الملك لير في القاهرة” الإنتاج المبهر يسرق الأضواء من يحيى الفخراني / محمود زكي

 

 

 

الفنان المصري يقدم مسرحية مليئة بالجهود الفنية أبرز ما ميزها الجودة الإنتاجية المبهرة، والتي سرقت الأضواء من باقي نواحي العمل الفني المركب.

يعتبر بعض النقاد مسرحية “الملك لير” للكاتب البريطاني الشهير وليم شكسبير، أنها تُقرأ ولا تمثل، كناية عن صعوبة تحويلها إلى عمل مسرحي. لكن الممثل المصري يحيى الفخراني قبل التحدي مرتين، عندما أعاد إنتاج المسرحية الإنكليزية للمرة الثانية بعد 17 عاما، لكن هذه المرة بعوامل إبهار فنية وإنتاجية، ربما تتحول إلى انطلاقة جديدة للمسرح العربي.

تمثل تراجيدية “الملك لير” تركيبة معقدة ومفعمة بالمشاعر والدراما والرموز الخالدة لصراعات الخير والشر والبحث عن المال والسلطة، والتي يمكن تسليطها على كل عصر رغم أنها كتبت قبل 500 عام.

مع اهتمام الفنان الكبير يحيى الفخراني بذلك العمل الفذ لم يخش مناطحة كبار الفنانين من أمثال آل باتشينو وأنتوني هوبكنز وغيرهما من أقطاب التمثيل الكبار الذين مثلوا شخصية الملك في ما بين الشهوة والتضحية.

قدم الفنان المصري مسرحية مليئة بالجهود الفنية الجبارة، أبرز ما ميزها الجودة الإنتاجية المبهرة، والتي سرقت الأضواء تقريبا من باقي نواحي العمل الفني المركب.

كان أمام الفخراني ثلاثة تحديات عندما قبل بعرض المنتج مجدي الهواري، صاحب مشروع “كايرو شو” العملاق للإنتاج المسرحي، الذي طلب إعادة تقديم الملك لير. التحدي الأول هو مقارنة المسرحية الحالية بعمل قدمه الفخراني نفسه من قبل، والثاني تحويل مسرحية فنية مترجمة بلغة فصحى صعبة إلى عمل جماهيري جذاب، والحفاظ على هيبة العمل الشكسبيري دون تكثيف في التعريب أو التمصير. نجح الفخراني في الأول والثاني، لكنه فشل في الثالث.

اكتظ العرض في أكبر متاجر القاهرة (مول كايرو فيستيفال)، بمئات المشاهدين مع الأيام الأولى للمسرحية، التي بدأت الأسبوع الماضي. ورضي الجمهور الباحث عن وجبة تمثيلية فنية دسمة مصحوبة بقدرات هائلة عبر إجادة ملموسة في اختيار الطاقم المسرحي.

كان الفخراني كعادته قائدا محنكا في إدارة خشبة مسرحه بالتوازي مع قدرات إبداعية وتمثيلية لم تكن مفاجئة لأغلب متابعيه الذين اعتادوا الولوج بين أعماله للاستمتاع بحبكته وتوليفته الساحرة بين انفعالات عاطفية قوية وحركة جسدية مفعمة بالأحاسيس وممزوجة بنبرات صوت يعلو حينا ويخفت حينا آخر حسبما يقتضيه كل مشهد.

مباراة نضال وفهمي

يُعاب على الفخراني ذوبانه في الحفاظ على رتابة العمل دون أن يشتبك معه عبر إسقاطات مع الواقع والسعي إلى تبسيط اللغة
يُعاب على الفخراني ذوبانه في الحفاظ على رتابة العمل دون أن يشتبك معه عبر إسقاطات مع الواقع والسعي إلى تبسيط اللغة

صاحب الفخراني فنانيْن مهمين، هما نضال الشافعي، الذي قام بدور إدموند ابن الدوق جلوستر غير الشرعى، ومحمد فهيم، الذي قام بدور المهرج بهلول، وقدما أداء حرّر آهات المشاهدين واجتذب عواطفهم بقدرات تمثيلية ملفتة وإجادة لحبكة الدور المركب.

فاجأ الشافعي، الذي عرفه الجمهور للمرة الأولى كوميديا بملامح شعبية في مسلسل “تامر وشوقية”، الحاضرين بتقديم ثيمة فنية براقة للشر، بدا من خلالها في شخصية إدموند محركا للشر في المسرحية، ولها تكوين حيوي لإدارة العمل بامتياز.

وحافظ على ما عالجه شكسبير من عرض لشخصية البشر المتناقضة بعيوبها كلها، عبر تحكم في تعبيرات الوجه والأداء الصوتي والحركي للجسد، ولاسيما مع المشاهد الفردية، بشكل أشبع رغبات الجمهور الباحث عن فهم التركيبة الشريرة المعقدة والمتناقضة.

وأجاد فهيم في تقديم شخصية المهرج، وهي من أهم مفاتيح شخصيات شكسبير المتكررة في كتاباته. وقدم دور بهلول بأداء متنوع بين أغاني استعراضية مبهرة، وحركات جسدية مفعمة بالليونة، وحاول أن يشتت ذهن لير المضطرب حتى لا يجن بأثر ما فعلته بناته به من عقوق بعد أن قسم بينهن كل ما يملك، حتى أفلح في تحويل وجه المهرج إلى مرآة تعكس مشاعر الحاضرين حزنا على الملك لير الهائم، وجرائم بناته التي لا تغتفر.

على النقيض جاء أداء شخصيات بنات لير الثلاث (جنريل وريجان وكوردليا) باهتا إلى حد كبير، وقد قامت بتشخيصها الفنانات؛ رانيا فريد شوقي وريهام عبدالغفور وهبة مجدي، ولم يخرج الأداء عن النمط التقليدي للصراع بين الخير والشر، والوجه العبوس واللغة المسرحية الهادئة.

قدم الفنان فاروق الفيشاوي، الذي عاد إلى الأضواء لأول مرة بعد إصابته بمرض السرطان، أداء متغيرا حسب فصول المسرحية، وظهر قويا في مشاهد فقدان بصره ثم موته على حافة الجبل أثناء البحث عن ابنه المظلوم، وجاء هزيلا في المشاهد الأولى مع تعزيز دوره كرجل دولة نافذ يُخدع بحيلة ساذجة.

عناصر الإبهار

رانيا فريد شوقي ومحمد فهمي
رانيا فريد شوقي ومحمد فهمي

بدا عامل الإبهار قويا، من موسيقى تصويرية وديكور وتصميم للأزياء وإخراج مسرحي، إلى درجة كانت كافية في التغطية على الأداء التمثيلي للبعض أو رتابة عدم تقديم فوارق شاسعة بين مسرحية لير التي قدمت عام 2002 والنسخة المعادة هذا العام. كانت الموسيقى، التي قدمها الموسيقار مصطفى الحلواني، معبرة ورنانة إلى درجة أضفت بعدا عاطفيا على الكثير من المشاهد المكتظة بالدراما، سواء المتعلقة بالشر التي قدمها الشافعي، أو مشاهد الموت والفناء ليحيى الفخراني.

تضاف إلى ذلك إجادة الفنان أحمد فؤاد سليم، وإتقان استخدام المؤثرات الصوتية في الأوقات المناسبة للرياح والأمطار والأصوات المنبعثة من عراء الصحراء، والتي سارت بشكل مقبول ومتواز مع الشاشة العملاقة التي استخدمت كديكور لتلك المشاهد.

ظهر تصميم الديكور والأزياء كرمانتي ميزان في المسرحية منذ اللحظة الأولى، وربما قبل دخول المسرح بعد أن تبنى مخرج العمل تامر كرم ومصممة الأزياء نيفين رأفت، توجها أوروبيا مشابها لمسارح شارع “وست إند” في لندن عندما اهتما بتقديم مدخل خارجي ملفت ومفعم بأضواء وتصميمات تشابه قلاع القرون الوسطى.

وصاحب تلك المناحي المزيد من البهجة مع استخدام ممثلي المسرحية الشباب كتماثيل صامتة بأزياء وماكياج فني تاريخي في ممر الدخول إلى المسرح، ليسارع الحضور في التقاط الصور معهما.

في الداخل كان عامل الإنتاج الضخم واضحا مع تصميم إطار خشبة المسرح من قصور القرون الوسطى، والاهتمام الدقيق بتصميم الشرفات والأعلام على طريقة الفن القوطي الذي اشتهر في أوروبا في القرن الرابع عشر. وأثناء العرض المسرحي كانت خلفيات المشاهد متقنة إلى حد كبير أعطى انطباعا بمشاهدة عمل يشابه المسارح الغربية.

مثل عامل الدقة في المسرحية جانبا مبهرا عبر الاهتمام بتقديم أزياء تشبه تلك الحقبة التاريخية بجودة عالية للجميع، سواء أبطال العمل والممثلين المساعدين من جنود وخدم. وهي مسألة لم تكن في نطاق اهتمام المسرح المصري لعقود طويلة، ولم تتوقف تلك الدقة عند الأزياء، لكن أيضا على الإكسسوارات من خواتم وتيجان وعقود تغيرت من ممثل لآخر، حسب رتبته ومكانته الاجتماعية في القصة.

نضال الشافعي وفاروق الفيشاوي
نضال الشافعي وفاروق الفيشاوي

كانت النقطة الأكثر إتقانا وجذبا هي مشاهد المعارك الحربية على المسرح، وبرزت بشكل حماسي ومثير بصورة لم تشاهد على خشبة مسرح مصري من قبل. ولم يعتمد المخرج على الكلمات، بل استند إلى مشاهد صامتة استمرت لدقائق، وقدم تامر كرم ملحمة حربية بين الإنكليز والفرنسيين، معتمدا على أداء تدريبي واضح وموسيقى تصويرية معبرة ليصبح المشهد الحركي بالسيوف أقرب إلى السينما من المسرح.

جذبت المسرحية في مجملها الجمهور، وإن لم تقدم جديدا أو إضافة إلى عمل شكسبير، لكن الفخراني اعتمد على موهبته وإجادة ممثليه، إلى جانب الإنتاج الضخم في تقديم عمل كبير، كمحاولة واضحة للحفاظ على الهيبة في العبر والدروس التي تنطوي عليها المسرحية، من خلال الحوار المترجم والصعب بين الممثلين.

ربما يُعاب على الفخراني ذوبانه في الحفاظ على رتابة العمل دون أن يشتبك معه عبر إسقاطات مع الواقع والسعي إلى تبسيط اللغة واستخدام عبارات تقريبية أكثر ملائمة لطبيعة الجمهور.

قدم شكسبير في تلك المسرحية الأكثر تجريدية بين أعماله، روابط عميقة من المضامين الإنسانية الفاضحة لمبادئ الفضيلة المضللة وصور قبيحة من الأغراض الدنيئة للإنسان والقادرة على الفتك بكل المعاني الإنسانية المقدسة.

وبدا الفخراني ورفاقه ناجحين في تقديم صورة تكاملية لعبر شكسبير، كما رغب في عرضها دون محاولة للتعامل معها، وتركوا المسؤولية في النهاية إلى الجمهور في البحث دوما عن الحق وما يحاكيه من خبرات شخصية، أو كما يقول فاروق الفيشاوي في أحد المشاهد بعد أن فقد بصره “آفة هذا العالم أن الباحث عن الحق مجنون”.

_______________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش