مقالات

بين التأسيس والتقديس: قراءتان في أصول التراجيديا ومأزق المسرح العربي – ميشيل الرائي

بين التأسيس والتقديس: قراءتان في أصول التراجيديا ومأزق المسرح العربي - ميشيل الرائي

بين التأسيس والتقديس: قراءتان في أصول التراجيديا ومأزق المسرح العربي

هل يمكن لتاريخ المسرح أن يُقرأ على ضوء نصوص محفوظة أو منظومات فلسفية حُسمت في قرونٍ انقضت، أم أن الحقيقة المسرحية تكمن في ظلال الطقوس، في الأجساد المرتعشة بالنشيد، في الحشود التي تذوب في لحظة احتفالٍ قديم؟ لا يدور السؤال هنا حول بدايات المسرح فحسب، بل حول الحقّ في إعادة كتابة هذه البدايات، وحول السلطة التي نصّبت نفسها حارسةً على سردية ولادة المسرح، وجعلت من قالبٍ واحدٍ بوابةً وحيدةً إلى الشرعية الجمالية . يروي التاريخ الرسمي أن التراجيديا وُلدت في أثينا، على أعتاب المعبد، حين شرعت الجماعة تغنّي لديونيسوس. من هناك، جاء أرسطو ليمنح هذه الولادة نصًّا، وليتقمّص دور القابلة العقلية لصراخها الأول. في فن الشعر، كتب أن التراجيديا محاكاةٌ لفعلٍ نبيل، مكتملٍ في ذاته، يثير الرحمة والخوف، ويقود إلى التطهير. لم يكتب أرسطو تراجيديا، بل قنّنها. أعطاها بنيةً مغلقة، وأدار المفتاح في قفل اللغة لتُغلق الأبواب على ما يشبه “النقاء الإغريقي”. ومنذ تلك اللحظة، تحوّلت التراجيديا إلى صنمٍ جماليّ محروسٍ بالمنطق، وارتبط المسرح بولادة عقلانية يُفترض أنها لم تعرف أسلافًا . لكنّ هذه الرواية، حين تُنظَر بعينٍ أخرى، تتصدّع. ففي وادي الرافدين، على سبيل المثال، تكشف طقوس رأس السنة البابلية، المعروفة ب”عيد الأكيتو”، عن بنيةٍ درامية طقسية تسبق التنظير الأرسطي، بل ربما تضعه في سياقه الديني والسياسي. تبدأ هذه الطقوس بمواكب الألوهة، يُنزع فيها الملك عن عرشه، ليبكي في حضرة الإله. يُمثّل موت مردوك، ويُعيَّن ملكٌ زائفٌ يحكم في غياب المعنى، قبل أن يعود الإله، ويتطهّر الزمن، ويُستعاد النظام. هنا، لا توجد حدودٌ بين المسرح والدين، بين الجماعة والنص، بين المأساة والتجدّد. كل شيء يُمثَّل، يُعاد: الانهيار، الاعتراف، الانبعاث . وفي مصر، تُروى أسطورة أوزيريس وإيزيس وحورس. يُقتل الإله الأول غدرًا، يُمزّق، وتُبعثر أشلاؤه على ضفاف النيل. تبحث عنه الزوج ة-الأم، تجمعه، تبكي عليه، وتنفخ فيه حياةً جديدة. يُولد حورس من رحم الحداد، ينمو في الظل، ويخرج ليهزم القاتل، ويعيد النظام إلى العالم. ليست هذه مجرد أسطورة، بل هي خشبةٌ أولى، كُتبت عليها التراجيديا بالدم، والوفاء، والانتظار. الجسد المقدّس، الطاغية، الابن العائد من المجهول، كلها عناصر تراجيدية خالصة، لكن الإغريق، حين كتبوا تاريخهم، أعلنوا امتلاكهم الحصري لهذا النموذج . ما نسميه اليوم “التراجيديا الإغريقية” ليس فقط نوعًا أدبيًا، بل نتيجةٌ لقرارٍ ثقافي، لمؤسسةٍ عقلانية قررت أن تحفظ أوشيل و سوفوكل و أوريبيد، وأن تجعلهم أعمدة النوع. ليس لأنهم وحدهم كتبوا المأساة، بل لأن أثينا قررت أن تجعل من شكلها سرديةً مركزيةً لتاريخ الفن، وأن تقنّن هذا الشكل داخل خطابٍ فلسف ي-نقدي صاغه أرسطو، ثم توارثه الغرب بوصفه مفتاحًا للجمال المسرحي . لكن ماذا لو أن هذا التأسيس لم يكن بدايةً بل قفلاً؟ ماذا لو لم تكن التراجيديا اختراعًا إغريقيًا خالصًا، بل لحظةً من لحظات تطوّرٍ دراميّ أقدم بكثير، وأكثر انتشارًا مما ترويه المدرسة الكلاسيكية؟ ألا يُمثّل تجاهل الطقوس الدرامية في بلاد الرافدين ومصر نوعًا من الطمس المعرفي باسم النقاء الفني ؟ الأوروبيون، رغم اعتمادهم على النموذج الإغريقي، لم يترددوا في تشكيل مسارحهم وفق أذواقهم الوطنية. الفرنسيون فعلوا ذلك، والإنجليز، والإيطاليون، والإسبان، والروس أيضًا. كل أمة وضعت نفسها في جسد المسرح، فصار لها اسمها ونكهتها. لكن وحده المسرح العربي، حين يُنسَب، يُشكَّك فيه، وكأن المسرح لا يُولد إلا من رحم أثينا، وكأن الإيقاع العربي لا يستحق أن يُركَّب على خشبة، أو أن اللغة العربية لا يمكنها أن تحتمل الوجع والتمثيل . ومع ذلك، أليست الحكاية العربية، في الأسواق، وفي الموالد، وفي تمثيلات عاشوراء، تجلياتٍ دراميةً أصيلة؟ ألم يتحدث خيال الظل إلى الجموع، وينتقد السلطة، ويتقمّص الأدوار، ويضحك، ويبكي، ويختفي؟ لماذا لا يُعترف بهذه الأشكال كأصولٍ درامية؟ فقط لأنها لم تُكتب على نسق المسرح الغربي ؟ ربما ما نسميه المسرحة ليس قالبًا بل موقفًا تأويليًا تجاه العالم. وربما كانت التراجيديا، في جوهرها، طقسًا تتفاوض فيه الجماعة مع أسئلتها الكبرى: الموت، العدالة، النفي، الزمن. وبهذا المعنى، فإن لكل ثقافةٍ حقّها في اختراع تراجيديتها، كما لها حقها في البكاء، والضحك، والاحتفال . الأسطورة، الطقس، المسرح: ثلاث كلماتٍ لوجهٍ واحد، قديمٍ ومضيء، يتكلّم بكل لغات العالم، ويتجلّى كلّ مرة بصوتٍ جديد، لا يقلّ شرعيةً عن أيّ صرخةٍ أُطلقت على أبواب معبدٍ يوناني . ميشيل الرائي الدار البيضاء.

 

ميشيل الرائي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى