مقالات

قراءة في سيكولوجية المسرحي العربي بين الأنا، واكتشاف الذات والآخر حسن خيون

قراءة في سيكولوجية المسرحي العربي بين الأنا، واكتشاف الذات والآخر حسن خيون

كوبي رايت حسن خيون 2014

قراءة في سيكولوجية المسرحي العربي
بين الأنا، واكتشاف الذات والآخر

حسن خيون

في ظلّ التحولات الثقافية والفكرية التي يشهدها المسرح العربي، بين حراكٍ هنا وجمودٍ هناك، ومهرجاناتٍ تتكاثر، ومواسم مسرحية فقيرة، وجمهورٍ تائه لا يعرف أين تتجه البوصلة، تتأرجح التجربة المسرحية بين فقرٍ في الإنتاج ونتاجٍ لا يحمل معنىً أو أثراً واضحاً.

في خضم هذا المشهد، تتصارع “الأنا” المتضخمة مع هموم فنية صادقة يحملها أصحاب الفكر النيّر، في محاولة مستمرة للبحث عن هوية ووجود غنيّ لهذا الفن النبيل.

من هذا المنطلق، تسعى هذه المقالة إلى تأمل العلاقة المعقدة بين الفنان وذاته، وبين التعبير الفردي وروح العمل الجماعي، في ضوء التجربة المسرحية العربية بكل تناقضاتها وتحدياتها.

المسرح، كأحد أكثر الفنون قدرةً على كشف جوهر الإنسان، هو مساحة يتفاعل فيها الفردي والجماعي، ويتجلّى فيها الإبداع كوسيلة لفهم الذات والعالم. فكلٌّ منا يحمل في داخله بذور “الأنا” التي تنمو بفعل التجربة والتفاعل مع الواقع، وتلعب دورها في تشكيل وعينا وسلوكنا. غير أن المشهد المسرحي العربي يعكس أحياناً صراعاً بين الأنا والواقع، بين الطموح الفردي ومتطلبات العمل الجماعي. إلى أي مدى تؤثر النزعة الذاتية في تشكيل التجربة المسرحية العربية؟ وهل يستطيع المسرح العربي تحقيق توازن بين الذاتية والإبداع الجماعي، ليواكب التطور دون أن يفقد هويته؟

تجربة شخصية: المسرح رحلة اكتشاف

حين دخلتُ عالم المسرح في منتصف التسعينيات، رأيته فناً نبيلاً يفتح لمن يُخلص له أبواباً واسعة لاكتشاف الذات والآخر. لم تكن رؤيتي مكتملة، لكنها كانت واضحة من حيث الأهداف. كنت مؤمناً أن المسرح سيمنحني أفقاً أوسع كلما ازددت له إخلاصاً، بوصفه ميداناً يستحق وقتي، وتمسكي المهني.

وانتمائي إلى عائلة مسرحية عريقة، يمثلها القدير عزيز خيون، والقديرة د. عواطف نعيم، والرائعة د. إقبال نعيم، وضعني منذ البدايات في تماس مباشر مع تجارب إنسانية وفنية ثرية. وقد منحني هذا القرب، مع إيماني الشخصي العميق بالمسرح، حالة من التفاعل الدائم مع صورةٍ أنتجتها أحلامي وطموحاتي.

المسرح، في هذا التصوّر، لم يكن مجرّد ممارسة إبداعية، بل شريكاً حقيقياً في رحلة بحث طويلة، حافظتُ خلالها على القيم النبيلة، رغم كل ما يحيط بهذه المهنة من صعوبات تتعلق بالإنتاج، وتقلبات الإدارات، سواء في أوروبا أو في منطقتنا العربية.

الصراع بين الفرد والمؤسسة

خلال السنة الثالثة من دراستي في معهد الفنون الجميلة ببغداد، قسم الإخراج المسرحي، كنت أعيش شغف المسرح بكل تفاصيله، مؤمناً أن التميّز حق مشروع للجميع. غير أن الطريق لم يكن معبّداً، فقد اصطدمتُ بمنظومة لا تُؤمن بالكفاءة، بل تعتمد على الولاء الحزبي في تقييماتها. في إحدى الاستراحات في كافتيريا المعهد، وجدتُ نفسي في مواجهة أحد الأساتذة، لم يكن فناناً بل مسؤولاً حزبياً نافذاً. قال لي باستعلاء: لماذا هذه الأنا؟ هل تظن أنك ستكون من الأوائل؟ نحن نعرف من يكون الأول!

تملكني مزيجٌ من الدهشة والغضب، لكنني تماسكتُ وقلت: سأكون الأول وسترى. لم يكن الرد انفعالاً، بل موقفاً راسخاً يعكس إصراري على النجاح، وهو ما تحقق فعلاً.

هذه الحادثة تختزل إشكالية أعمق تتعلق بعلاقة الفنان بالمؤسسة، وبالمجتمع، وبمنظومة العمل الثقافي، حيث تتداخل النزعات الشخصية مع الحسابات الأوسع، فتتحول “الأنا” إلى عاملٍ حاسم، لا في مصير الأفراد فحسب، بل في مسار المسرح ذاته.

المسرح بين الفردانية والإبداع الجماعي

المسرح، بوصفه فناً جماعياً، يُفترض أن يكون فضاءً مفتوحاً للآخر، متحرراً من النزعات الفردية الضيقة. لكن الواقع العربي يقدّم صورة مغايرة، إذ تغلغلت “الأنا” في الكثير من التجارب، سواء على مستوى الإخراج، أو الكتابة، أو الأداء، أو حتى إدارة المؤسسات المسرحية.

الفنان العربي، في أحيان كثيرة، يتحرك ضمن دائرة ذاتية مغلقة، تخلق معادلة معقدة بين التعبير الفردي ومتطلبات الإبداع الجماعي.

بعد أكثر من خمس وعشرين عاماً من الرحلة مع المسرح، منها سنوات الدراسة والعمل في بغداد، وجدتُ في بلجيكا تجربة مغايرة تماماً؛ منظومة مسرحية قائمة على المهنية العالية، والشفافية، بعيداً عن العلاقات الشخصية والمحسوبية. لم أواجه هنا تلك “الأنا” المتضخمة التي عرفتها في منطقتنا، حيث يسعى بعض المسرحيين إلى فرض أنفسهم كأيقونات لا تُمس.

فهل سمعنا يوماً أن المدير الفني لمهرجان أفينيون العالمي قد أصدر كتاباً يدعو فيه الجميع إلى اتباع نهجه في تنظيم المهرجانات؟ لنتأمل مقارنة ذلك بما يفعله بعض مديري المهرجانات العربية الناشئة!

زيف التوثيق والرياء الثقافي

“الأنا” غير المنتجة تغذي النفوذ الشخصي، وتُعيد تدوير ذاتها في المهرجانات والفعاليات، مما يعيق تطور المسرح العربي.

في أحد المهرجانات، شاهدت عرضاً مسرحياً فقيراً بكل المقاييس. لكنه حظي في الندوة النقدية بإشادة مبالغ فيها من أحد كبار النقاد. المفارقة كانت حين طلب المخرج علناً نسخة من الورقة النقدية لنشرها كمادة توثيقية.

تحولت تلك الورقة إلى “وثيقة مسرحية” قد تُدرَس يوماً على أنها جزء من تاريخ المسرح العربي. ولكن ما الذي ستجده الأجيال القادمة في هذا التاريخ؟ الحقيقة؟ أم تزييفاً جميلاً؟

أستحضر هنا كلمات الراحل الأستاذ د. حسن المنيعي، الذي التقيته لأول مرة في مهرجان القاهرة التجريبي عام 2017، بعد مشاهدته عرض “عطيل” الذي شاركنا به عن بلجيكا، حيث قال: كنتم وروداً وسط شوك. لم يكن تعبيره مجانياً، بل شهادة تختصر الواقع. هذه ليست تمجيداً للأنا الشخصية، بل استحضارٌ للحقيقة. والحقيقة، حتى وإن بدت وكأنها تُحاكي الأنا، يجب أن تُقال. هذه الكلمات الصادقة والعفوية كانت جائزتنا الكبرى في دورة مسرحية كانت خالية من الجوائز.

نحو أفق أكثر انفتاحاً

لكي يحقق المسرح العربي تطوراً حقيقياً، لا بد من إعادة النظر في أسس التوثيق والنقد المسرحي، ليكونا انعكاساً صادقاً للواقع، لا أداةً للترويج أو المجاملة. فالنقد المستقل والمهني يجب أن يكون قوة دافعة للإبداع، لا وسيلة لترسيخ أسماء على حساب الجودة.

على صعيد الإنتاج، ينبغي أن تتحول المؤسسات الثقافية إلى شركاء حقيقيين في العملية الإبداعية، من خلال تبني سياسات تمويل شفافة، تقوم على التنافس والكفاءة، لا على العلاقات الشخصية أو الحسابات غير الفنية.

أما على المستوى الدولي، فإن الشراكات مع المؤسسات العالمية يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للمسرح العربي، بشرط أن تكون طويلة الأمد، قائمة على التعاون الحقيقي، لا على الزيارات البروتوكولية أو النشاطات السطحية.

وعلى صعيد الجمهور، فإن بناء ثقافة مسرحية يبدأ من التعليم، عبر إدماج المسرح في المناهج الدراسية، ودعم مشاريع المسرح الشبابي. كما أن إصدار دليل مسرحي سنوي يتضمن أبرز العروض والاتجاهات النقدية، يمكن أن يسهم في ترسيخ ثقافة مسرحية جادة.

الخاتمة

هذه المقالة تعبير صادق عن محبةٍ وحرصٍ على المسرح. فهو فضاء مفتوح بين الذات والآخر، بين الواقع والحلم. وإذا كان المسرحي العربي يواجه تحدياته، فإنه بحاجة إلى تحرير إبداعه من قيود الأنا الضيقة، ليمنح مسرحه فرصة للنمو والتأثير. فالمستقبل لا يُبنى على نجاحات فردية زائفة، بل على إبداع جماعي صادق، يوثق الحقيقة الفنية ويترك إرثاً نقياً، تستلهم منه الأجيال القادمة.

حسن خيون
مخرج مسرحي معاصر

فرقة الفضاء الواحد

One Space
أنتويرب، بلجيكا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى