العنصر المشترك الذي وُصمت به الجماهير في جميع مسرحيات عبدالصبور، هي المتشبثة بحياد مكذوب أضفي إلي قتل الراكب في “مسافر ليل”، وهي الجماهير التي وصفوها كقطع الشطرنج ورشوّها بدنانير ذهبية للشهادة على زندقة “الحلاج” في “مأساة الحلاج”، وهي التي رفضت اعتناق فكرة وفاة الملك رغم تحول جثته إلى رفات في “بعد أن يموت الملك”.

وتمتاز “مأساة الحلاج” التي تدور عن عبدالله حسين بن منصور الحلاج، أحد رواد التصوف الذي عاش في بغداد في القرن الرابع الهجري، بصراع من نوع خاص أوله داخل عقل القطب الصوفي حول العدل، وخارجي مع أتباع طريقته حول اعتزال الدنيا لأهلها أم الاشتباك مع قضاياها، وسياسي مع الشعب وقضاة محاكمته، وديني مع زملائه بالسجن.

رغم خصوبة نص “مأساة الحلاج”، الذي نشر عام 1966، إلا أنه الأقل حضورا على خشبة المسرح، فتشابكاته المعقدة مع الواقع واقترانه الشديد بها، ومساحة النقد السياسي جعلت النص مخاطرة عالية في التقديم على المستوى الرسمي، ليتم تقديمه فقط بواسطة الشباب في قصور الثقافة في محافظات مصر مع بعض التعديلات.

بين أحشائها، استعراض لجدليات تشغل الإنسان في كل زمان “لماذا الإنسان تعيس في ملكوت الله؟” ليرد عبدالصبور القضية إلى الرأس، فلا يفسد أمر العامة ــ كما يقول ــ إلا السلطان الفاسد يستعبدهم ويجوعهم، والوالي العادل عنده قبس من نور الله ينور بعضا من أرضه، أما الوالي الظالم فستار يحجب نور الله عن الناس كي يفرخ تحت عباءته الشر.

يرد عبدالصبور الفقر إلى أصول أبعد من تعريفه بأنه عدم القدرة على الحفاظ على المستوى الأدنى من المعيشة، فيقول إنه ليس الجوع إلى المأكل والعري إلى الكسوة ولكن الفقر، واستخدامه لإذلال الروح وقتل الحب وزرع البغضاء..

ظلم أدبي

الركاب كمشاركين في صناعة الحدث في اكتشاف جديد لمسرح عبد الصبور
الركاب كمشاركين في صناعة الحدث في اكتشاف جديد لمسرح عبد الصبور

يقول الناقد الأدبي أحمد مجاهد، لـ”العرب” إن مسرحيات صلاح عبدالصبور لم تأخذ حقها بسبب مناقشتها قضية الصراع مع السلطة والتي ظهرت بوضوح في “مأساة الحلاج” الذي يرمز فيها للمثقف الباحث عن العدل، متناولا على المستوى الأيديولوجي فترة الرئيس جمال عبدالناصر والمواجهة بين الشباب المثقف والسلطة.

يبدو الطغيان السياسي لأفكار الحرية والعدل والفقر ينم عن ولع عبدالصبور السياسي حتى بمسرحية “الأميرة تنتظر” التي تمتلئ بالرومانسية الحسية الشديدة لم ينس أن يمر دون منحها لمسة تتعلق بالحكم.

في “بعد أن يموت الملك” التي نشرت عام 1973، وتم تجسيدها العشرات من المرات بالمرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة يناير 2011 بمصر، يصادف المشاهد خلطة سحرية من الرومانسية والسياسة بين ملك عقيم، وشاعر يقضي وقته في حياكة أبيات شعر للوصيفات يتغزلن فيها بفحولة ملكهم، وملكة تريد طفلا، وحاشية ترفض الاقتناع بموت ملكهم، حتى بعد تحول جثته إلى تراب وتهدم معالم القصر.

لا يعتمد مسرح عبدالصبور على الأداء الحركي الراقص الذي يمتلك القدرة على التعبير الدلالي في توصيل الأفكار والأحاسيس والحالات، بل يعتمد فقط على اللغة أو البضاعة التي امتلكها وطورها، وإدارته للحوار المسرحي بمنطقية وسلاسة، وسخرية شديدة تجعل بعض الفقرات شبيهة بالملهاة السوداء.

وكشف مجاهد على هامش ندوة أقامتها دار “بتانة للنشر والتوزيع″ بوسط القاهرة بمناسبة ذكرى رحيل عبدالصبور أخيرا، وحضرتها “العرب”، أن الشاعر رفض أن يدخل السياسة إلى شعره، وحصرها في مسرحياته.

مر عبدالصبور بصراع محتدم على مدار حياته من اتهامه بكراهية اليسار ومعاداة الحرية، وما بين معاملته كمحرر بالقطعة في بعض المؤسسات الصحافية المصرية ورفض تعيينه، وحتى وفاته في 13 أغسطس 1981 كانت بسبب أزمة قلبية أعقبت اتهامه بالتطبيع مع إسرائيل في أثناء رئاسته الهيئة العامة للكتاب، بعدما وافق الرئيس أنور السادات على مُشاركة إسرائيل في معرض الهيئة، رغم رفض عبدالصبور، وتقديمه استقالة لم يتم قبولها.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *