فولتير يظهر على خشبة المسرح القومي في القاهرة / شريف الشافعي

 

“المتفائل” كوميديا استعراضية مصرية مأخوذة من “كانديد”، إذ أنها تواجه الواقع العبثي بالسخرية.

للمسرح دائما مخالبه الناعمة المؤثرة التي تُتوّجه ملكا للفنون العريقة والحديثة في آن، وفي جعبته الكثير من آليات التفاعل الحر مع حركة الحياة، بل إن الحياة ذاتها مسرح كبير وفق المقولة السائدة، ويدرك المسرحيون المعاصرون جيدا حجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم، فنيا واجتماعيا وتنويريا وتوعويا، فلا مسرح دون قضايا ومن غير مواجهة.

القاهرة – تتخذ مسرحية “المتفائل” التي يجري عرضها حاليا على “المسرح القومي” بالقاهرة من السخرية والتفاؤل والفانتازيا معابر لإقامة عالم مواز بديل يليق بالإنسان، وتغامر المسرحية بإعادة صياغة رواية فولتير الشهيرة “كانديد” في إطار كوميدي استعراضي.

وتستلهم المسرحية “كانديد” المكتوبة في القرن الثامن عشر في معالجة جديدة تهدف إلى التصدي لعبث الواقع بالسخرية والإضحاك، عسى أن يصير التفاؤل والابتسامات أهلّة وليدة مضيئة في سماء معتمة.

دراما الأزمنة

‎ عندما تضيق الأرض وتتقلص فرص العيش الكريم في الواقع، يفزع البشر بآمالهم إلى الخيال، وربما إلى الأحلام والأوهام، حيث تتراقص أمام أعينهم مثاليات اليوتوبيا وأركان المدينة الفاضلة القائمة على العدل والمساواة والحق والخير وغيرها من القيم النبيلة المفقودة في العالم الحقيقي. وإذا كان أهل المنطق يرون ذلك جنونا، فإن هنالك من ينظرون إلى الإفراط في التفاؤل بوصفه مقدمة إيجابية لشحذ الهمم وإشعال شرارة التمرد والتغيير.

تقدم مسرحية “المتفائل”، من ‎إعداد وإخراج إسلام إمام وديكور حازم شبل،‎ وأزياء نعيمة عجمي وموسيقى هشام جبر واستعراضات ضياء شفيق، رؤية كوميدية سمحت لأبطال العرض بإعادة اكتشاف أنفسهم كممثلين متميزين، على رأسهم سامح حسين في دور “كانديد”، وسهر الصايغ في دور الأميرة “كوندا”.

تتيح المعالجات الدرامية المبنية على أحداث تاريخية أو أسطورية، أو أعمال أدبية كلاسيكية، المجال واسعا للتحرك بحريّة أكبر، خصوصا في تعرية الواقع وتحليله وانتقاده، وتأتي الأحداث والشخصيات والأفكار مغلفة بالإسقاطات والأقنعة، فلا يملك أحد الجزم في أي زمان ومكان يدور العرض، بما يمنحه مزيدا من القدرة على التعمق والتجريد وإثارة القضايا التي تشغل الإنسان بوجه عام.

لم تقصد المسرحية إعادة إنتاج رواية “كانديد” لفولتير، وإنما التقطت جوهر فلسفة التفاؤل والإيجابية في مواجهة السواد المحيط، إذ يجب أن يمضي كل شيء إلى الأفضل لأن الله محب للخير، والبشر بأعمالهم الطيبة من حقهم بلوغ أفضل العوالم الممكنة. ومهما تجسدت الكوارث والخيبات فليكن الخلاص منها بالسخرية والمقاومة والبناء.

التقطت المسرحية كذلك بعض الأحداث المتناصة مع رواية فولتير، دون تقيد حرفي، فثمة شاب بريء “كانديد”، من غير أصول ملكية، نشأ وترعرع في قصر خاله الأمير (المتطلع إلى أن يصير ملكا)، وأسند تعليمه إلى أحد الحكماء الذي علمه الفلسفة ورسّخ لديه نظرية التفاؤل ومقابلة العالم بالخير وحسن النية.

لم يكن زاد الحكمة كافيا للفتى “كانديد” الذي اصطدم بالواقع وصخوره وشروره، فخاله وزوجته يرفضان زواجه من ابنتهما الأميرة “كوندا”، بسبب أن والده هو شخص عادي (طبيب القصر) وليس أميرا، وينتهي الصدام بطرد كانديد من القصر، ليواجه العراء في العالم الخارجي، ويرى البشر على حقيقتهم خارج نظرية الفليسوف المعلّم المثالية.

تمضي الأحداث في إطار مشوّق مسل على مدار عشر سنوات يصارع فيها كانديد البقاء، وتتغير مصائر البشر جميعا، فالجنود الغزاة يقتحمون المدينة وقصر الأمير، ولا أحد يعلم ما جرى للأمير وزوجته وابنته، وينضم “كانديد” فترة إلى الجيش البلغاري، ويخطفه القراصنة ويجوب العالم من أرض إلى أرض، ومن جزيرة إلى أخرى.

بعد صولات وجولات ومعارك كثيرة، ومواقف يتجلى فيها معدن كانديد النفيس، يصير الشاب بالغ الثراء، وتبهر خصاله وأخلاقه وشهامته وتصرفاته القيادية الحكيمة سكان إحدى الجزر، فيعرضون عليه كرسي العرش، وهنا يكتشف “كانديد” أن خاله وابنته مخطوفان، فيهرع لتحريرهما من العبودية والأسر، ويستعيد الملك الثري حلمه القديم في الزواج من “كوندا”، بعدما تعلّم خاله الدرس جيدا.

كرامة الإنسان

مسرحية قدمت شذرات إنسانية تدعو إلى الارتقاء بالقيم والأخلاق
مسرحية قدمت شذرات إنسانية تدعو إلى الارتقاء بالقيم والأخلاق

عبر فصلين امتدا لأكثر من ثلاث ساعات، بينهما استراحة قصيرة، جسّدت مسرحية “المتفائل” لهاث الإنسان وتطوافه المستمر في الآفاق بحثا عن حياة تليق بكرامته وإنسانيته، مع الاحتفاظ دائما بالتفاؤل والابتسام والسخرية والمرح، إيمانا بأن ما هو قادم أفضل.

إذا كان فولتير ذاته في روايته راح ينتقد تفاؤله في نهاية المطاف، لأنه لم يفلح في إصلاح هذا العالم الخرب، فإن المسرحية ظلت منحازة إلى “التفاؤل” حتى لحظة النهاية السعيدة، فهي دراما تهدف إلى البناء، ولا تتخذ من الهدم أو السوداوية سبيلا، وإن كانت مفعمة بالنقد والسخرية في إطار كوميدي.

جاء العرض حافلا بالأداء التمثيلي والاستعراضي والغناء والرقص، وأبدع العارضون في تجسيد المشاهد الصعبة، كما في المعارك البرية والبحرية والمبارزات بالسيوف وغيرها، وأظهر الفنان سامح حسين قدراته الكوميدية والحركية من خلال الالتزام التمثيلي والتعبيري والتقيد بالنص المحبوك وعدم الانزلاق إلى “النكات” المجانية والارتجال والابتذال.

واتسقت الأغنيات والاستعراضات مع التسلسل الدرامي، فلم تكن فواصل أو فراغات بين المشاهد المتلاحقة، وإنما جاءت جزءا من نسيج الأحداث في قالب حركي لكسر الملل الناجم عن طول المسرحية وسطوة الحوار.

بدت لغة المسرحية حية بالعامية المصرية الجارية على ألسنة الشباب في الجيل الحالي، وكذلك الأشعار والأغنيات، من أجل تبسيط الفكرة، والنزول بفلسفة فولتير الجادة إلى ميدان الهزل والضحك الملائم للصغار والكبار على السواء.

وتفجرت الكوميديا عادة من خلال المواقف والمفارقات، كحلم كانديد وكوندا مثلا بقضاء “شهر العسل” في ذلك الاختراع الجديد العجيب في ذلك الوقت “القطار”، ومغامرات كانديد عند انضمامه إلى الجيش البلغاري وهو لم يعرف فنون القتال من قبل، بما يذكر بأفلام إسماعيل ياسين الشهيرة في الجيش والأسطول والطيران.

قدمت المسرحية في طيات الكوميديا الخفيفة شذرات إنسانية للارتقاء بالقيم والأخلاق، دون اللجوء إلى المباشرة، منها التأكيد على أن مفهوم السلام الحقيقي هو ذلك الشعور بالحب، وأن معنى الحياة هو القدرة على سقاية الأرض الميتة، وأن امتلاك العالم يتأتى بالعلم والخلق والتطهر الروحي وليس بالحروب.

انتقدت المسرحية الخصال السيئة لدى البشر، التي أدت إلى انهيار العالم وقبحه، مثل الطمع والانتهازية والفساد، كما رصدت صراعات الأجيال الدائرة بين “أهل الأقوال” و“أهل الأفعال”، وتهكمت المسرحية الجريئة على الدكتاتوريات والسلطات الجائرة التي تنتهج سياسات الصوت الواحد، ولا تتيح مجالا للمعارضة والاختلاف، وترفع شعارات مضحكة من قبيل “لا تسأل، خالف تُقتل”.

دراما تهدف إلى البناء
دراما تهدف إلى البناء

______________
المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش