مقالات

علي غالب يحلل الأيديولوجيا كأداء في عروض الهيئة العربية للمسرح

إن ما قدّمه المسرحي العراقي في هذه الدراسة يتجاوز حدود الأكاديمية نحو أفق أعمق، يحاول فيه إعادة موضعة الجسد المسرحي داخل خرائط السلطة الثقافية والرمزية.

في أول خطوة بحثية من نوعها داخل قسم الفنون المسرحية بكلية الفنون الجميلة في جامعة القادسية، شهدت الأكاديمية مناقشة أول رسالة ماجستير منذ تأسيس القسم، حملت في طياتها مغامرة فكرية وتحليلية نادرة في حقل الأداء المسرحي. الباحث والمسرحي علي غالب هاشم اختار أن يغوص في عمق البنية الفكرية والسياسية التي تشكّل أداء الممثل، فأنجز دراسته المعنونة بـ”دور المرجعيات الأيديولوجية في تحولات أداء الممثل: عروض الهيئة العربية للمسرح أنموذجًا”. لم تكن الرسالة مجرّد تمرين أكاديمي، بل بدت كأنها محاولة حثيثة لفهم الجذور غير المرئية التي تحرك الجسد المسرحي على الخشبة، متتبعة كيف يمكن للأيديولوجيا، بوصفها قوة ثقافية واجتماعية، أن تشكّل ملامح الأداء وتعيد توجيه مقاصده الجمالية والدلالية. شهدت مجتمعات العالم عبر تاريخها أنظمة وأيديولوجيات متعددة، انعكست أفكارها ومعتقداتها على مجمل عناصر المسرح، لاسيما الأداء التمثيلي، بوصفه المجال الأكثر حساسية وتأثرًا بهويات المجتمعات الثقافية، الأمر الذي منح هذه الدراسة مشروعيتها الفكرية والمنهجية، خاصة وأنها تمضي نحو استكشاف أداء الممثل بوصفه ظاهرة مشبعة بالرموز والمرجعيات.

ضمت الرسالة أربعة فصول، بدأها الباحث بالإطار المنهجي الذي طرح فيه مشكلة البحث بصيغة سؤال جوهري: ما دور المرجعيات الأيديولوجية في تحولات أداء الممثل في عروض الهيئة العربية للمسرح؟ وتوقفت الأهمية عند ضرورة تسليط الضوء على الأداء التمثيلي بوصفه مجالًا لفهم الأيديولوجيا الأدائية وحضورها من النص وصولًا إلى العرض، مع تحديد حدود البحث وتعريف أبرز مصطلحاته. أما الإطار النظري فاحتوى على ثلاثة مباحث متكاملة، تناول الأول منها مفهوم الأيديولوجيا وتحولاتها من الزوايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفلسفية، بينما اختص الثاني بتحليل نظريات الأداء التمثيلي وعلاقتها بالمرجعيات الأيديولوجية، مستعرضًا الاتجاهات الفكرية والجمالية والمذاهب المسرحية التي اشتغل عليها المنظرون، فيما انشغل المبحث الثالث بدراسة الدور الأيديولوجي في تقنية أداء الممثل عبر نماذج مبتكرة، أبرز فيها الباحث ضرورة التقصي في سبل أدائية أتى بها المخرجون والمنظرون المتأثرون بالأيديولوجيات المهيمنة التي طبعت أداءاتهم بطابع خاص.

في الفصل الثالث، قدم الباحث الإطار الإجرائي للدراسة، فحدد مجتمع بحثه في 19 عرضًا مسرحيًا شاركت في مهرجان الهيئة العربية للمسرح الذي أُقيم في بغداد، حيث اختار منها ثلاث عينات تحليلية تمثل بيئات ثقافية وأيديولوجية متباينة: مسرحية “ترنيمة الانتظار” العراقية، و”تكنزا.. قصة تودا” من المغرب، و”البؤساء” من مصر. اعتمد الباحث المنهج الوصفي التحليلي في مقاربة هذه النماذج، مستخرجًا عبرها نتائج محددة تم التوصل إليها في الفصل الرابع. أكدت النتائج على أن دور الأيديولوجيا لا يقتصر على المعتقدات وحدها، بل يتعداها ليكون بنية تفسيرية لفعل الإنسان اليومي، مرتبطًا بالصراع الطبقي والسيطرة الثقافية. كما أن تنوع الشخصيات وتفاعلها داخل العرض المسرحي يكشف مدى تشابك الصراع الأيديولوجي ومرجعياته المتعددة، وهو ما يتجلى أيضًا في تأثير مرجعيات المخرج الفكرية والاجتماعية، التي تتحكم في تشكيل الأداء ضمن الأطر المدرسية التي ينتمي إليها.

الباحث والمسرحي علي غالب هاشم
تقديم مغامرة فكرية وتحليلية نادرة في حقل الأداء المسرحي

ويبيّن الباحث أن المرجعيات الأيديولوجية للممثل والشخصية تتشابك داخل الفعل التمثيلي، وتتداخل بشكل خاص حين يكون النص محليًا متجذرًا في بيئته، بينما تتقاطع المرجعيات بنسبة مختلفة عند تناول نصوص وافدة من بيئات أخرى. وقد خلص البحث إلى استنتاجات مهمة، أبرزها أن المسرح لا يُعد أداة لنقل الأيديولوجيا فقط، بل يُعتبر وسيلة تحليل لها وتفكيك بنيتها. كما تسهم الأيديولوجيا في تشكيل الأداء المسرحي، ليس فقط على صعيد المضمون، بل من خلال التعبير الحركي، والرمزي، والنفسي، وبوصفها طريقة في الأداء والأسلوب، تؤثر في توجيه الجسد والصوت معًا. بهذا المعنى، يغدو الجسد المسرحي مشبعًا بإشارات الأيديولوجيا، ومؤديًا لوظيفتها ضمن نسق تعبيري دقيق.

في سياق هذا الفهم، يقول الباحث إن الدافع الذي قاده إلى هذا البحث كان رغبته في القيام بحفريات وأركيولوجيا للأداءات التمثيلية عبر التاريخ، منذ المسرح اليوناني وحتى يومنا هذا. ويرى أن هذه الحفريات تكشف عن مدى تأثير الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في تشكيل الأداء التمثيلي. وقد سعى من خلال هذه الدراسة إلى فهم كيفية تحوّل الأيديولوجيا، بوصفها فكرة وفلسفة، إلى أداء تعبيري يمر عبر طبقات متعددة من التأويل، تبدأ من النص، وتنتقل عبر المخرج، لتستقر أخيرًا في جسد الممثل على الخشبة.

الباحث يشير إلى أن المسرح العربي ما يزال مسرحًا ‘موفدًا’ من الغرب، يعتمد على أدوات وتقنيات مستوردة

ويرى أن الأيديولوجيا تحمل استعمالات مرنة ومتعددة، تتأثر بالسياق الاجتماعي والسياسي وتُعيد تشكيل دلالاتها وفقًا للزمن والثقافة السائدة. على مستوى الممثل، فهي تظهر لديه على مستويين: الأول مكتسب من الشخصية والنص، والثاني ذاتي يخص الخلفية الثقافية والاجتماعية والفكرية التي يحملها، إضافة إلى أثر المخرج ومرجعياته في توجيه الأداء. ويؤكد الباحث أن كل صراع درامي على الخشبة هو، في جوهره، صراع أيديولوجي بين أنساق مختلفة، داخلية وخارجية، تُنتج الحدث وتوجه معناه وتُمرّر الرسالة المهيمنة.

هذا ما برز بوضوح في تحليل العروض المختارة، مثل “ترنيمة الانتظار” التي ابتدأت بأداءات تعكس طقوسًا مسيحية عبر الترانيم والتعبّد، ثم تحولت إلى الزرادشتية الصوفية، وهو تحول أدائي يعكس انتقال المرجعية من دينية إلى أخرى، وتبيّن كيف تتحوّل الأيديولوجيا إلى لغة أداء روحي تُمارس على الخشبة. أما في “تكنزا.. قصة تودا”، فقد ظهر الانتماء الثقافي المغربي كقالب حاضن لأيديولوجيا خاصة، متمايزة عن تلك التي ظهرت في العرض المصري “البؤساء”، الذي استبطن بدوره نسقًا مختلفًا من الصراعات الأيديولوجية المتشابكة.

ويشير الباحث إلى أن المسرح العربي ما يزال، في أغلبه، مسرحًا “موفدًا” من الغرب، يعتمد على أدوات وتقنيات مستوردة، وإن حاول أحيانًا العودة إلى الموروث المحلي، فإنه يفتقر إلى قواعد راسخة تنطلق من الأرضية الثقافية العربية، ما يجعل مهمة التنظير لأداء عربي أصيل أكثر تعقيدًا. ويختم بحثه بالتأكيد على ضرورة العودة إلى أركيولوجيا الأداءات، لاستخلاص هوية فنية واضحة تستند إلى الثقافة العربية، وتسهم في تأسيس خطاب جمالي وفكري متماسك، لا في المسرح وحده، بل في مختلف الفنون. إن ما قدّمه علي غالب هاشم في هذه الدراسة يتجاوز حدود الأكاديمية نحو أفق أعمق، يحاول فيه إعادة موضعة الجسد المسرحي داخل خرائط السلطة الثقافية والرمزية، وإبراز الأيديولوجيا لا كمحتوى يُمثّل فحسب، بل كطريقة في الأداء، ونمط في الرؤية، وأداة في التفكير.

محمد الحمامصي

middle-east-online.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

للحصول على استمارات الملتقى العربي لفنون العرائس 5

للحصول على استمارات الملتقى العربي لفنون العرائس 5

This will close in 5 seconds