عين على المسرح العربي

السيولة الرقمية وأثرها في المسرح…..بين التكيف والتجريب بقلم د.عماد هادي الخفاجي

السيولة الرقمية وأثرها في المسرح…..بين التكيف والتجريب
بقلم د.عماد هادي الخفاجي
لم يعد المسرح بمعزل عن التحولات الرقمية المتسارعة التي تعيد تشكيل علاقتنا بالفن والتكنولوجيا، بل أصبح في صلب هذه التغييرات التي تدفعه إلى مراجعة هويته باستمرار، وتحت ظل هذا الواقع، تبرز السيولة الرقمية كمفهوم يعكس قدرة المحتوى المسرحي على التكيف والتغير، ليس فقط على مستوى الشكل والعرض، بل أيضا في طبيعة التفاعل بين الممثل والجمهور، وفي الأساليب السردية التي لم تعد ثابتة أو محكومة بقواعد جامدة، قلم يعد الأمر يتعلق بمجرد إدخال التكنولوجيا إلى الخشبة، بل بإعادة التفكير في جوهر التجربة المسرحية نفسها، من حيث علاقتها بالزمان والمكان والجمهور.
المسرح تقليديا يعتمد على الأداء الحي والتفاعل المباشر، لكن هذا لا يعني أنه غير قادر على الاستفادة من الإمكانيات التي تتيحها السيولة الرقمية، فالعروض التفاعلية، على سبيل المثال، لم تعد تقتصر على كسر الجدار الرابع بين الممثل والجمهور، بل باتت تمتد إلى دمج عناصر رقمية متغيرة أثناء الأداء، حيث يمكن أن تتبدل الخلفيات والإضاءة أو حتى النصوص استجابة للحظات آنية، مما يجعل كل عرض تجربة متفردة لا تتكرر بالصيغة ذاتها، فضلا على ان المسرح الافتراضي أيضا أخذ في الاتساع، إذ أصبح من الممكن تقديم عروض كاملة داخل بيئات رقمية مثل الميتافيرس، أو عبر دمج تقنيات الواقع المعزز التي تخلق مستويات جديدة من الإدراك الحسي داخل العمل المسرحي. ومع ذلك، فإن التغيير الأكثر جذرية لا يكمن في شكل العرض فحسب، بل في جوهر النصوص المسرحية نفسها، التي لم تعد تُعامل بوصفها كيانات ثابتة، بل أصبحت قابلة للتعديل والتفاعل، مما يفتح المجال أمام أنماط سرد غير مألوفة.
لكن هذه السيولة الرقمية لا تقتصر على كونها أداة تقنية، بل هي امتداد لطريقة جديدة في التفكير المسرحي، تتيح إمكانيات تعبيرية أكثر ثراء، فبدلا من الاعتماد على  المناظر المسرحية التقليدية، يمكن الان خلق بيئات ديناميكية تتغير وفق إيقاع العرض، بحيث تصبح جزءا لا يتجزأ من الحكاية، وليس مجرد خلفية محايدة، حيث ان هذا التحول لا يعزز فقط البعد الجمالي، بل يساعد في استقطاب جمهور جديد، خاصة مع انتشار العروض عبر الإنترنت، مما يتيح إمكانية حضور المسرح من أي مكان، متجاوزا الحواجز الجغرافية والزمنية التي لطالما كانت تفرض قيودا على التلقي المسرحي، ومن جهة أخرى، فإن إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا داخل المسرح تثير تساؤلات حول دور الممثل نفسه، إذ لم يعد الأداء مقتصرا على الجسد البشري وحده، بل دخلت على الخط شخصيات افتراضية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مما يخلق إمكانيات غير مسبوقة في التفاعل بين الإنسان والآلة داخل الفضاء المسرحي.

في النهاية، لا يمكن النظر إلى هذه التحولات بوصفها تهديداً للمسرح التقليدي، بقدر ما هي فرصة لإعادة ابتكار هذا الفن بما يتناسب والعصر الرقمي، فهناك من يخشى أن تفقد التجربة المسرحية جوهرها القائم على الحضور الفعلي والتفاعل المباشر، لكن المسرح لم يكن يوما فنا ثابتا، بل ظل دائم التجدد عبر العصور، وفي عالم يتغير باستمرار، ربما يكون المسرح السيّال هو الشكل الأكثر صدقاً في التعبير عن هذا الزمن المتحرك، حيث لا يكون مغلقا على نفسه، بل منفتحا على إمكانيات بلا حدود، تجعل كل تجربة مسرحية ولادة للحظة فريدة لا تتكرر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

للحصول على استمارات الملتقى العربي لفنون العرائس 5

للحصول على استمارات الملتقى العربي لفنون العرائس 5

This will close in 5 seconds