الثابت والمتحرك في خطاب عرض مسرحية (خلاف).. *نورس عادل هادي

الثابت والمتحرك في خطاب عرض مسرحية (خلاف)..

*نورس عادل هادي

سربت لحظة فتح الستارة خشبة عرض مسرحي ينبئ بمقترحات اشكالية تبدت بخمسة واربعين مربع قسمتها الاشرطة بالتساوي على الخشبة فيما تقابل كرسيان وظيفيان ومجسمان اتضحا انهما خزانات للذاكرة والارواح وخيالات الوهم، فضلاً عن قماشة اختزلت فضاء السقف، بأن لا مجال للسماء والامل في ظل عالم مليء بالمؤامرات تتحكم به قوى على وفق ما تؤشر عليه بوصلتها ذات الاعمدة النفعية، ذلك اننا نعيش على حافة الامل او هكذا تمركزت الفكرة لموضوعة العرض المسرحي (خلاف) (نص واخراج مهند هادي تمثيل هيثم عبد الرزاق، سهى سالم، مرتضى حبيب، انتاج الفرقة القومية للتمثيل ضمن انتاجاتها للموسم المسرحي 2022..) فقد اتخذت التجربة الاخراجية ومنذ البدء مسار انشائياً لنص العرض الذي صار يكتبه المخرج انطلاقاً من تبني فكرة ما ومن ثم تأسيس فضاء موضوعي لها وهو الامر الذي يتلذذ بمزاولته المخرج المسرحي المعاصر بصورة عامة والعراقي على وجه الخصوص، ولا نعرف حقاً ان كانت الدوافع من وراء هذا التوجه ذاتية تتسق مع مجريات الهيمنة التي اتيح للمخرج العمل بها منذ اندلاع التجريب المسرحي،  ام هي جزء من انجرار الحقبة برمتها وراء تداعيات فلسفة الما بعد التي تبيح التجاوز والمحو وتقوض الحدود، على اننا شهدنا بعض التجارب المشابهة التي اتسمت بإنجاح هذا المسعى الذي الفه المتلقي والمتابع للحراك المسرحي لكن هذا النجاح ظل يتندر حدوثه اذ يرتبط على الاغلب بجملة من الاسباب التي تسهم بحدوثه الصعب لعل اولها حدود الجودة الاخراجية التي تنم عنها امكانات المخرج، ففضلاً عن وجوب امتلاكه بادرة نحو التخييل المتفرد والمختلف يكون قد امتلك اشتراطاً مسبقاً لقدرات الكتابة ولا نقصد هنا الكتابة الدرامية فحسب وانما الكتابة للمسرح بمستوياته البحثيّة والركحيّة، فالرؤية لوحدها قد تصطنع عرضاً مسرحياً لكنها بالتأكيد لن تجتاز حدود المألوف، وهو الامر الذي تشي به حكاية العرض المسرحي الذي نحن بصدده، اذ اتخذت الحكاية من الملفوظ النصي انبثاقاً مركزياً في انشاء علاقات الفهم والانفهام كوسيلة اجرائية تعمد اليها مدونة خطاب العرض ليس في ايصال شفرتها وإنما في فك تلك الشفرة وتجهيزها للمتلقي تفادياً لما سينجر له العرض من تعقيد على مستوى الصورة، وهو امر اعد سلفاً وبذكاء، كما انه السبب ذاته الذي نمّط  المدونة وجرفها نحو عزلة لم تتفاداها المعالجة الاخراجية خلال الدقائق العشر الاولى للعرض، فقد استعار البناء النصي لخطاب العرض البنية السردي في اغداق المعنى عبر منولوج طويل وحوارات افقية تستوضح السبب وتبين الدافع من وراء الحدث المركزي الذي تنعقد عند عتباته الاستشكالات والاسئلة الجوهرية التي ينطوي عليها المتن الفكري ومشغلاته الجمالية، فيما تبقى حاجة التساؤل ملحة في مثل هكذا عروض حول ماهية النصوص التي اتخذ منها المخرج اجتراحاً متصوراً لمدونة العرض، اذ ان كل حدث او حكاية او صورة هي في اصلها نص وان اختلفت طرق ايصاله او اختلفنا في اساليبنا وتقنياتنا القرائية لها، فأن لم يمتلك المخرج اشتراط الكتابة المذكور اعلاه سيكون من الصعب ازالة انقاض النصوص السابقة وقد تنزاح معالجاته الدرامية نحو فخ الرتابة السردية التي لن تسعفها الا خبرة ودراية في علم السرد ذاته، ولعله السبب الذي يضعنا بمجابهة استفهام كبير حول استخدام المخرج لتقنية (الراوي) الذي الفناه عند تخوم المسرح الملحمي والذي اغلق علينا افق العرض ولم يدع لنا مجالاً للتوقع او الاسهام في انتاج المعنى، فقد انتخب خطاب العرض مدونة حياتية لحكاية الفناها محلياً واستهلكتها العديد من العروض العربية والعراقية كما الفت تداعيتها مجتمعات عدة وهي تلخص امراض العصر التي يرزح تحت وطأة التطرف الايديولوجي والديني الذي دفعت به السياسات الحياتية ليتصدر المشهد المعاصر ويهزم الاف الاحلام النابتة على جباهٍ شابة ليجرها نحو غرق دون خلاص، وقد اختار صانع العرض المباشرة المطلقة في طرح مقاربته لهذه الاشكالية بمقترح البحر الذي يمكن ان يبتلع من لا يعرف السباحة، فالانجرار وراء القتل والارهاب ينتج بالضرورة موتاً محتماً فمن ذاك الذي يمتلك القدرة على مصارعة البحر، والحال كذلك في اختياره اسم (امل) لشخصية الام كما لو انه يقول ببساطة الامل منعقد عند حافة التربية التي تعهد بها الام ..فيما يحتدم الصراع بمستوى داخلي يطوق الام ويحاصرها ما بين (الفقد) المؤلم للابن وضياع العمر والتضحيات التي احاطت بسنين تربيتها له، في مقابل الالم الذي يكتنفه تصور (فقد) من نوع آخر فقد يشي بجلد الذات تجاه فشل اسلوب التربية وتأنيب الضمير تجاه لحظات كان يمكن ان يتوقف عندها ذلك الفقد – كما في مشهد استرجاع الام لبعض الذكريات التي لاحظت خلالها ان الابن يتابع مشاهد الذبح على مواقع التواصل الاجتماعي ولم تتنبه لخطورة ما سينجرف اليه ابنها- .. خاصة وان سردية شخصية الام انبأتنا بمرجعيّة ذات بعد واتباع يساري مورث على المستوى العائلي حتى انها كانت تنادي اباها (رفيقي) وهي كناية عن مزاولة النهج التحزبي، فقد زاولت العائلة الفعل الايديولوجي وتبنت مخرجاته ولم تكن هنالك مبررات تصل العلاقة ما بين اقصى اليسار الذي تنتمي اليه العائلة وما بين اقصى اليمين الذي ذهب اليه ابنها (كاميلو) سوى تلك الاشارة التي اشّرتها شخصية (الضابط) في ان السياسات العالمية لا يهمها سوى ان تصل لأهدافها حتى وان كانت الوسائل تنبئ (بخلاف) في الظاهر فيما تبقى الغاية تبرر الوسيلة.

حدود الشخصية ونمطية الاداء…..

شكلت اسماء الممثلين في خطاب العرض المذكور ازمة حقيقية استبقت مشاهدة العرض ووضعت كل المتوقع خارج حسابات التنميط والمألوف الادائي وهو ما لم يحصل على الاطلاق فقد فرضت اسماء الممثلين افقاً عمودياً غير متناهي لنظم الاداء التي ستعمد اليها والتي كان المتلقي مهيئ لها، ذلك ان كل من الممثل(هيثم عبد الرزاق) والممثلة(سهى سالم) يحملان تجربة طويلة ومخضرمة على مستوى الاداء التمثيلي المسرحي، فضلاً عن وصفهما من الاسماء المعروفة اكاديمياً وهي عتبات لم يكن تجاوزها ممكناً بأي شكل من الاشكال لذا استعد الاغلب لاسلوب اللعب الادائي والارتكاز على خبرات طويلة في هذا التخصص اذ لابد ان يتيح النظام الذي اقترحه المخرج للممثلين فضاء يسع استثمار منظومتيهما حيث يتفرد الممثل الكبير(هيثم عبد الرزاق) بمرونة جسدية ولياقة حركية قل نظيرها في مسرحنا العراقي على الاقل بالنسبة لفئته العمرية، فضلاً عن امكاناته الكبيرة في ابتكار مستويات تعبيرية فارقة الفتها منظومته الصوتية التي لم تستثمر حتى في سردية الراوي، اذ انحسر اداءه على وفق منظور الجسد الميت الذي لا يؤسس انفتاحاً في المعنى ولا تغيراً في المبنى،  فيما تتمتع الممثلة الكبيرة(سهى سالم) بكاريزما وحضور ملفت وقدرة في التلاعب والتحول التعبيري لعضلات الوجه اسهمت دوماً في اتخاذها مكانة متقدمة على خارطة الاداء التمثيلي النسوي العراقي، فضلاً عن دربتها في التعامل الحسي للمعنى الذي تبثه حواراتها.. ، فهل تجاوز المخرج انشاء نظام ادائي يستثمر به طاقة الممثلين المخضرمين ويضع على وفق تلك القدرات حدود معالجته الاخراجية للأداء التمثيلي..؟ ام انه اختار ان يتخذ من البعد الساكن/(STATICS) للشخصية الدرامية مقترحاً طبيعياً للشخصية الحياتية/اليومية والتي لا يميزها شيء بصفتها معياراً يمكن ان يصل بنا نحو خلق ارتباط تشعبي جائز الحدوث ما بين شخصياته المقترحة واخرى ربما نكون قد مررنا بها او عرفناها في حياتنا او سمعنا بقصتها، وهو الخيار الاقرب للتصديق نظراً للتجارب السابقة للمخرج(مهند هادي) والتي تدحض سذاجة اغفال مخرج محترف لأهمية اداء الممثل خاصة وان المخرج المذكور هو ممثل في الاصل وله العديد من التجارب الملفتة والهامة سواء في المسرح او في الدراما المتلفزة او السينما حتى، الامر الذي فرض نسقاً ايقاعياً محدداً انساقت له شخصية (الابن/كاميلو) التي قام بأدائها الممثل(مرتضى حبيب) والذي يمتلك هو الاخر حضور ملفت ومنظومة ادائية لو اراد هو او المخرج تنشيطها لربما كانت الشخصية قد قدمت مقترحات مغايرة ومبتكرة، فلم تخرج شخصية الابن عن شكلها الايقوني المفرط في الوضوح سواء عبر حواراتها او طبقاتها الصوتية او اداءها الذي التزم حدود الشخصية كما فعلت الشخصيات الاخرى التي وضعها المخرج وكانه حذرهم من الخروج عنها على الرغم من ان مرجعيات شخصية(كاميلو) وما اخبرتنا عنها سرديتها التاريخية تنذر بممكنات اصابتها بالاضطراب النفسي ومشكلاته كنتيجة لطبيعة ظروف فقده المبكر للراعي/ الاب ونشأته وسط بيت مؤدلج ومتحزب نحو اليسار ومولع بجيفارا والتي كانت ستفتح مجالاً واسعاً لتقلبات الشخصية وستفتح فضاء اللعب الادائي و مقترحاته الممكنة فقد كانت ابداً الشخصيات المنفعلة مثاراً دائباً لتخييل الممثل وتجريب ادواته التي لم يجربها بعد، والحال كذلك لمجموعة الشخصيات التي تدخل وتخرج على وفق النسق ذاته..

سينوغرافيا العرض بديل ايقاعي…

افرد صانع العرض فضاء سينوغرافياً فارقاً عن مستويات العرض السابقة الاخرى فهو فضاء لا يقارن او يقترن بأي حال من الاحوال بفضاء الموضوع/الحكاية او بفضاء الاداء التمثيلي وشخصيات العرض، ذلك انه عمد الى مقترح دينامي احال المكان الى عرض آخر ليس له علاقة لا بنمطية الموضوع ولا  ب(STATICS) الاداء بل لا يمت لجوهر الحدث و واقعيته المفرطة، ذلك اننا صرنا بصدد عرض بصري آخر تتداعى به الكوابيس والرؤى والوهم والشخصيات والاصوات والصور التي تستعيدها الذاكرة داخل رأس أم يائسة دمرتها العزلة التي ابتدأت بفقد ولدها ووضعها تحت مراقبة الامن الدولي الذي شكك بتواطؤها المحتمل، ومن ثم استمرت بسبب جائحة كورونا، فضلاً عن ما فعلته العقاقير المنومة التي مثلت مفصلاً رئيساً ودقيقاً سمح بتسريب فرضية التوهم الذي ركن اليها المخرج.. لا لكي يخرج لنا ما في داخل ذلك الرأس المأفون بالوهم والكوابيس والتداعي، بل لكي يدخلنا اليه ببساطة وكانه ضرب من ظلال اشتغالات (انتونين ارتو) عبر بديل اخراجي ولدته السينوغرافيا ونجح في مواضع كثيرة ان يحطم الانماط السردية التي اعترت خطاب العرض وفرضت ايقاعها علي اغلب مسا راته ولاسيما في حركة خزانات الذاكرة وتوالي دخول وخروج الشخصيات منها واليها ضمن المرتسم الارضي ومربعاته الخمسة واربعون والتي لم تطابق سنين عمر الشخصية (الام) بل كانت اقرب الى المناطق المظلمة لذاكرة تتداعى، تلك الذاكرة التي يسكنها الرأس الذي دعانا للدخول الى عوالمه، وكذلك فقد نجحت المؤثرات الصورية لتقنية (الداتا شو) في اضفاء واقعية سحرية نشطت الجو العام واسهمت بشكل فاعل وكبير بتقريب تصوراتنا عن الحدث، سواء بوصفه حدث ماضي مسترجع او بوصفه حدث آني لحظي، فيما تجدر الاشارة الى دقة التصميم الضوئي لسينوغرافيا العرض والذي لم يفيض عن الحاجة كما هو الحال في اكثر عروضنا المسرحية العراقية، فضلاً عن فرض ميزان متقن يساوي ما بين جماليات الضوء المسرحي وما بين وظائفه المرجوة في الكشف واحداث الاثر الدرامي، فالدخول نحو البعد الحسي للضوء وما تفرزه اسقاطاته على الفضاء المكاني يمكن له ان يزيح الكثير من وظائفه ويعكس تأثيراته

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش