محمود الشاهدي : مخرج لا يملك صيغة جاهزة – أحمد السبياع

محمود الشاهدي : مخرج لا يملك صيغة جاهزة

أحمد السبياع

أقسم ورقتي هذه إلى قسمين قسم يهتم بالجانب الجمالي والفكري في تجربة المخرج المسرحي المغربي محمود الشاهدي، أي بمسرحه عموما، وقسم يهتم بالجانب الإداري، ويجيب على سؤال: كيف يدير المخرج نفسه؟. وتهدف هذه الورقة بالأساس إلى رصد السمات الجمالية في مسرح الشاهدي، كما تتغيى تتبع الفكر الذي تبناه في مجمل منجزه، وتطمح إلى الإحاطة بشخصية المخرج فيه، وذلك عن طريق رسم معالم عن وجدانه، فكره، جماليات الإخراج لديه. حيث يصير بالإمكان ليس فقط، حصر عوالمه الحالية، بل توقع ما يمكن أن ينجز في مستقبل الأيام. كما تهدف هذه الورقة أيضا إلى الاضطلاع على وسائل إدارته لفنه، هذا الجانب الذي كثيرا ما تهمله الدراسات، ونراه في غاية الأهمية، فإدارة الذات تساهم بمقدار كبير في النجاح الفني والانتشار الجماهيري.

  • الجمالي والفكري في مسرح محمود الشاهدي

صرح محمود الشاهدي ذات مرة قائلا: “المخرج الذي ينحصر اشتغاله على تقنية معينة أو أسلوب محدد هو أقرب إلى الحرفي منه إلى المبدع. فالتجديد ضروري في أي عمل إبداعي انسجاما مع تطور مجتمعاتنا وطبيعة أي مشروع مسرحي. النص هو الذي يفرض التوجه العام للعرض، إما في انسجام تام مع مضمونه أو متجاوزا إياه نحو تصور جمالي لا يكون النص فيه إلا ذريعة للعرض. بين هذين الاختيارين حاولت دائما البحث عن أسلوب متجدد في إطار مختبر مسرحي يهدف إلى تبني أسلوب مغاير.”.[1]

ويمكن استنتاج هذا التجدد في مسرح الشاهدي من خلال أعماله من “إيلا كان خوك” إلى “الممر”؛ حيث أن الصيغة الواحدة تكاد لا تتكرر. غير أنه طبعا ومع كل صيغة جديدة فإن شخصية المخرج وبصمته الفنية تدمغ كل أعماله. فهو تارة يشتغل على نص ذي طابع متشظ فيرتق رقعه، ويستجمع تشتته لنشاهد عرضا قائم البنيان منسجم العناصر، ونمثل على هذه الصيغة بتجربتيه، “تمارين في التسامح” و”بين بين”. وتارة أخرى يختار نصا ذا بنية (كلاسيكية)، تعتمد الحكي الخطي، والبنية الصارمة للشخصية، ونظام المشاهد المتعاقبة والمترابطة، ونمثل لذلك، بتجربتيه: “توقيع” و”إيسلي”.

كما أن التجدد يتم على مستوى المواضيع، وإن كنا نستطيع أن نجزم أن للمخرج مواضيع أثيرة؛ كالهوية وحوار الأنا والآخر، لكنه تطرق للفساد السياسي، فساد الصحافة، موضوع المرأة، اقتبس التاريخ المغربي وقارب الهزيمة والانكسار المغربيين، إلخ…

بين بين فرجة مسرحية بين ضفتين

اعتمد المخرج في مسرحيته “بين بين” النص المتشظي، والذي هو عبارة عن شذرات متفرقة يجمع بينها موضوع “الأنا والآخر”، ففي إحدى اللوحات نرى صراعا طريفا بين عاشقين من ديانتين مختلفتين، ومن خلال الرموز يتضح أ الأمر يتعلق بالإسلام والمسيحية، وبالثقافتين المغربية والأوروبية. هذا الصراع الذي بالرغم من جديته إلا أنه لا يخلو من الطرافة والسخرية، والتي تثير التساؤلات ولا تحسم أو تجزم بأي شيء، عدا طرح هذه الحيرة التي تنجم عن تلاقي ثقافتين، وهو صراع أزلي ليس له نقطة نهاية أو شريط وصول، وقد رُمز لهذه الأزلية بالعاشقين وقد صارا طاعنين في السن دون أن يتفقا أو يجدا مخرجا من هذا الصراع. كما نرى لوحة أخرى لرجلين من نفس الضفة، الضفة المغربية، غير أن صراعهما هذه المرة برائحة “العبث”، فلا موضوع كبير يتصارعان لأجله، بل يكاد ينحصر الصراع، في عرض أحدهما على الآخر مساعدته في حمل كيس ثقيل، غير أن الآخر يرفض المساعدة، فيتشعب الأمر بينهما إلى دروب طريفة من التعقيد، القائم أحيانا على اللعب باللغة والكلمات السائد في مسرح “العبث”، مما يجعل هذه اللوحة تنويعا فريدا داخل النص المنطوق، ثم هناك المونولوج الجدي، والشاعري، والذي هو رسالة من مواطن مغترب لأمه، حيث ينعرج بالمنطوق إلى المشترك بين الناس وهو حب الأم، وإلى موضوع لمغترب البعيد عن الوطن، وبذلك يمس يكون المنطوق قد انتقل من الصراع بين فردين، إلى مناجاة فردية إنسانية عميقة. كما يكون قد انتقل من الحوار بين شخصيتين إلى المونولوج، أي من المحاورة إلى السرد، والذي شغله المخرج في عدد هام من أعماله المسرحية.

هذا التنويع على مستوى المنطوق يصاحبه تنويع فريد في المستوى البصري ، وعلى مجمل العرض؛ حيث يستمتع المشاهد بموسيقى وغناء ممسرحين، إذ تبث بين الفينة والأخرى أغان بكلمات وألحان متقنة بحرفية عالية، مع لمسة مسرحية تضفى عليها، ففي جانبي الخشبة يبرز عازفي الـﮕيتار والطبول (الباتري)، بينما تقف الممثلة هاجر الشركي قبالة ميكروفون في وسط العمق، لتغني أشعارا مؤلفة خصيصة للعرض، تتأرجح بين عصرية وشعبية، مع حوار جسدي بين الممثلين والموسيقيين. كما أن التنويع يطال فضاء اللعب ذاته، حيث يتسع ويضيق يتركز أحيانا في بؤرة واحدة، وأحيانا يبدو كأنه ممر فقط، وأحيانا مستطيل محدد الحواف بإنارة ساطعة، فالسينوغرافيا اعتمدت التركيز الشديد واللعب بالأكسسوارات، كالكيس الثقيل، مزهرية الورد، الورود الحمراء، والتي تتفاعل مع تشكيلات الإنارة وتشكيلات الأجساد لتقدم صورا منسجمة الأشكال والألوان، ماتعة للعين. وبالمجمل فإن فرجة “بين بين” تبدو كما لو أنها تجميع لأذواق متعددة داخل عمل مسرحي واحد، ومن هنا جاذبيتها الفرجوية، فالذي يحب الموسيقى والغناء العذب سيستمتع، والذي يبحث عن الخرجات الكوميدية الساخرة سيجد ضالته، والذي يأتي للمسرح ليتأمل ويفكر سيجد نفسه أمام قضايا شائكة تطرح بعمق وبانفتاح. والذي يبحث عن الصور الجميلة سيجد ذاته إزاء تشكيلة من الألوان والأشكال المريحة للبصر والماتعة.

وينبغي التنصيص من الناحية الجمالية، أن “بين بين” مسرحية تقع بين ضفتين لا من ناحية المواضيع التي تطرحها بل من الناحية الجمالية أيضا، فهي توظف التراث الموسيقى المغربي بأسلوب عصري، كما تستخدم المقامات العربية والأشعار الفصيحة على إيقاعات غربية،  تزاوج بين الرقص الشعبي بلباسه وحركاته والرقص الغربي المعاصر، كما تعمل على اقتباس التقنية المسرحية الغربية وتوظيفها بمهارة. ومسرح محمود الشهدي عموما هو مسرح المهارة؛ فمهما كانت المواضيع التي يطرحها ومهما كانت الصيغة الإخراجية التي ينتقيها فإن أعماله يطبعها طابع المهارة، الكتابة الماهرة، الممثل الماهر، الموسيقي المتمكن، السينوغرافيا المصممة دون خطإ أو نقص، إلخ…

تمارين في التسامح : للجمهور حق أخذ الكلمة

يكاد يعتمد المخرج الشاهدي نفس صيغة بين بين، أو العكس، فتمارين في التسامح أسبق تاريخيا على بين بين؛ وفي تصريح للمخرج عن خطة العمل في تمارين في التسامح، نستشف خطة التعدد والتنويع التي يعتمدها المخرج لاستهداف فئات متنوعة من الجمهور، يقول: “إن اشتغالنا على طبيعة الجمهور يتمركز على ثلاثة محاور عمل: في البداية اختيار النص، أو بالأحرى تيمات النص، ففي نص تمارين في التسامح للكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي كانت التيمات المختلفة والحمولات الإيديولوجية لكل مشهد على حدة تغني السلم اللغوي للعرض. فكل شخصية تتميز بلغة خاصة انطلاقا من “الشطاب” وصولا إلى “الدكتاتور” مرورا بـ”رجل الدين”. هذا التنوع يسمح لنا بالاقتراب من جمهور متنوع لا يضبط منطق كل الشخصيات لكنه يجد نفسه في الغنى الثقافي واللغوي للعرض. من هنا يبدأ اشتغال جميع أفراد طاقم الفريق على لغة كل شخصية على حدة في شكل دردشة جماعية مستفيدين من تنوعنا الثقافي محاولين إيجاد لغة وسطى يمكن لجميع المغاربة فهمها، لأن في النهاية العرض موجه لجميع المغاربة وعروضنا لا تقتصر على جمهور معين أو جهة معينة، وهذا هو المحور الثاني.”[2]

لكن مع إضافة جديدة، وهي إعطاء الكلمة للجمهور؛ حيث يفتح الممثل “عادل أبا تراب” حوارا مع الجمهور عبارة عن سؤال ثم جواب، هذه الأسئلة التي تتحول أحيانا إلى مصائد تحاول أن تَغْلب الممثل وأن توقعه في مآزق صعبة. حتى أن بعض أفراد الجمهور كانوا يتصيدون مسرحية “تمارين في التسامح” لطرح أسئلة معدة سلفاً، وأحيانا يطورون أسئلة سابقة سبق وأن طرحوها في عروض فائتة لذات المسرحية. وهذا يخلق علاقة فريدة مع الجمهور تتميز بالامتداد، حيث يصبح العرض المسرحي لـ”تمارين في التسامح” بالنسبة إلى فرد من الجمهور/أو مجموعة أفراد، بمثابة الامتداد أو الحلقة الثانية للعرض السابق.

والتشويق في كل من مسرحيتي “تمارين في التسامح”، و”بين بين” هو تشويق غير تقليدي؛ حيث لا ينتظر المشاهد نهاية القصة، ولا حل لغز من الألغاز المطروحة على الخشبة، كما هو الحال في المسرح التقليدي، بل يأتي التشويق من الجانب الجمالي ذاته؛ فالمشاهد لا يفتأ يتساءل ما الذي سأتفرج عليه بعد؟. هل سأستمتع بأغنية ممسرحة أخرى؟. هل سأرى رقصة عجيبة أخرى؟. هل سأضحك أكثر؟. أي مفاجآت سيقدمها الفريق لي؟. بخلاف بعض الصيغ التي اعتمدها المخرج في أعماله الخرى والتي اعتمد بعضها التشويق التقليدي، المبني على انتظار النهاية، مع طبعا المتعة الجمالية المقدمة أثناء انتظار المشاهد للنهاية الحل.

صيغ  وخيارات أخرى

كما سبق وأن قلنا إن محمود الشاهدي لا يملك صيغة إخراجية واحدة يفرضها على كل أعماله، بل إنه في كل تجربة جديدة يحاول أن ينسى ما قدمه سابقا بالرغم من معرفته بأن بعض الصيغ أكيدة النجاح، فيغامر بحثا عن تجريب واستكشاف صيغ أخرى. ففي “توقيع” تأليف عصام اليوسفي، حافظ المخرج على النص كما هو، ولم يعدله نحو الوجهة المتشظية مثلا، بل التزم بتسلسله وخطيته وهيئة الشخصيات فيه، وقدم العمل بصيغته من جانب المنطوق، لكن بالمقابل شغل الموسيقى الحية على خشبة المسرح، وإن بصيغة تكاد تتحول إلى خلفية، وهي صيغة مختلفة عن صيغة بين بين مثلا.  كما أنه حافظ على دافع التشويق وتبناه؛ إذ ان التشويق في توقيع يأتي من سؤال: هل سيخرج حمزة الكامل من السجن؟. إذ المسرحية هي حمزة الكامل داخل السجن وشخصيات أخرى ترتبط به تحاول إخراجه، وما يترتب عن كل هذا من تعقيدات ومضاعفات ومفاجآت. وقد حافظ المخرج على هذه الصيغة وعزز التشويق (الكلاسيكي) الناجم عن هذه الصيغة، ليخلص في النهاية إلى فرجة مسرحية ذات طابع مختلف عن ما سبق وقدمه، حيث لا يعتمد على الفرجة المتعددة والمتشظية والتي تلعب فيها الموسيقى والغناء دورا مركزيا. كما قارب على مستوى المواضيع موضوعا جديدا هو موضوع الفساد السياسي في المغرب.

كما قارب التاريخ في مسرحية “إيسلي” تأليف أحمد السبياع، حيث اعتمد نصا يقدم حكاية خطية التصاعد، تبدأ بطرح المشكلة، ثم تتعقد شيئا فشيئا، إلى أن تخبو نحو نهاية مأساوية. وقد اقترح المخرج رؤية جديدة، حيث أراد لهذا العمل أن يتم في فضاءات معينة دون غيرها، وهي الفضاءات التاريخية والتراثية فقط، ولم يسمح بتقديمه على خشبات المسارح إطلاقا، فقدم العمل في دار الصنائع بتطوان، وفي فضاءات أخرى شبيهة، من قبيل؛ رياض المدينة بفاس، وفضاء جمعية أبي رقراق بسلا. فكان على الطاقم أن يتعامل مع تشكيل الفضاء وهندسته في كل عرض بطريقة مختلفة؛ حيث حيز اللعب وحيز الجمهور كثيرا ما كان يتم استكشافه من جديد. فكان كل فضاء يتيح تشكيلة وتوليفة جديدة لحيزي اللعب والجمهور، بما أتاح الخروج من الشكل التقليدي لتقديم المسرحيات، وهو شكل الخشبة والصالة.

وقد شغل المخرج راويا، يقدم عند كل مشهد بجملة قصيرة، وقت حدوث الوقائع، فكان هذا الراوي، الذي يتم التناوب على دوره بين الممثلين والممثلات، في كل فضاء جديد يتخذ موقعا مختلفا ومبتكرا. وللتوضيح أكثر تقدم المسرحية حكاية الهزيمة في معركة إيسلي، حيث عاقب السلطان القياد العسكريين بحلق لحاهم، غير أن القائد يحيى حبس نفسه في المنزل إلى ان تنمو لحيته، وأثناء نمو اللحية هذا الذي استمر لشهر، تقع الكثير من الأحداث والوقائع. والراوي الذي يتدخل قبل كل لوحة/مشهد، يخبر عن عمر لحية القائد، قائلا، عْمر لحية القايد يحيى كذا وكذا…

وقد جرب المخرج كذلك الخروج بالمسرح إلى الشارع في مسرحيته “حنا” التي أنجزت خصيصا لتقدم في الشارع، حيث اللعب المفتوح مع الجمهور، وحيث حيز اللعب مندمج مع حيز الجمهور، بالرغم من التحديد الذي يحدث قبل بداية كل عمل مسرحي، إلا أن هذا التداخل بين الحيزين هو خطة جمالية لخلق تفاعل أكثر مع الجمهور.

وقد انفتح المخرج كذلك على التقنيات الرقمية المعاصرة (المابينغ) في بعض أعماله، كتوقيع وإن بشكل محدود، وبشكل موسع في مسرحيته Prise de parole حيث تكاد السينوغرافيا تنحصر في المابينغ، أي السينوغرافيا الرقمية، إذ أن كل تشكلات الفضاءات المقترحة هي تشكلات رقمية، مع وجود بعض الأكسسوارات القليلة، كالكرسي، والمروحة. كما حضرت التقنية الرقمية في مسرحيته الخيرة “سفر” الموجهة للأطفال.

وقد قدم مؤخرا محمود الشاهدي مسرحيته الجديدة “الممر” والتي حار بعض المتتبعين في تقييمها، وتعود هذه الحيرة إلى شكل الفرجة الغريب، المتشظي، دون خلطه بأي من أشكال المتعة، فلا موسيقى تعرض ولا رقص بمفهومه الاعتيادي يقدم. ولعل مرجع الحيرة هذه لا تعود للتشظي فقط بل لنوعه أيضا، فالتشظي في مسرحية تمارين في التسامح وبين بين، هو تشظ في الأجزاء، لكن الأجزاء ذاتها متماسكة ومنظمة، فكل لوحة من ناحية المنطوق صارمة البناء وواضحة المعالم. اما التشظي في مسرحية الممر والراجع بالأساس إلى أسلوب الكاتب الفرنسي فيليب منيانا، فهو تشظ يطال كل شيء، حيث لا نرى أجزاء، بل نرى شخصيات وحالات متشظية، يل إننا نرى أحيانا ذروة فجائية لعقدة محذوفة، ونرى تميهيدا لتعقيد لا يأتي أبدا، ونرى مشاعر تفيض فجأة دون سابق تمهيد. وقد قدم المخرج كل ذلك بصرامة ومهارة وانسجام في كل العناصر، وهذا واحد من أسباب حيرة المتتبعين، فالسينوغرافيا متقنة الصنع وواضحة التصور، والتشخيص قوي، والملابس كما ينبغي لها أن تكون، والإنارة في وقتها ومكانها. لكن التشظي والتكرار أحيانا والذي هو من النص الأصلي يجعل عملية التواصل مع العرض تحتاج إلى بذل جهد مضن. ويبقى أن نشير إلى ان المخرج في عمله الجديد هذا قدم مغربة عصرية للنص الفرنسي، فهو لم يشغل أيا من عناصر المغربة الاعتيادية من لباس تقليدي وموسيقى أصيلة، ولغة تخاطب من معجم المغاربة القح. بل جعل الوقائع تحدث لأسرة مغربية من هذا الزمن، بلغة وملابس وحركات هذا الزمن. مع انعراج طفيف نحو الموسيقى المغربية الأصيلة والمتمثلة في تشغيل آلة التعريجة الإيقاعية العريقة في كورال يظهر بين الفينة والأخرى.

  • الجانب الإداري في تجربة محمود الشاهدي

مما لا شك فيه أن إدارة الفنان عموما لفنه ولذاته غاية في الأهمية في انتشاره وحضوره وفي شخصيته الفنية عموما؛ فقد نجد فنانا متألقا من الناحية الفنية لكنه لا يعرف كيف يدير فنه لذلك يبقى في الظل، وأحيانا يندثر. والإدارة الفنية تخصص منفصل ينبغي أن يقوم به شخص آخر غير الفنان ذاته، لكن وفي السياق المغربي على الفنان نفسه – غالبا – أن يدير نفسه. وبخصوص محمود الشاهدي فإنه يملك تصورا عن كيفية إدارة فنه ويسعى إلى تحقيقه واقعيا، خاصة وأنه أعد رسالة الماجستير في هذا الجانب الإداري حول موضوع “تسيير المشاريع الثقافية”. كما أنه احتل منصبا إداريا في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، ويدير المركز الثقافي نجوم بفاس التابع لمؤسسة علي زاوا، ويعمل على تخطيط وتنفيذ لتصور قائم عل عناصر منها تكوين الشباب، الدفع بالفنون لتغدو جماهيرية، التربية الشعبية حيث الانفتاح على المناطق الشعبية والهامشية. وكل هذا التمدد نحو وجهات إدارية وتخطيطية يجعل من المخرج مديرا جيدا لفنه.

كما يملك المخرج موقعا على شبكة الأنترنيت، يعرف به وبفنه؛ ويوفر للباحثين والنقاد والجمهور المواد المطلوبة للدراسة والقراءة والتفرج.

وسنركز في هذا الجانب على عدد من النقاط التي تخبرنا عن كيفية إدارة الشاهدي لفنه.

للاضطلاع الشامل على موضوع إدارة المخرج الشاهدي لفنه، ينبغي تتبع نموذج لتجربة من تجاربه من الناحية الإدارية؛ من بدايتها الأولى، أي من لحظة التفكير في النص/ تيمات العمل/فكرة العمل، إلى اختيار الطاقم، انتقالا إلى التداريب، ثم لحظة تقديم العرض الأول/ما قبل الأول، إلى الجولة. لكن علينا بداية أن نميز داخل تجاربه من الناحية الإدارية بين الأعمال المنجزة في الفرقة التي ينتمي إليها، فرقة نحن نلعب للفنون،  والأعمال المنجزة في فرق أخرى يحل عليها ضيفا.

الانتماء إلى فرقة مسرحية

تأسست فرقة نحن نلعب للفنون من قبل الفوج السابع عشر، من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وذلك سنة 2006 بالرباط، ومنذ ذلك الحين قدمت العديد من الأعمال المسرحية منها “تمارين في التسامح”، “بين بين”، “هادي قصة أخرى”، إلخ… ويكتسي الانتماء إلى فرقة مسرحية أهمية كبيرة بالنسبة إلى المخرج المسرحي، فهي تضمن له نسبة هامة من الحضور أولا، وتتيح له إمكانيات تجريبية كبيرة، ففي فرقته يستطيع أن يغامر كما يشاء، وأن يقترح إنتاج ما شاء من المواضيع والدفاع عن التوجهات التي يؤمن بها، وهو ما لا قد يتاح في الفرق التي يحل زائرا عليها، حيث عادة هي من تقترح “النص المسرحي”، والمواضيع التي ترغب في مقاربتها. ومن فوائد الانتماء إلى فرقة كذلك، هو إمكانية التخطيط إلى الجولات المسرحية، والتحكم في زمام الإنتاج وحيثياته، فالأعمال التي أنتجت من قبل نحن نلعب للفنون قدمت عادة لمرات أكثر، وبتخطيط دقيق لكل عرض، على سبيل المثال، مسرحية “بين بين” التي قدمت لأكثر من مائة مرة.

وبخصوص الاشتغال في فرقة نحن نلعب للفنون، فإن الاشتغال يتم بشكل تشاركي بين طاقم إداري وفني يكاد لا يتغير م كل عمل جديد؛ وهذا يتيح إمكانيات للانسجام والتكامل أكثر، حيث أن كل تجربة جديدة يمكن النظر إليها من الناحية الفنية والإدارية بمثابة تطوير للتجربة/التجارب السابقة. ويمكن أن نلاحظ أن هناك قصة منسجمة تحكيها العمال المنجزة في إطار هذه الفرقة وبإخراج الشاهدي، ففي “يلا كان خوك” نلاحظ دهشة البدايات، وحماس التجريب الأول، ومن الناحية الإدارية، يمكن أن نلاحظ أن العمل المسرحي لم يقدم بما فيه الكفاية، لكن الأمر اختلف حينما في التجارب اللاحقة، “تمارين في التسامح”، “بين بين”، “هادي قصة أخرى”. حيث يمكن أن نستنتج أن الفرقة صارت أكثر تمرسا من الناحية الإدارية، وكذلك المخرج المدير والمُنتج.

حينما يحل المخرج ضيفا لى فرقة أخرى

يتميز محمود الشاهدي بالانفتاح والقبول، فهو بالرغم من اختياراته الدقيقة، إلا أنه يظهر استعدادا غريبا للدخول في تجربة جديدة، مختلفة عن ما سبق وأنجزه، فعلى سبيل المثال، نستطيع أن نقول إن حسن هموش يعشق إنجاز مسرحيات ذات طابع شعبي، ويمكن أن نفكر في شكل المسرح الذي يقدمه أمين ناسور، مع انعراجه هو أيضا نحو بعض المفاجآت. لكن بخصوص الشاهدي فإنه من الصعب توقع عمله القادم، لأنه على استعداد دائم للدخول في تجارب مختلفة، وهو من الناحية الإدارية، يغامر بأن يبدو مخرجا بدون توجه. لكنه لا يدخل في أي تجربة إلا بعد تفكير عميق؛ فالتجربة بالنسبة إليه ليس فقط ما يمكن أن تحققه من انتشار وشهرة، بل ما يمكن أن تضيفه إليه هو كمخرج مجرب ودائم البحث عن المختلف. لذلك، تعامل طوال مسيرته مع تجارب مختلفة، فهو على استعداد لتقديم مسرحيات تاريخية “إيسلي”، وعلى استعداد للاشتغال على مسرحية المونودرام Prise de parole والعمل على مسرحية للأطفال “سفر”، وحتى في شكل النصوص التي يشتغل عليها، تتأرجح بين أن تكون متشظية ذات طابع معاصر، وتقليدية البناء والشكل. اما السينوغرافيا، فأحيانا خفيفة ومركزة “بين بين”وأحيانا ثقيلة وضخمة “الممر”.

غير أنه يحرص دائما سواء أكان زائرا على فرقة جديدة أو منجزا لأعمال في فرقته على :

  • أخذ الوقت الكافي في التداريب : فهو ضد الإعداد السريع للأعمال، وضد الآجال الأخيرة، التي تفسد الفن والإدارة معا.
  • اختيار الممثلين: للشاهدي ممثلين يشتغل معهم بشكل متكرر، من قبيل عادل أبا تراب، هاجر الشركي، مالك أخميس، لكنه ينفتح دائما على ممثلين جدد، ويعمل مع ممثلي الفرقة التي يحل ضيفا عليها، من قبيل ممثلي محترف الفدان بتطوان، وممثلي فرقة ثفسوين للمسرح الامازيغي بالحسيمة.
  • الحرص على التواجد في جميع العروض المسرحية: إذ يحرص على التواجد والإشراف المباشر على كل عرض مسرحي، بخلاف بعض المخرجين الذين يسمحون أن تتم الجولة المسرحية بدون حضورهم.
  • الحرص على طرح مواضيع مهمة وقابلة للتسويق، من قبيل الهوية، الفساد السياسي، إلخ…
  • عدم التنازل بخصوص المعايير الموضوعة سلفا لتقديم عمل مسرحي ما: من قبيل إيسلي، فبالرغم من صعوبات التي واجهت الفرقة في الجولة فإنه لم يسمح نهائيا بتقديمها على خشبة المسارح، إذ أنجزت منذ البداية لتقدم في فضاءات تاريخية/تراثية. ومن قبيل مسرحية، الممر ذات السينوغرافيا الضخمة والثقيلة؛ حيث يتطلب نقلها ميزانية كبيرة، وبالرغم من ذلك فهو لا يسمح بالتخلي عن أي جزء من هذه السينوغرافيا.

وختاما، يمكن القول إن التعددية والمغامرة والبحث الدائم هي من سمات الإخراج لدى محمود الشاهدي، وبهذا يصعب توقع خطوته/ خطواته المقبلة، ولا المفاجآت الأتية من قبله.

[1] حوار مع محمود الشاهدي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الثلاثاء 18 شتنبر 2018 ع 12036.

[2]  من حوار أجراه الباحث مع المخرج.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش