مسرحية “حنين حار”:  ذاكرة حاضرة  ومستقبل ملتبس ! – صميم حسب الله #العراق

     ينتمي فعل الذاكرة إلى ذلك السياق المعرفي الذي لم يزل الفرد الإجتماعي غير قادر على مغادرته وإيجاد البديل الآني الذي ينتمي إلى لحظة الحاضر أو المستقبل  من اجل صياغة حياة إجتماعية لاتركن إلى ذاكرة يتم إعادة إنتاجها بوصفها حضور مستمر ، ويعود ذلك أن المجتمعات التي تسيطر الذاكرة على بنيتها المعرفية غير قادرة على المضي قدماً دون النظر إلى ذلك الماضي المتشكل على وفق أحداث ومرجعيات ، ومرتبط على نحو أساس بلحظة زمنية قارة، الأمر الذي أسهم بتكوين ثقافة ( نستولوجية) تتبنى النظر إلى الماضي (بحنين حار) ، وبالرغم من كل التناقضات التي تسيطر عليه ، وهي نظرة تبدو مغايرة لما ذهب إليه ( جون اوزبورن) الذي سعى إلى الإطاحة بفكرة الماضي (والنظر إليه بغضب)، ولم تكن فكرة المخرج والمؤلف (جواد الأسدي) في مسرحيته الأخيرة ( حنين حار) تمثيل (مناضل داود ، الاء نجم ، امين مقداد) إضاءة (عباس قاسم) ، ديكور (محمد النقاش) والتي قدمت على خشبة (مسرح الرافدين) في بغداد مؤخراً ، بعيدة عن قراءة (اوزبورن) وإن إختلف (الاسدي ) في طريقة التصدي لتلك الذاكرة التي تعود به إلى ماض موجع لمدينة ساحرة  وقاسية في الوقت نفسه ، سكنت مخيلته ودفعت به إلى النظر إليها بعيون حارة حد الحرقة ، وحنين  ملتبس بالتناقضات والآلام والمسرات.

ذاكرة النص وذاكرة المدينة

بدا واضحاً أن الإحالة الاولى للذاكرة التي اراد المؤلف مقاربتها مع ماذهب إليه لاحقاً من افكار داخل المتن النصي جاءت عبر العنوان (حنين حار) والذي تشكلت معانيه المحايثة لمفهوم (النستولوجيا ) بوصفها(حنين مرضي إلى الماضي) ، وهو إختيار بدا ملائما لمضامين النص من جهة ، ومغامر في سياق تشكيل تلك الذاكرة من جهة اخرى ، ويعود ذلك إلى أن المؤلف دفع بالنص إلى تلك المنطقة التي تحتكم إلى ثنائية المعنى/ الذاكرة ، ذلك ان حضور الماضي في المتن النصي لم يكن يقتصر على تداعيات لذاكرة تستحضر جمال المدينة (بغداد) في ذلك الزمن الغابر، بل ذهب المؤلف إلى ماهو أبعد من حياة المدينة التي كانت حاضرة في شوارعها وسحر مقاهيها وعمق النقاشات المعرفية بين مثقفيها وصولا إلى قسوة جلاديها وحفلات تعذيبهم لكل من يختلف عنهم في التفكير والسلوك ، الأمر الذي بدت فيه المدينة/ الذاكرة ، أشبه بثنائية العيش داخل  حلم يتحول في عمق الليل الغاطس في الظلمة إلى كابوس شرس لايترك للحلم مدينة يركن إليها.

وقد عمل المؤلف لتحقيق تلك الثنائية على صياغة النص الدرامي  على نحو بدا فيه أقرب إلى تقنيات المسرح البرختي الذي كان المشهد فيه مستقل من ناحية الموضوع والبناء  لتكّون المشاهد مجتمعة صورة مكتملة لذاكرة المدينة ، ولم يقتصر ذلك على البناء المشهدي فحسب ، بل إنسحب على بناء الشخصيات الدرامية بحسب مرجعياتها داخل المدينة والتي تنوعت علاقة كل منها على نحو مغاير عن الأخرى ، فالزوجة (شفيقة) المطربة الموهوبة التي تكسرت موهبتها على أرصفة المدينة ، وفي لحظات إستعادتها لتلك الذاكرة التي تشكلت بحضور (الأب) الذي  كان يدفع بها للنظر إلى الجانب المضيء من المدينة مع روح الموسيقى والغناء العريق ، راسماً لها مستقبل مليء بالآمال  والمسرات ، إلا أن المدينة لم تكن مضيئة دائماً في عيون وذاكرة (شفيقة )، فالقسوة التي مارستها السلطة وهي تقتحم حياتها وتنتزع ألق البيت /الأب ،وتحوله إلى خراب دفعت بها إلى النظر إلى المدينة بعيون لابهجة فيها ، الأمر الذي صارت معه (شفيقة) تخشى من المستقبل ، فهي تنتمي إلى ذلك الماضي الملطخ بالقسوة ، وتعيش حاضراً غير مستقر تسوده الفوضى ، فكيف يمكن لها ان تنظر إلى المستقبل ، كل ذلك دفع بالمؤلف إلى رفض المستقبل وإجهاض الحلم / الجنين ، فالأبنة / شفيقة ( الماضي / الذاكرة ) ، شهدت بطش السلطة بأبيها الذي كان صورة للمدينة الضاجة بالحياة وقد تحول إلى عاجز تهاجمه الأمراض من كل صوب ، والزوجة /شفيقة (الحاضر / المستقبل)، تخشى على طفلها (جنينها الذي لم يولد بعد) من مستقبل مخيف يحكمه قتلة يجوبون شوارع المدينة ، كل ذلك الماضي المفجع والحاضر الملتبس دفع بالمؤلف إلى إختيار (الخلاص من الجنين قبل أن يولد وتطاله يد القتلة) ، قد تبدو هذه الفكرة صادمة وقريبة من الأفكار المستحيلة التي أنتجتها التراجيديا الإغريقية  كما في( اوديب الملك ، أنتيجون ..و غيرها) ، إلا أن إختيار المؤلف  هذا ، يدفع بنا إلى النظر إلى  أن نتخيل المستقبل الذي يمكن أن يتشكل من واقع مؤلم تتخلص فيه الأم من جنينها حرصاً عليه من القتلة الذين يملئون شوارع (المدينة / الذاكرة / الحلم ) .

ولم تكن شخصية (جبار/ الزوج) الفنان التشكيلي المشهور بعيدة عن شخصية (شفيقة) من ناحية ، علاقته بالماضي وذاكرة المدينة التي شكلت عبر فعل نقيض يتنوع بين ألق المدينة وظلامها ، إلا أن محاولة المؤلف إيجاد علاقة بين ذاكرة اللون (الحار) في حياة المدينة الضاجة بالحياة ، وذاكرة اللون (البارد) الذي صار حاضاً وملازماً لرسومات الفنان  بعد ان أطاحت السلطة بأخيه (عبد الله) ، هذه الثنائية المشهدية التي إختار المؤلف التفاعل معها في بناء شخصية (جبار) المليء بالتناقضات والتقاطعات  حتى صار شخصية  تشبه الحاضر الذي نعيش فيه ، الأمر الذي بدا معه مستسلماً لفكرة (  خلاص الزوجة من جنينها)، وكأن المؤلف أراد الإشارة إلى أن أفراد المجتمع الذين ينتمون إلى المدينة المضيئة صاروا أشباح تختبئ في مدينة الظلام ، لم تعد شخصيات الأسدي تنظر إلى المستقبل ، بل صارت تحاول نقل صورة عن ذاكرة مدينة كانت بعضُ حياةٍ وموتٌ كثير، لعل الأجيال القادمة تستعيد حياة المدينة وترفض موتها.

وقد بدا ذلك التنبؤ حاضراً في شخصية (عامر) العازف الموسيقي الذي  تعلم من ثقافة المدينة وضوءها الذي تشكل في ذاكرة  خالته (شفيقة) ، إلا ان الحاضر لم يكن يحمل له أملاً في مستقبل مضيء فقد ذهب به المؤلف إلى منطقة معتمة تكسرت روحه فيها مثلما تكسرت (آلاته الموسيقية) على أيدي المتطرفين .. هذه الشخصية جسدت على نحو واضح فكرة الحاضر الملتبس الذي من أجله قتلت (شفيقة) ( جنينها) ولم يعد فيه  (حنين حار) إلى المستقبل.  

ذاكرة الفضاء وذاكرة اللون والضوء

عمل المخرج المؤلف على تأسيس فضاء العرض على نحو منسجم مع المضامين الدرامية التي توافرت في المتن النصي ، لذلك عمل على تقسيم الفضاء الى مستويين   ، شكل المستوى الأول فيه طاولة قريبة من الملتقي وكأن المخرج اراد يقترب من ذاكرة المتلقي الغارقة في الحزن على مدينة خفتت أضواؤها، وفي هذا المستوى إعتمد المخرج على منصة البوح اللفظي وتداعيات الشخصيات وصراعها مع المدينة وذكريات النور والتمدن وعتمة السلطة وظلاميتها، اما المستوى الثاني الذي شكل عوالم خفية عن شخصيات كانت حاضرة وفاعلة في زمن ما ولم يبقى في فضاءها سوى العزلة والإنكسار ، وثمة علامات دالة كثيرة على تلك العزلة يقف في مقدمتها  إختيار المخرج للأرضية البيضاء والخلفية البيضاء من دون ان يكون عليها أي علامة لونية دالة على مقترح للوحة غير مكتملة على الرغم من ان فضاء العرض بهذا المستوى يحيلنا في بعض مقارباته البصرية بوصفه (مكان للرسم) إلاأن عدم وجود اللون  وحرارته في فضاء مقترح للرسم جعل منه فضاء بارد موحش تحول بمرور الزمن إلى مايشبه الكفن الكبير داخل مقبرة موحشة ، فالفنان صار عاجزاً عن الرسم في عالم موحش وحاضر مجهول، تتوزع  في أركانه (قناني المشروبات الكحولية) ذلك الفضاء الذي ينتمي إلى ذاكرة المدينة الحارة والمفعمة بالألوان والنساء الجميلات المفعمات بالحياة اللاتي تحولن إلى أشباح باردة تجرحها الفرشاة  التي لم تذق طعم اللون وحرارته .

إن فكرة المواجهة مع الفعل النقيض التي عمل ( المخرج ) إلى إنتاجها داخل الفضاء البصري سمحت للمتلقي بإعادة القراءة ، ففي الوقت الذي بدا فيه فضاء العرض بارداً موحشاً وكانت به حاجة إلى الكثير من عتمة الضوء من اجل تحقيق العزلة التي كانت حاضرة في طبيعة الشخصيات ، إلا ان فعل المواجهة مع النقيض دفعت بالمخرج إلى الذهاب بعيداً إلى فضح العزلة ومواجهتها بإضاءة مكشوفة وألوان صفراء حارة بدت مناقضة لحالة الشخصيات النفسية إلا انها في الوقت نفسه شكلت فعل النقيض ،في محاولة لتعرية الحاضر وعدم الركون إلى العزلة .

 وقد عمل المخرج في الوقت ذاته على إنتاج صراع بصري بين الفضاء وازياء شخصية (الرسام) في حالة تبادلية بين عدم قدرته على ضرب الوان فرشاته في ذلك البياض العظيم من جهة وبين الألوان التي كانت تغلف جسده من مشهد إلى آخر من جهة اخرى، وكأن المخرج أراد بذلك أن يشير إلى حالة (العجز) والحلم في الوقت نفسه والتي تجسدت في المشهد الاخير الذي إختاره المخرج ليكون ذاكرة حلمية لمستقبل تكون الألوان فيه حاضرة رغم وجود القتلة برصاصهم ودخانهم الذي يعيد المدينة إلى صورتها الموحشة وذاكرتها المؤلمة ، تلك المدينة التي تشكلت ذاكرته المعرفية والجمالية على وجودها حيث المسارح التي يتسابق الجمهور إليها وهو يأمل بالحصول على تذاكر هذا العرض أو ذاك ، تلك المدينة الحلم التي يريدها أن تتحقق فتعيد الأمل إلى روحه المكسورة .

لم تكن العزلة تقتصر على الجانب البصري فحسب ، بل إن المخرج عمل على تحقيق العزلة المعرفية عن طريق توافر فضاء العرض على كومة كبيرة من الكتب شكلت ذاكرة معرفية وثقافية كانت حاضرة في زمن المدينة/الحلم ، إلا أن حضور الكتب على شكل أكوام غير منتظمة ، وخارج سياقها البصري المنظم  ، كشف عن حالة الإنهيار التي أطاحت بالذاكرة المعرفية التي تأسست عليها الطبقة الثقافية التي كانت حاضرة في مجتمع المدينة والمقاهي المثيرة للجدل والمعرفة ، لتنتهي اليوم إلى كومة مبعثرة في فضاء العرض.

 ذاكرة الاداء بين حضور السرد وغياب الصمت

 إعتمد المخرج المؤلف في منظومة العرض على تأسيس بنية مشهدية يكون  للعب على تحولات الزمن دور فاعل في اداء الممثل ، وقد بدا ذلك حاضراً في جميع شخصيات العرض ، وبحسب تركيب كل شخصية من الناحية النفسية والسلوكية ، إلا ان جميع الشخصيات كانت تعتمد السرد بوصفه ملفوظاً تراكمياً إختاره المخرج وسيلة للتعبير عن حالة التنوع بين الأزمنة التي إقترنت بحضور الزمن الماضي وكيفية التعبير عن ذلك الماضي ومدى إقترانه بالزمن الراهن المزدحم بذاكرة متناقضة عن المدينة أو ماتبقى منها، ولتحقيق ذلك كان المخرج بحاجة إلى حضور ادائي وازن لممثل يمتلك من الخبرة والقدرة على التعاطي مع هذا النوع من الشخصيات ، وقد تمثل ذلك في الفنان (مناضل داود) الذي جسد شخصية (جبار)، ذلك الرسام الذي كسرت العزلة فرشاته وماعد قادراً على الرسم ، لتتحول حياته الضاجة بالمتعة والشهرة إلى عزلة قاتمة موحشة ، لم تعد حرارة الألون تثيره ، ولم تعد الحركة تغري خطواته ، الأمر الذي دفع بالممثل إلى توظيف الملفوظ النصي والإشتغال على تقديمه بحسب الحالة النفسية للشخصية على نحو متدفق من دون أن يكون للصمت حضور يشكل فعلاً ادائياً ثنائياً يرافق فعل العزلة  الذي تأسست عليه الشخصية ، إلا ان فعل التدفق اللفظي ذهب بإتجاه تحقيق إنفجارات هستيرية تدفع بالشخصية إلى الإنهيار في مواضع مختلفة من العرض أسهمت بدورها في الكشف عن حجم الخراب داخل شخصية ( الرسام جبار) وطبيعة علاقته بالفن والحياة والذاكرة من دون ان يكون للمستقبل حضور في شخصية تنتمي إلى الماضي وتنظر إلى المستقبل بوجع.

ولم تكن الفنانة ( الآء نجم) التي جسدت شخصية ( شفيقة) بمعزل عن نظام الاداء المباشر والمتدفق الذي إنسجم مع طبيعة الشخصية ، إلا في بعض الحالات التي ذهب فيه الأداء إلى التعبيرات والإنفعالات والصرخات التي لم تكن منسجمة مع شخصية مهزومة ومكسوره تنتمي إلى الماضي ترفض المستقبل عن طريق (الخلاص من الجنين) بحاجة إلى ذلك النوع من الإنفعال ، خاصة وأن المخرج عمل على إنتاج فرضية التباين الواضح بين (مناضل داود ، والآء نجم) من ناحية الفارق الزمني، الأمر الذي أسهم في التعبير عن السبب الحقيقي الذي دفع بشخصية  (شفيقة) إلى الإرتباط برجل يكبرها عمراً ويحتكم على مزاج لايشبه طبيعة مزاجها،  إلا انها قررت الإرتباط به لأنه صورة قريبة من (الأب) الذي فقدت حضوره ، وقد بدا ذلك واضحاً في المشهد الذي أراد فيه ( جبار) الخلاص منها ، ودفع بها الى الإنهيار والتوسل لكي يبقى معها فهي لاتمتلك (صورة اخرى للأب )، وبذلك تكون العلاقة نفسها تنتمي إلى الماضي ،ولا حضور للمستقبل فيها.

أختار المخرج الذهاب بعيداً مع الممثل ( امين مقداد) الذي جسّد شخصية ( عامر) عازف الموسيقى الذي لاتفارق الالة الموسيقية أصابعه حتى صارت جزءاً كبيراً من حضوره الأدائي ، وقد إستطاع (أمين مقداد ) انتاج موسيقى مثيرة للعرض المسرحي شكلت عنصراً يضاف إلى جماليات العرض، إلا ان فكرة الضبط بين الإيقاع الموسيقي وإيقاع التمثيل لم تكن حاضرة في مواضع مختلفة على الرغم من صدق التعبير الذي رافق بعض المشاهد التي جسّدها (أمين) ، فضلا عن ذلك فإن فكرة المزاوجة بين اللغة الفصحى واللهجة المحلية ( البغدادية ، و الموصلية) لم تكن موفقة مع ممثل يتلمس خطواته الأولى على خشبة المسرح .     

صميم حسب الله

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش