مسرحية”مكان”..ذاكرة طفلة عراقية هاربة إلى فرنسا – #العراق #فرنسا

 

ينما تُنشد (ياسمين) النشيد الوطني العراقي، تقاطعها الشخصيات الموجودة على المسرح، أي أفراد عائلتها التي تتحدث كجوقة: “ياسمين لا تخرجي، أبقي هنا، إن خرجت، ستموتين، ستتوهين عن نفسك، ستضيعين، كل شيء في الخارج مسكون بالأسود، إنهم يتربصون بنا”، وحين تسأل ياسمين: “من هم؟”، تجيب الجوقة: “كل هؤلاء الذين يدمرون ويقتلون، ويعاقبون من لا يشبههم”، لكن ياسمين تخرج، لتجد السماء بلون الأرض، والأزرق قد اختفى من كثرة الغبار. فعل الخروج هذا الذي تقدم عليه الشخصية، سيكون بدء المسار في تغير حياة ياسمين وشخصيتها عن ما هي عليه حال عائلتها، سيكون افتتاحية لمجموعة أحداث مسرحية “مكان”، من كتابة وإخراج تمارة السعدي، والتي كانت عرض الإفتتاح لمهرجان المسرح الأوروبي في بيروت.

ولدت ياسمين في بغداد، ومازالت، “تتذكر طفولتها كصرخة” حسب تعبيرها، هي الصرخة التي نادى عليها أهلها بعدم الخروج، عايشت الحرب، كل عائلتها تحمل ذكريات عن الحرب، وانتقلت إلى فرنسا مع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وهنا انقسمت ذاتها إلى قسمين، ذلك الجزء منها المتعلق بالماضي، الذاكرة، العائلة، وتلك التي تحاول الإندماج في المجتمع الفرنسي مجتمع اللجوء. يختار النص والإخراج التعبير عن هذه الإزدواجية في حياة ياسمين بإظهار شخصيتين، ياسمين 1 ياسمين 2، تؤديهما على المسرح مايا سنبار وماري تيرمونت.

تعود بنا المسرحية إلى عائلة ياسمين في العراق، الأب، الأم، الأخ نبيل، والأخت الكبرى هدى. بين المشهد والآخر من المسرحية، نسمع في الخلفية الأخبار التي تروي الحدث السياسي في العراق عبر الراديو، تمر الأحداث السياسية بينما كل شخصية تروي ذاكرة عن طفولتها، فالأخت الكبرى (هدى، أداء ياسمين نديفي) ماتزال تذكر كيف دخل المسلحون إلى منزلهم، واقتادوا أبيها ليغيب عنهم ثلاث سنوات، الصرخة التي ماتزال عالقة في ذاكرة هدى من طفولتها هي صرخة النداء للخاطفين الذين احتجزوا والدها.

صعوبات التعبير

عند انتقال ياسمين إلى فرنسا نتابع الصعوبات التي تواجهها في تعلم اللغة، تشعر بالنقص من ضعف قدرتها على التعبير، ثم نعود مجدداً إلى ماضيها، ألعاب الطفولة مع أخيها (نبيل)، حيث يتخيلون بأنهم يمتلكون قوى خارقة كما الشخصيات الكرتونية. لكن للأخ (نبيل) أيضاً صرخة تعاوده من طفولته، ففي مشهد مؤثر، يقف (نبيل، أداء اسماعيل نيتو) في منتصف المسرح ويعدد لائحة طويلة من الأسماء مقابلاً للجمهور: (ابراهيم، فؤاد، بثينة، عليا..)، لنكتشف أنهم زملاؤه في المدرسة الإبتدائية التي اصابتها قذيفة فقتلوا، في هذا المشهد، يزرع الممثلون الكراسي على المسرح مقلوبة في إشارة إلى موت كامل الأسماء التي تلاها نبيل على المسرح، كأن الكراسي ترمز للمقابر.
في الخيار الإخراجي تبقى كل الشخصيات طيلة العرض، وتتوالى المشاهد بين أزمنة مختلفة، أمكنة مختلفة، وأحداث مختلفة، بتناوب بين الشخصيات التي تتحرك والشخصيات التي تبقى ثابتة. الأم (أداء فرانسواز توريه) تتحرك فجأة، ترسم المسرحية شخصيتها بطريقة هستيرية، إنها دائماً ما تدعي الألم، وترغب العناية والإهتمام المستمر من زوجها وابنها وبناتها، تجبرهم على البقاء من حولها، تلجأ أحياناً لشحنهم بشعور الذنب في حال موتها وهم غائبون عنها. نكتشف لاحقاً أن الأم أيضاً تتذكر من ماضيها صرخة، لقد كانت القذائف تهطل على بغداد بينما هي حبلى بياسمين، تقول الأم: “في الوقت الذي كانت القذائف تهطل كالدموع على بغداد، كانت مياهك تنهمر من بطني”.

“دوماً ما ينضج الأولاد وحدهم”

الأب (أداء رونالد تمسيت)، هو الشخصية المستمرة الحضور على المسرح طيلة العرض بلا حراك أو كلام، ذلك يرمز لكونه غائباً في معتقل لكنه حاضر في الوعي الجمعي للعائلة، وعلى المشاهد انتظار المشهد الأخير لكي ينطق الأب بحكايته أو صرخته القادمة من ماضيه، لكنها الصرخة الوحيدة غير المأساوية، فالصرخة التي يتذكرها الأب من ماضيه هي جملة كان يقولها له والده: “دوماً ما يكبر الأبناء وحدهم، دوماً ما يتقدمون إلى الأمام فرادى” في تشجيع لياسمين على الإستمرار في حياتها، ليمنحها الجرأة والشجاعة.

إذاً لا تحضر الذاكرة دوماً بصرخات مأساوية عند الشخصيات، بل الذاكرة أيضاً تحمل الحديقة الخضراء داخل المنزل في بغداد، الألعاب بين الأخوة، وذكريات الأب عن الصيد في مياه نهر الفرات عند شروق أشعة الشمس.

مع الزمن يتزايد الإنقسام في ذات ياسمين، بل يتحول إلى صراع بين ذاتين. في النص المنشور عن المسرحية، عبارة مهمة مكتوبة في الإفتتاحية: “كامل أحداث المسرحية تجري في مساحة الوعي داخل ذهن ياسمين”، ذلك يتجلى بوضوح في الصراع بين (ياسمين 1 وياسمين2)، الشخصيتان اللتان خلقتهما الكاتبة في النص، والمخرجة على المسرح. لكن كيف يتجلى صراع ذات مع نفسها مسرحياً؟ وكيف يمكن رسم حدوده وأحداثه سردياً؟ يتجلى الصراع بينهما بدايةً في اللغة، هناك مشهد تلعبان فيه معاً، لكن كل منهما تتحدث لغة مختلفة عن الأخرى، العربية والفرنسية. الصراع الثاني يظهر عند تجربة العلاقة العاطفية والحب في المرحلة الثانوية عند التقرب من شاب فرنسي هو (أليكس)، فـ (ياسمين 1) قلقة من هذا التقارب، لا تشعر نفسها مستعدة للتواصل مع الآخرين في هذا المجتمع، بينما (ياسمين 2) تحاول تجاوزها والتقرب من (أليكس) عاطفياً وجسدياً، تقول (ياسمين 2): “لا يمكنني البقاء محاصرة في ذاكرة العراق”، وعند التعرف إلى أهل (أليكس) يجري حديث مرآتي بينهما، (ياسمين 2) تقول لأولى: “أنت تشكلين عائقاً بالنسبة لي، إنك حاضرة على الدوام، وتزعجين كل من حولك. ألا تلاحظين الصمت الذي يحل حالما تنطقين بإسم بغداد. أكره هذا الإسم هذه الكلمة”، لكن (أليكس، أداء ديفيد شوس) يتعلق بياسمين ذات الماضي العراقي، وليس بياسمين التي تحاول تجاوز ماضيها، لذلك يكون مآل هذه العلاقة العاطفية النهاية.

الثقافة نمط محدود وصارم

إذا كان العراق يتجسد بالذاكرة والحرب، فإن العرض أيضاً يحمل نقداً للثقافة الفرنسية، وذلك من خلال التعامل مع اللاجئ، فبعد 12 سنة من العيش في فرنسا، والدراسة في مدارسها وجامعتها حتى مرحلة الماستر، لا تتمكن ياسمين من الحصول على الجنسية، تقدم أوراق الحصول على الجنسية في مشهدين لنتابع تفاصيل الحوار بينها وبين الموظفة الإدارية التي تطلب منها في كل مرة أوراقاً جديدة، تطلب من ياسمين أن تجلب أوراق التسجيل في الحضانة في العراق حين كانت طفلة، أوراق يستحيل الحصول عليها من ماضي الحرب، وذلك في إشارة إلى البيروقراطية الفرنسية، تسأل موظفة المكتب: “لماذا تريدين الجنسية الفرنسية؟”، تجيب ياسمين: “لأني كبرت هنا، تعلمت هنا، وأشعر نفسي فرنسية”.

في أحد الحوارات بين ياسمين وأخيها، يسخر نبيل من محاولاتها التظاهر بأنها فرنسية: “مهما جهدت، حتى لو لبست مثلهم، واكتسبت طريقة تفكيرهم، هذا لن يغير شيئاً، لن تكوني فرنسية في نظرهم. هناك نقص في فرنسيتك”، “فرنسيتك”، تعني أن هناك معايير وصفات محددة لكي يكون الشخص فرنسياً، وكل من لا يمتلك هذه العلامات والإشارات فلا يمكنه الاندماج في الثقافة، أن تكون فرنسياً أي أن تحقق نمطاً مقولباً، حسبما يعبر الأخ لأخته.

من خلال نص مكتوب برصانة، وخيارات إخراجية لماحة ومتعددة المستويات، تنجح مسرحية “مكان” في سرد حياة طفلة تهرب من حرب العراق إلى فرنسا، تتابعها حتى سنواتها الدراسية، وتطلعنا على عوالمها العائلية والداخلية، وذلك لتتطرق لموضوعات الإنتماء، الإندماج، الذاكرة والمستقبل، وتذكرنا برؤية إدوارد سعيد عن المهاجر أو المنتمي إلى مكانين، فبرأيه صاحب هذه التجربة يفقد القدرة على الشعور بالانتماء أو بالاكتفاء بأيٍ منهما، إنه يصبح شخصاً مركباً من ثقافة هجينة، مزدوجة، ليس لها مكان جغرافي، وربما من هنا يأتي عنوان العرض: “مكان”.

علاء رشيدي
https://www.almodon.com

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني