من روسيا القيصرية إلى العالم الافتراضى عشر مسرحيات لأنطـوان تشيكـوف فى #مصـر

عشر مسرحيات شاهدها الجمهورالمصرى على القناة التى أنشأتها وزارة الثقافة العام الماضى فى موقع يوتيوب، مأخوذة عن ثمانى قصص ومسرحيتين للكاتب الروسى أنطوان تشيكوف، فى محاولة للخروج من المأزق الذى فرضه الوباء الذى أغلق العالم بكامله، دون شك اختيار هذا الكاتب ليكون اللاعب الرئيسى فى هذه المسرحيات حدث كبير ويجب أن نتوقف أمامه كثيراً.

ليس فقط لأن الفكرة وليدة الأزمة، وكانت أحد الحلول، ولكن أن يحل فيلسوف البسطاء ضيفاً على المصرىين من خلال عشرة أعمال فهذا من المفترض أن يكون له تأثير كبير على الجمهور المصرى الذى عانى فى السنوات الأخيرة من اضمحلال مفهوم المسرح من خلال الأعمال التى تم تقديمها فى الفضائيات على أنها أعمال مسرحية، وشوهت مفهوم هذا الفن لدى الأجيال الجديدة من خلال اللجوء إلى أساليب الضحك الرخيصة والرؤية السطحية للمسرح والحياة معاً، ناهيك عن تجربة صناعة هذه العروض للتصوير وليست للعرض على الجمهور ثم تسجيلها، وهى تجربة من المفترض أن تطرح جماليات مغايرة على مستوى الصورة/ المنظر المسرحى بكل مفرداته، حتى يكون هناك مبرر فنى لهذه التجربة، خاصة أن هناك تجارب كبرى ومؤثرة فى تصوير العروض المسرحية أو المزج بين المسرح والتليفزيون، دون شك فرق كبير بين العروض التى يتم تقديمها للجمهور ثم تصويرها للتليفزيون و بين العروض التى يتم صناعتها خصيصاً للتصوير التليفزيونى، وكان للإنجليزى بيتر بروك أعمال عديدة منها “المهابراتا”، وأذكر أننى شاهدت باليه “روميو وجولييت” إنتاج أمريكى وتم تقديمه بهذا الأسلوب الذى يمزج بين جماليات المسرح والدراما التليفزيونية، حيث تلعب الكاميرا دوراً كبيراً إلى جانب الإخراج المسرحى، وهناك تجارب أخرى فى مصر منها أعمال حسين كمال كمخرج سينمائى ومسرحى، فحين قدم مسرحية “ريا وسكينة” للجمهور ثم قام بتسجيلها لم يكن مجرد نقل من أو تسجيل، بل قدم  جماليات أخرى فى المنظر المسرحى على الشاشة من خلال الكاميرا. فماذا تحقق من النقاط الثلاث السابقة فى هذه التجربة وكيف؟..  أولاً حضور تشيكوف وكيفية تقديمه، ثانياً تغيير مفهوم المسرح أو تصحيحه بعد الصورة المشوهة التى قدمتها الفضائيات، وثالثاً  دور الكاميرا على خشبة المسرح، فهل كانت مجرد آلة تصوير وتسجيل أم كانت شريكاً أساسياً فى الصورة بكل مفرداتها، فشعر المشاهد بهذا التغيير على مستوى الصورة، وذلك حتى نستطيع أن نجيب عن  السؤال الرئيسى:  مسرح بلا جمهور فكرة صائبة أم لا؟  

شخصيات تشيكوف لا تكذب ولا تتجمل، تبدوعارية دون تجميل وكأنها على كرسى الاعتراف، لا رصيد لها فى الحياة سوى الخوف والمحبة، وأدق وصف لخالق هذه الشخصيات جاء على لسان مكسيم جوركى “يخيل إلىّ أن أى شخص احتك بأنطوان بافلوفتش تشيكوف، كان يشعر لا إرادياً بالرغبة فى أن يبدو أبسط وأصدق وأقرب إلى حقيقته، وقد لاحظت أن الناس يخلعون أردية العبارات الكئيبة والكلمات الموضة، وغيرها من الأشياء الرخيصة التى يتزين بها الشخص الروسى”، وهذه هى أيضاً صفات شخصيات أبطال تشيكوف حتى الأشرار منهم، كل أطراف الصراع يتمتعون بهذه الصفات، فكان مٌصراعلى أن يتحدث كل شخص لغته، فلم يكن مباشراً، ولم يكن يدين شخصياته، بل بكل خجل وفى لغة شعرية يتمنى لهم حياة أفضل من خلال هذا السرد الذى لا يخفى الحزن واللوم فى آن واحد، فليس هناك آراء حادة قاطعة أو انحياز لشخصية على حساب شخصية أخرى مهما كانت أفعالها وصفاتها، فهو كاتب الحياة العادية نعم ولكن أبطالها شخصيات رمادية، وهذه الشخصيات لا تمنح نفسها بسهولة للقارئ، وهذا هو الشرك الذى يقع فيه من يقدم هذه الأعمال على  خشبة المسرح، ومن ناحية أخرى استعارة شخصيات هذا الكاتب من روسيا القيصرية نهاية القرن التاسع عشر وزراعتها فى التربة المصرية نهاية العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، وربطها فى بعض الأحيان بالأحداث الراهنة وخاصة وباء كورونا، هل كان قراراً صائباً؟ فماذا حدث وماذا كان الناتج… مصرياً أصيلاً أم ظل محتفظاً بنسبه إلى التربة الأصلية، أم كان شيئاً آخر، وما علاقة ما تم تقديمه بالشعب المصرى وبالتحديد فى هذه المرحلة؟.. عشرات الشخصيات، موظفون، خدم، اقطاعيون، قضاة، ضباط، جنود، موسيقيون، ممثلون، صيادون، فتيات وأرامل، أشرار وطيبون، محتالون، نصابون كل هؤلاء تم بعثهم ، عادت إليهم الحياة بعد أكثر من قرن وربع من الزمان ليجدوا أنفسهم ليس فى روسيا القيصرية بل فى مصر، وفى لغة أخرى خرجوا من القصص القصيرة ليقفوا على خشبة المسرح، فماذا حدث؟، ظنى أنه بعد مشاهدة عشرة عروض لم تحقق شيئا من النقاط التى طرحتها سلفا ممثلة فى فلسفة تشيكوف، والاستفادة من الكاميرا فى تقديم جماليات مغايرة على مستوى الصورة، بالإضافة إلى محاولة تحسين صورة عروض المسرح المصورة التى قدمتها الفضائيات فى السنوات الماضية، فهل المشكلة فى عنوان المبادرة “اضحك فكر اعرف”، فكان النصيب الأكبر للكلمة الأولى اشتراط الضحك ليذهب الجميع، أقصد المخرجين العشرة إلى تشيكوف وهم يطلبون الضحك كمطلب رئيسى من هذه القصص والمسرحيات، فأخذوه فى أحيان كثيرة عنوة دون التفكير فى طبيعة هذه الأعمال، وهذا ما بدا واضحا فى الأعمال العشرة بنسب متفاوتة، وظنى أن التفكير لم يكن مطروحا، وأيضاُ، معرفة تشيكوف وفلسفته، فبعض هذه  العروض راح ضحية هذا الشعار أو هذه اللافتة، فقدموا أعمالاً لا علاقة لها بأنطوان تشيكوف أو المسرح، فكانوا مخلصين فى تنفيذ هذا الشعار وخاصة فيما يتعلق بالضحك، فظهرت الأعمال فى هذه الصورة السطحية كما ذكرت سلفاً، فلم يستطع هذا الكاتب  التأثير فى المخرجين العشرة، فكل مخرج قدم ما يعرف، قدم أسلوبه الذى يحفظه، خلع ملابسه ليرتديها تشيكوف نفسه ولم يحدث العكس! ناهيك عن إخراج شخصيات هذا المؤلف من روسيا القيصرية نهاية القرن التاسع عشر وهبوطها القاهرة هذه الأيام، بدّلت ملابسها وأفكارها فصارت فى أحيان كثيرة غريبة وفى أحيان أخرى مشوهة، ففى السواد الأعظم من هذه العروض غابت فلسفة تشيكوف لصالح آراء وأساليب المخرجين، فلم يكن مؤثرا إلا فى عرضى “الدب” و”اليوبيل”، وكلاهما نصوص مسرحية تنتمى إلى صيغة الفودفيل، جاء تدخل الإعداد فيها محدوداً خاصة فى بناء الحكاية، فكان من الممكن أن تلمس فلسفة تشيكوف وعمق شخصياته وملامحها، أما فى الأعمال الأخرى فبعضها ابتعد تماماً عن هذا الكاتب وفلسفته لصالح الضحك، فالعمل مع شخصيات تشيكوف مهمة صعبة كما يصفها قسطنطين ستانسلافسكى فى بداية عمله فى مسرحية النورس”كانت مهمة صعبة، ذلك لأنى ويا للخجل لم أفهم المسرحية، ومن خلال العمل فقط ودون أن أشعر اندمجت معها وأحببتها لا إرادياً ذلك خصيصة مسرحيات تشيكوف فعندما تستجيب لسحرها تستنشق عبيرها”، لكن فى العروض السابقة كانت مهمة سهلة، فقط البحث عن الضحك! أما فيما يتعلق بالتصوير فمن يشاهد الأعمال العشرة سيسأل عن دور الكاميرا المحدود والمتواضع فى هذه العروض، ربما كان لها تأثير ملحوظ فى عرض “ليلتكم سعيدة” أو “مشهور مش مشهور” لكن فى معظم العروض كان دورها تسجيل العرض، أو بعض اللقطات النمطية، والنتيجة أنه ليس هناك استغلال للكاميرا، فقد نقلت المادة التى وجدتها على المسرح إلى الشاشة، أى أنها كانت كاميرا أمينة، بالإضافة إلى أن بعض الأعمال لجأت إلى أساليب مسرح الفضائيات فى أساليب الضحك الرخيص والاعتماد على المفارقات المفتعلة.

وفى النهاية ودون شك كل ما تم تقديمه عبر الإنترنت “أون لاين” فى فترة الجائحة سواء فى هذه المبادرة أو غيرها من مادة فنية تحت عنوان عروض مسرحية لم ولن يكون بديلاً عن المسرح الحى، فليس من المعقول  حبس فضاء المسرح فى الشاشة، فمن الممكن استخدام وتوظيف أدوات التكنولوجيا على خشبة المسرح وليس العكس، ليس داخل الشاشة، فما شاهدته من مادة تم بثها عبر الإنترنت يعلى من شأن العملية المسرحية من جوهر المسرح الحى، تساءل البعض من قبل عن خطورة التكنولوجيا على فن المسرح، عن خطورة الفنون الأخرى، وها هى لحظة استثنائية ونادرة، ظن البعض أنها ضد المسرح لكنها فى الحقيقة تدعم فن المسرح، لأن التكنولوجيا هذا الوحش الخطير الذى ظن البعض أنها تهدد المسرح بدت عاجزة بكل أدواتها، بكل إمكانياتها على أن تكون بديلاً عن المسرح الحى، اللحظة / الحدث الاجتماعى، بدت التكنولوجيا ضعيفة وبلا أنياب فى غياب المسرح الحى بكل شروطه ومفرداته، فقد كانت تستمد قوتها من المسرح الحى، ولكن حين غاب أصبحت التكنولوجيا عاجزة على أن تكون بديلاً، فهذه المبادرة وغيرها تقول للجميع اخرجوا من الشاشات وعودوا إلى مسارحكم.

جرجس شكرى

https://www.maspero.eg/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …