ما بعد الحياة وما بعد الموت.. المسرح “سينما في قلب الحدث” – د.فاتن حسين ناجي #العراق

دة.فاتن حسين ناجي

ما بعد الحياة وما بعد الموت.. المسرح “سينما في قلب الحدث” – د.فاتن حسين ناجي #العراق

التجارب الإخراجية التي عملت على تقديم المغايرة في الطرح على خشبة المسرح جميعها تقترب والطروحات الفلسفية ولربما حتى الطروحات النفسية  في تناولها للصورة الجمالية والفنية، وهي ليست حكرا على التناول النفسي الماورائي فقط بل تعداه للتناول الفني الماورائي، التي جاءت من خلف أبواب التنوع الذي يتبناه المخرج في الخطاب المسرحي كعملية تحوّل جديدة تمنح التجربة المسرحية حركة مستمرة تنفي ذلك الركود التواتري الذي يخيم على المسرح وفي الوقت ذاته كاشفة عن البنية الإجتماعية والثقافية  والسياسية في أنساقها المُعلنة أو المُضمرة، وقد وجدنا هذا في صورة ما بعد الحداثة، وفي تناولية الطرح التي تتنوع وتتباين بتنوع وتباين الافراد والمجتمعات بوصفها تعبير مباشر عن ما يحيط بنا، وتناو المخرجين لظاهرة حياة ما بعد الموت هي تأكيد لما يبحث عنه العلماء والفلاسفة إذ يقول “برتراند راسل” في مقاله (هل نبقى بعد الموت) “إن الفكرة الرفيعة لا تأتي إلا حينما نفكر تفكيرا تجريديا” وهذا ما صوب نحوه المخرج في البحث عن فكرة رفيعة لا تقترب والفكرة السائدة المكسورة الافق.

والتطرق إلى إطلاق عنان الخيال ليس للمخرج فقط بل للمتلقي أيضا اذ يؤكد كولن ولسون في كتاب (ما بعد الحياة) ان التفسير بالروح يقدم لنا بديلا عن المعرفة المسبقة بأحداث المستقبل. فالخيال أكثر حيوية من الواقع. و(خيالات الاحياء) كتاب لجورني ومايرز وبودمور هؤلاء الثلاثة ايضا أكدوا على ان خيالات الاحياء هي الاكثر قبولا من واقعية الفكر. اما الكاتب المسرحي الفريد سوترو في مذكراته (الارواح البسيطة والارواح المشهورة) كان من أكثر الكتاب ايمانا بعودة الارواح وكانت له تجربة خارقة للعادة.. وهذا الخرق للعادة جعله محط انظار الجميع أنذاك. وايضا ريموند لودج في كتابه (رايموند حياة ما بعد الموت) وكتابه الآخر (بقاء الانسان) يعترف فيهما بحياة ما بعد الموت التي من شانها ان تكون حياة مرافقة للإحياء. وكاترين كرو في كتابها (الجانب الليلي منالطبيعة) سلطت الضوء على ذلك العالم الاخر الذي وصفته بالليل.

وبذلك يصبح التحوّل في نسق التشكيل الصوري للخطاب المسرحي كانعكاس مباشر لمرحلة ما بعد الحداثة بفلسفاتها المتعددة والمختلفة محاولة للإمساك بالمعاني الغرائبية والمشتتة بطريقة مغايرة وعبثية. اذ تُنكر فلسفة ما بعد الحداثة مفهوم (الحقيقة) وتؤكد انه ليس هناك حقيقة ثابتة ويقينية، وهذا وجدناه في المسرح العراقي من خلال تصوير عبثية الحياة التي نعيشها وتكوين ثمرة من ثمرات الخيال المرتبط بالمسرح، في مسرحية قلب “الحدث” تأليف وإخراج مهند هادي 2009.

 المسرحية من تمثيل: تمثيل فلاح إبراهيم، سمر قحطان، آلاء نجم.. وتروي احداثها عن لحظة انفجار في أحد مناطق بغداد يسفر عن مقتل ثلاثة اشخاص، هم فرج بائع الجرائد، وفتاة اجبرها اخوتها على ان تتزوج برجل لا يعرف من الحياة سوى الخمر، والثالث ترك الواقع ليأخذ له ركنا في زوايا عالم الوهم… هؤلاء الثلاثة “يستيقظون بعد الموت” ليكتشفوا انهم ماتوا بالانفجار فتتوالى أحداث المسرحية في “حياة ما بعد الموت” وفي مكان الانفجار. والمفارقة تكمن في الجاني الذي يحوم حولهم، اذ حاول استبعاد العناصر النسقية، والتركيز على المفاهيم المغايرة في التشخيص وفي الطرح، والكشف عن الأبنية اللاواعية والخفيَّة المستترة خلف الواقع العراقي.

ومسرحية سينما تأليف واخراج كاظم نصار 2017 التي تدور احداثها في مقبرة.. تتحدث عن أربع شخصيات تصحوا من الموت، وهم: الشاعر (علاوي حسين) والصحفية (أزهار العسلي) وسائق التاكسي (زيدون داخل) والرابع (اياد الطائي) جنرال مات في الحرب العراقية الايرانية. تبدأ احداث المسرحية هذه كذلك في عالم ما بعد الموت.

ربط نصار بين الشكل الغرائبي والبنية الاجتماعية متخذاً من الواقع العراقي حقلاً إجرائياً لهذا التناول، حيث وجد ثمَّة علاقة وثيقة بين الموت في الواقع والموت جسديا، مؤكداً أن الفرق بين الاثنين يكمن في طبيعة البنية الاجتماعية والمادية للأفراد، بمعنى أن كلا منهما تمثل شكلاً جديدا للفرد العربي وللفرد العراقي على وجه الخصوص.

استطاعا المخرجان نصار وهادي في عرضيْ “قلب الحدث” و”سينما” أن يكوّنا نسقيهما المسرحيين الخاصين بهما، إذ تشكلت الصورة لديهما في المزج بين الصياغة المدروسة لصناعة العرض المسرحي وبين الطريقة الغرائبية في طرح قضية “حدث ما بعد الموت” وكيف تمثل لديهما في طرح الواقع العراقي المؤلم الذي لا يختلف فيه الحي عن الميت فالكل ينتظر الموت في مفارقة غريبة، وهي لا شك ممارسة تتحكم فيها اشتراطات عديدة في مقدمتها الواقع المحيط الذي يمتلأ بالحروب والموت.

د.فاتن حسين ناجي – العراق

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش