مسرحية “رغبة تحت شجر الدردار” على مسرح كولمار- كوميديا الشرق / محمد سيف

تقع أحداث المسرحية، في عام 1850، في إنكلترا الجديدة، في ارض المواجهة بين اليانكيز والأيرلنديين، ارض جرداء تركها الرجال عن طيب خاطر وذهبوا يبحثون عن ارض أكثر خصوبة أو عن الذهب في كاليفورنيا. على هذه الأرض الصخرية، هناك امرأة، ومزارع يدعى “أفرايم” لديه ثلاثة أبناء. “افرايم” يتحدث إلى الله، وهو إنسان قاس مثل الصخر، ينام في الحظيرة مع الأبقار، وأبنائه الثلاثة: سيمون وبيتر، وأبين، من زوجته الثانية. “أفرايم”، جزء من هذه الأرض التي يجب تركها ذات يوم من أجل أرض أكثر خصوبة. ولكن مكانه هنا، وسط الأحجار. ابنه سيمون وبيتر يتركانه ويذهبان إلى كاليفورنيا بحثا عن الذهب، ولم يبق معه سوى “أبين” المرتبط مثله بأرضه، وهذه المزرعة التي ماتت فيها أمه من مشقة العمل، ولا يمكن أن يتركها لأحد. إنها المزرعة التي جلب إليها العجوز “افرايم” المرأة الشابة “آبي” من المدينة، والتي سيكون لحضورها النسوي محركا لقوى الظلام التي تحوم في المنزل خلسة؛ عالم أنثوي سيتعارض مع العالم الذكوري. على هذه الأرض، يلد شيء غير طبيعي، وتلد الرغبة معه، والقوة المفاجئة غير المنضبطة، التي تدفع الأبن، وأبيه، وزوجة الأب، إلى ما لا نهاية. إن مسرحية “رغبة تحت شجر الدردار”، تدور حول شاب يعشق زوجة أبيه، التي لا تلبث هذه الأخيرة، أن تقع في غرامة، بسبب حرمانها، وحاجتها إلى شاب وليس عجوز تزوج منها وهي التي يمكن ان تكون بعمر حفيدته. فتنجب من عشيقها طفلا، فيقتله هذا الأخير، بيديه كي لا يرث مزرعة أبيه العجوز، وتوافقه زوجة الأب/ العشيقة على قتل طفلها، من أجل ان تثبت له، بأن حبها له اقوى بكثير من رغبتها في امتلاك المزرعة، ولكن سرعان ما يكتشف أمر جريمتهما المريعة، ويقدمان إلى القضاء الذي يدينهما، لانسياقهما إلى الخطيئة، وتبرئ المحكمة، المجرم الحقيقي “الأب العجوز”. إذن نحن بعيدون كل البعد عن دراما الفلاحين. من هم، في الواقع، هؤلاء المزارعون الغريبون، الذين يزرعون القمح على سطح الحجر، ويناجون الله وهم يرتعدون خوفا من الألم الميتافيزيقي؟ ومن هي “آبي”، تلك المرأة التي تجلب السلام إلى الأموات، وتعطي الحياة، وتُعتبر مثل الآلهة الأم في الأساطير السلتية؟ إن مسرحية “رغبة تحت شجر الدردار”، أولا وقبل كل شيء، مأساة حقيقية، تشبه الى حد كبير المأساة الإغريقية: المصير، والأساطير المؤسسة التي تتحكم بالعلاقات الإنسانية الموجودة في كل مكان منها، والتي توجد في، الكثير من الأحيان، في أعمال يوجين أونيل، الذي يتأسس مسرحه على الرغبة في إعادة اكتشاف جذورنا الاجتماعية والدرامية، حيث يأمل في هذه المسرحية أن يغير مسار الأمور لوقته ومعاصريه. إن “رغبة تحت شجر الدردار” محاولة من قبل المؤلف، لتنبيه ضمائر معاصريه على إفلاس النظام الحضاري. والولايات المتحدة الأمريكية، بالنسبة إليه، تقدم خير مثال على فشل الإنسانية إزاء رغبتها في السيطرة على الطبيعة، وأمام تدمير جمال العالم على يد الإنسان. إنه يقول في عام1946، إلى أي درجة كان يعتقد أن ذلك كان ممكنا في بلده، لو كان الإنسان فيه قد تصرف باحترام نحو هذا الذي قدم له كهدية عندما تم اكتشاف العالم الجديد. إذن، إن أونيل يقترح في هذه المسرحية رؤية تنبؤيه إلى الكوارث البيئية والبشرية والسياسية التي تواجهنا اليوم. إن “رغبة تحت شجر الدردار”، هي انعكاس يتغذى على المعركة بين الطبيعة والثقافة. جواب مهم يبدأ ويستمر من العنوان، حيث “الطبيعة”، التي ترمز إليها أشجار الدردار العملاقة، هذه الطبيعة، التي لا تقهر، تحمي رغباتنا ويمكن أن تعطي الحياة لمستقبل إنسانيتنا، طالما الإنسان يقبل أن يسلم نفسه إلى الطبيعة التي هي فيه، ومادام كل واحد منا لديه الشجاعة للقبول بأنه ينتمي في المقام الأول إلى النظام الطبيعي للأشياء.
نلاحظ منذ بداية المسرحية، ان هناك نوعان من القوى التي تفترس شخصياتها هذا النص، قوتان متزامنتان، موجودتان مسبقا في الواقعية المجسدة بالديكور المغلق والمجرد، الذي يحيط بهذه الشخصيات المنغلقة على نفسها في مزرعتها، تعيش تحت قسوة العمل، والشمس الحارقة، وامل الرغبة في العيش في مكان آخر يتجاوز حالتهم التي تبدو بلا مخرج واضح. إن هذه المسرحية، تثير في الذهن هذه الحركة المزدوجة، على الفور، سواء الصاعدة منها، وتنوي في نفس الوقت، البقاء في الظل، أو حركة الدوافع المخفية، والمحبطة من قبل القيود التي تفرضها حياتهم، التي لا يعطيها معنى سوى العمل فقط. تشير أول لوحة يقدمها لنا المخرج غي بيار كولو، لهذا العالم، على الضيق الذي تعيشه الشخصيات، المحاصرة بين جدران مصنوعة من الحجر، وطاولة، ورجلين في غرفة بلا حراك. امرأة جالسة، تنهض لكي ترقص في صمت، بحركات فضفاضة وحرة، وكأنها نسمة هواء في هذا الجو الخانق الثقيل، ونوع من الحرية التي تحطم هذه الجدران الحجرية الموجود في كل مكان. ونحن نتابع ما يحدث، نشعر بفعل التوتر بين رتابة الحياة والشعر الذي يمكن العثور عليه في لغة يوجين أونيل، عامية وعفوية، تتضخم في كلام الشخصيات بفعل البعد الشعري الذي يستعير هذه اللغة، التي بمجرد ما تتجسد من قبل الممثلين، تصبح وابلا من الدواخل النارية المتوهجة، في هذه الشخصيات الوحيدة المنعزلة. لقد بدت لغة يوجين أونيل من خلال فعل التجسيد هذا، وكأنها قد اكتسبت قوة مضاعفة، فصارت تسكن جسد الممثلين الذين تعلموا كيف يروضونها ويجعلونها تؤدى بدقة مثيرة للأعجاب. وقد طغت على هذه الحوارات كثافة لغوية جديدة، تشكلت بفعل التمثيل، وهبة المسرح الحقيقي إلى جمهوره، وهيئاته المتحركة، التي جعلت هذا الأخير، يفهم ويسمع الصدى الحميمي للعلاقة الثلاثية التي صارت تتشكل وتتعقد وتتفجر أسرارها أمامه. إن المرأة «آبي” التي كان بإمكاننا أن نتخيلها اكثر إثارة للقلق ودخيلة، وذات قوة كبيرة مهيمنة، بدت اكثر هشاشة، وكانت لغتها ونبرة صوتها بسيطة جدا، ورقيقة، تتآلف بشكل جميل مع هذا التجمع الذكوري الذي لديها معه شأن. زوجها العجوز “افرايم”، كان يتأرجح بين السخرية الخفية لشخصيته الخاصة، والأثر القوي لمعانات الماضي عليه. أما بالنسبة للشاب ” أبين”، فهو قد تحول من مراهق متمرد إلى عاشق عاطفي، كرس نفسه بشكل كامل لصراعه الداخلي المستمر، الذي جعله يلقي حواراته الهائجة وسط الديكور الحجري بشكل قوي وصادم دون أن تخنقه عدوانيته الظاهرة.
لقد اختار المخرج أن يوحي إلى حوارات النص المبطنة، من خلال المواجهات التي تمت ما بين الشخصيات، التي صرنا نرى وجوهها، في بعض الأحيان، كبيرة ومعروضة على جزء من الديكور، باللون الأبيض والأسود، ونظراتها ثاقبة وجدية، وهي تستعير أحيانا، حزنا غامضا دون سبب محدد، يكشف عن ضعفها وهشاشتها. مثلما كانت فكرة جميلة من قبل المخرج أن يترك خلفية المسرح ترتفع إلى مستوى النظر، من خلال لوحاتها، وجعلها تذهب في تعبيرها إلى ما هو أبعد من الكلمات والنص. هذا بالإضافة إلى تركيزه في معالجته المسرحية، على هذا الذي لا يقال في النص، بحيث إذا كانت المسرحية قد عملت على تفجير، وولادة المشاعر والعواطف الجياشة في بيئة واقعية وقاسية في ظل أشجار الدردار، فإن جدارة العرض والأداء يعودان في الأساس إلى شاعرية الإخراج المسرحي الذي اظهر ما هو كامن وراء الشخصيات وعلاقاتها. بحيث حتى “افرايم” العجوز فشل في فهم قوة هذا الكامن والخفي، عندما يقول ببساطة، في احدى حواراته، انه يشعر بأن “هناك شيء يعيش هنا”، بين الحجر. وبالتالي، إن الراقصة، التي يمكن أن ترمز إلى وجود أم “أبين” في البيت، كانت تمارس نوعا من الحرية في حركاتها التي تحاول الشخصيات خنقها. وإن أغنية الروك الحزينة التي غناها الممثل على الغيتار الكهربائي كان يشوبها صدا للواقع المأساوي الذي تعيشه الشخصيات، لاسيما ان نظراتها كانت تشير، في تلك اللحظة إلى العمق، الذي راح يصعد إلى السطح من خلال الشكل المسرحي، الذي رسمه المخرج، بكل شعرية جعلت من هذا الأخير ممكنا، وأعطى للشخصيات لغة، وموسيقى عنيفة نوعا ما، تفتح الشهية على المتابعة، حيث يختلط فيها اللون الأمريكي باللون الأيرلندي.
أعتقد إننا بحاجة اليوم إلى ابتكار دراماتورجيتنا، وأجوبتنا على هذه الأزمة العالمية، وعلى هذا الكرب والقلق الذي يعبر من خلال عيون العديد من البشر، نحن بحاجة ماسة إلى خلق مسرحنا المعاصر، وأشكالنا المسرحية الحالية، في محاولة لتتبع مسار المستقبل. وهذا يعني نحن بحاجة إلى قراءة النصوص الكلاسيكية، وإعادة اكتشاف الأعمال المنسية، التي بإمكانها ان تمنحنا مرآة حية تطل على عصرنا. وتبدو أن مسرحية “رغبة تحت شجر الدردار”، تجمع حاجتين: إعادة اكتشاف الإنسانية من خلال العمل المسرحي، ومحاولة تعيين المسار الذي سيكون عليه غدنا.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش