مقالات

المسرح العربي وفلسفة التواصل: من اللغة إلى المعنى – كتب: أيوب أعواج (المغرب)

المسرح العربي وفلسفة التواصل: من اللغة إلى المعنى- كتب: أيوب أعواج (المغرب)

المسرح العربي وفلسفة التواصل: من اللغة إلى المعنى- كتب: أيوب أعواج (المغرب)

في زمن تتكاثف فيه الوسائط وتتسارع فيه الإشارات، يبدو المسرح كفنٍّ عريقٍ يحمل إمكاناتٍ خاصة في بناء التواصل الإنساني لا يمكن لأي وسيط آخر أن يضاهيها. وإذا كانت الوسائل الرقمية قد اختزلت الوجوه إلى رموز و”إيموجيات”، فإن الخشبة المسرحية ما تزال تحافظ على حرارة الجسد، وصدق الصوت، وزمن التلقي المشترك بين الممثل والجمهور. من هنا، يطرح المسرح العربي الحديث سؤالًا بالغ الأهمية: كيف نبني المعنى المشترك وسط تعددية الألسن وتضارب المرجعيات؟

لقد اعتاد النقاد المسرحيون على مقاربة العمل المسرحي من زاوية الجماليات أو التقنية، لكننا نعتقد أن الخيط الرابط بين العناصر المسرحية جميعها — من النص إلى الإخراج إلى التمثيل — هو التواصل، بمعناه الفلسفي العميق. فالمسرح لا يُختزل في كونه خطابًا موجّهًا، بل يتجلى كعملية تفاوض بين وعيين: وعي المبدع ووعي المتلقي.

أولًا: المسرح كفضاء تداولي      

يُعد المسرح فضاءً تداوليًا بامتياز. فهو لا يقدّم الرسالة في شكل خطيّ، بل ينسجها عبر مجموعة من القنوات المتزامنة: الحوار، الحركة، الإضاءة، الصمت، وحتى السكون. لذلك، فإن المعنى لا يُؤخذ جاهزًا، بل يُبنى في ذهن المتلقي بحسب معرفته وسياقه الثقافي. وهنا تبرز أهمية فهم المسرح بوصفه فعل تواصل لا مجرد عرض.

يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إن “الفعل التواصلي” يهدف إلى تحقيق التفاهم وليس الهيمنة.[1] وإذا أسقطنا هذا المبدأ على المسرح العربي، فسوف نجد أن كثيرًا من التجارب المسرحية كانت في حقيقتها صراعًا بين خطاب سلطوي وخطاب بديل، بين صوت المخرج ووجدان الجمهور. وهو ما يحوّل المسرح من أداة للترفيه إلى مساحة للنقاش الثقافي والفكري.

ثانيًا: اللغة المسرحية بين الإفهام والإبهام

اللغة في المسرح ليست أداة للإفهام فحسب، بل هي أيضًا أداة إبهام، إذ قد يستخدمها الكاتب أو المخرج ليزرع التوتر والانتظار، أو ليفتح باب التأويل على مصراعيه. وهنا يظهر الفرق بين المسرح الكلاسيكي الذي كان يعتمد على اللغة المباشرة، والمسرح المعاصر الذي يميل إلى تفكيك البنية اللغوية نفسها. في هذا السياق، تبدو اللغة ككائن قابل للتفاوض، لا كأداة محايدة.

من الناحية السيميولوجية، تنقلب العلاقة بين الدال والمدلول في المسرح المعاصر. فالإشارة لا تحيل دومًا إلى معنى ثابت، بل تُستخدم كأفق لتوليد الأسئلة. وهذا ما يجعل المسرح وسيلة للتفكير، لا مجرد قناة للتسلية.[2]

ثالثًا: أزمة التلقي في المسرح العربي      

يعاني المسرح العربي من أزمة عميقة في التلقي، لا تتعلق فقط بندرة الجمهور، بل بطبيعة هذا الجمهور. فهل نُعدُّ المتلقي العربي اليوم شريكًا فعليًا في بناء المعنى؟ أم أننا ما زلنا نعامله كمستقبل سلبي للرسائل؟ الجواب يتوقف على قدرة المبدع المسرحي على إدراك أن المعنى لا يُلقى بل يُبنى، وأن التواصل المسرحي ليس في الإرسال، بل في التشارك.

إن المسرح الذي يفشل في إقامة علاقة حقيقية مع جمهوره يتحول إلى طقس فارغ، مهما بلغت قيمته التقنية أو الجمالية. والتجارب المسرحية التي نجحت، غالبًا ما كانت تلك التي تعاملت مع جمهورها بوصفه فاعلًا معرفيًا، لا مجرد متفرج.

خاتمة:

المسرح ليس مجرد شكل فني، بل أداة فلسفية للتواصل والتفاهم. وفي سياقنا العربي، حيث تتقاطع اللغات واللهجات والتجارب، يصبح المسرح أفقًا ضروريًا لإعادة تشكيل الوعي الجماعي. ومن هنا، فإن إعادة التفكير في المسرح من منظور “فلسفة التواصل” ليست ترفًا، بل هي شرط من شروط نهوضنا الثقافي.

فليكن المسرح العربي، إذن، أكثر من منبر للعرض، ليصبح منصة للتفاعل والتشارك، حيث يبني المعنى من جسد الممثل، وانتباه المتلقي، وزمن التلقي المشترك.

 

كتب: أيوب أعواج (المغرب)

المراجع

[1] هابرماس، يورغن. *نظرية الفعل التواصلي*. ترجمة: فالح عبد الجبار، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004.

[2] باتريس بافي. *تحليل الخطاب المسرحي*. ترجمة: عبد المجيد شكير، منشورات وزارة الثقافة، المغرب، 2012.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

للحصول على استمارات الملتقى العربي لفنون العرائس 5

للحصول على استمارات الملتقى العربي لفنون العرائس 5

This will close in 5 seconds