“لقمة عيش”.. أقاصيص عُمانية غريبة عن واقع صعب

 

كسرت المسرحية العمانية “لقمة عيش” لفرقة الدّن حاجز غياب الفن العماني عن سوريا، وقدمت سلسلة عروض جديدة في سوريا، بعد النجاح الذي حققته محليا وعربيا عبر سنوات من عروضها، وقد تفاعل مع سلسلة عروضها الجديدة الجمهور السوري الذي وجد فيها متنفسا فنيا ونمطا مختلفا من العروض المسرحية.

في بادرة غير مسبوقة، قدمت فرقة مسرح الدّن للثقافة والفن من سلطنة عمان، عرضا مسرحيا على خشبة مسرح الحمراء بدمشق في السابع والعشرين والثامن والعشرين من شهر فبراير الماضي، وسط تفاعل جماهيري ورسمي كونه العرض العماني الأول الذي يزور سوريا بشكل منفرد ومستقل خارج فعاليات المهرجانات المسرحية.

 مسرحية “لقمة عيش” المأخوذة عن نص مسرحي كتبه البحريني جمال الصقر بعنوان “بلاليط”، أعده وأخرجه للمسرح العماني محمد بن سعيد الرواحي. وقد لاقى نجاحا لافتا في سلطنة عمان وخارجها.

مجموعة من الأقاصيص

يحمل العرض بتوليفته الغرائبية والكوميديا تناقضا شكليا يخلق عند المتلقي فضولا لمعرفة التفاصيل

لا يقدم عرض “لقمة عيش” أطروحات كبرى، ولا يهتم بتقديم شعارات إنسانية عالية النبرة، ويتجه بدلا من ذلك نحو مقولات الحياة البسيطة بالغة الحساسية والحرارة والوجع، التي تتعلق بمعيشة الناس وأرزاقهم وتفاصيل الحياة الاجتماعية المثقلة بالضغط المعيشي. فالمسرحية التي جسدها ستة ممثلين من عمان تبنت صيغة المسرح الفقير الذي بدأ من اسمها. فخلا العرض من الديكور وملابس الشخصيات وكذلك المكياج. فالممثلون الستة الذين وجدناهم على المنصة (سالم بن هلال الرواحي وأحمد بن سعيد الرواحي ووليد بن سالم الدرعي وأحمد بن راشد الصالحي وهيثم بن سيف المعولي وخميس بن سليمان البرام) قدموا شخصيات يزيد عددها عنهم.

اعتمد العرض على توليفة درامية كانت تبتغي الوصول إلى فكرة معينة دون الولوج في شكليات عناصر العرض المسرحي المكملة. وساهم في ذلك وجود حوار مسرحي لاهث سريع يدفع بالحدث الدرامي إلى كينونته المطلوبة بتدفق. وما جعل فكرة العرض وطريقة تنفيذها غريبة وجاذبة عدم تملك النص لحكاية درامية بمعناها التقليدي حيث البداية والأزمة ثم الحل. فالنص اعتمد مجموعة من الأقاصيص التي تناوب على تقديمها الممثلون الذين قدم كل واحد منهم أكثر من شخصية واحدة وهي التي يمكن أن تكون شيئا أو جمادا، مثلا الكهرباء أو النت أو عبوة الغاز وغيرها.

وحمل العرض بتوليفته الغرائبية تناقضا شكليا خلق عند المتلقي فضولا لمعرفة تفاصيل ما سيكون، وما زاد فضول المتلقي، الشكل الكوميدي الذي اختاره منتجو العمل، فحفل العرض بأجواء كوميدية وغرائبية نماها عنصر الحيوية التي تميز بها الممثلون، فكانوا حينا في شكل التمثيل وحينا آخر في الرقص العربي التراثي أو العالمي، وكان واضحا أن التناغم كبير بين الشخصيات، بحيث سار العمل بسلاسة كبيرة رغم غياب الحكاية أو الخرافة.

تناول العرض في بنائه الدرامي مسار حياة شخوص بسطاء من المجتمع وما يواجهونه في حياتهم اليومية من مصاعب معيشية بسبب شح المال، كما قدم تعارض مصالح أولئك مع روتين الإدارة الذي يواجهه المواطن العادي في بعض الجهات العامة، وعرّج على ما يحصل من مواربات في أيام الانتخابات المحلية من قبل البعض واستغلالهم لمطالب الناس للوصول إلى مآربهم الشخصية في المناصب.

يتحدث رئيس فرقة الدّن محمد سالم النبهاني لـ”العرب” عن العرض وحضوره في دمشق فيقول: “كان لدينا إصرار أن نقدم العرض في دمشق، وخططنا لهذه الزيارة منذ زمن بعيد. لكن عقبات حالت دون وجودنا، والأمر تحقق أخيرا. العرض فيه مشاركة عربية جميلة، كاتب المسرحية من البحرين، وسبق أن قدمناه في عمان، وكذلك في العديد من البلدان العربية وهو يقدم الآن بدمشق. رغبنا أن نقدم في العرض مسرحا مختلفا يحاكي القواعد المسرحية العلمية وينطق في ذات الوقت بهموم الناس ومشاكلهم اليومية. لا نريد أن نقدم مسرحا ينفر منه المشاهد لغرابته عن الناس ولا نريد تقديم مسرح تجاري لا يفيد. من هنا كان خيارنا أن نقدم عرضا مسرحيا بسيطا ولائقا يمتع الجمهور ويقدم الفائدة معا”.

ويتابع النبهاني “رغم أن فترة الإقامة بدمشق لم تكن إلا لأيام معدودات، لكننا تحركنا فيها، وتجوّلنا في العديد من أماكنها، وقمنا بتصوير كل ذلك، ونشرناه على مواقعنا على شبكات التواصل، ولم نفاجأ بأن حجم التفاعل مع ما نشرناه كان كبيرا، والعديد من الزملاء بدأ يسأل عن كيفية التواصل مع القنوات الفنية في سوريا لزيارتها بعروض فنية قادمة. كان لدينا شعور بأنه يجب أن نزور دمشق لتقديم هذا العرض المسرحي لكي نحرك هذا الجمود في التواصل الفني، والنتائج أكثر من رائعة”.

الكوميديا الراقية

مسرح من عُمان يلقى صداه في دمشق
مسرح من عُمان يلقى صداه في دمشق

محمد بن سعيد الرواحي مخرج العرض المسرحي، اجتهد في تقديم عرضه معتمدا على طاقة شبابية متدفقة لدى الممثلين، واعتمد على لغة بصرية خاصة، وبسبب عدم وجود ديكور وملابس وإكسسوار كان اللجوء إلى الضوء ضرورة حتمية لاعتمادها سبيلا للوصول إلى معادلات درامية محددة وتحقيق العرض غاياته الفكرية والفنية.

  يقول مخرج العرض عن ذلك “العرض يشكل حالة متميزة في عملنا المسرحي، فرغم بساطته من حيث الشكل، فإنه حمل معاني تخص قيما إنسانية عميقة في المضمون. اعتمدنا الكوميديا الراقية التي تقدم مفردات يومية بشكل محبب، لكي يتعرف الناس إلى مشاكلهم بطريقة جاذبة، والعرض وصل إلى الناس في كل الأماكن التي قدّم فيها على امتداد الوطن العربي، وهو عرض نفذ منذ عدة سنوات لكنه ما زال يلاقي الأصداء الطيبة”.

 وعن وجود عرضه المسرحي في دمشق يتابع “كنت شغوفا مع الزملاء بتقديم العرض بدمشق منذ أن تم طرح الفكرة لأول مرة. والفكرة كانت بأن نقدمه في العام 2019، لكنّ ظروفا أعاقت ذلك، ثم جاءت جائحة كورونا لتعقد الأمور، بعد أن أغلقت الحدود ومنع السفر، لكن الدعوة ظلت قائمة، وبقينا مهتمين بها، وعندما خفّت قيود جائحة كورونا وصار بالإمكان التواصل والسفر، قررنا القيام بذلك، وها نحن الآن في مسرح الحمراء أشهر مسارح دمشق لتقديم العرض لجمهور عريق يحب الفن”.

تجربة عربية

عمل مسرحي فريد
عمل مسرحي فريد

يذكر أن بداية فرقة الدّن كانت عام 1994 بشغف ثمانية أشخاص أسسوا هذه الفرقة في منطقة سمائل في عمان وسرعان ما انضم إليهم بعض طلبة المدارس، وقدمت الفرقة بعض النشاطات المحلية الأمر الذي كرّسها في الحياة الفنية في المنطقة وكان سببا في إشهارها عام 1998 في وزارة التراث والثقافة في عمان.

ولم يقتصر نشاط الفرقة على تقديم العروض المسرحية، وتجاوزه لتنظيم المهرجانات الفنية وصقل المواهب الشابة، الأمر الذي حقق لها ريادة فنية عربية عززتها بقيامها بالعديد من الشراكات الفنية مع فعاليات فنية ومسرحية عربية، وبلغ عدد أعضاء الفرقة في ذروة نشاطها ما يقارب المائة وخمسين عضوا ينشطون في العديد من الفعاليات الفنية والتنظيمية.

والفرقة تعنى في نشاطها الراهن بإنتاج وتقديم العروض المسرحية و إنتاج المواد الإعلامية والأفلام التوثيقية والترويجية وتنظيم الفعاليات الثقافية والفنية وتنظيم مهرجان الدن الدولي الذي يشمل أربعة مسابقات مسرحية هي مسرح الطفل ومسرح الشباب ومسرح الكبار ومسرح الشارع.  ويقام كل سنتين مرة وصار معلما مسرحيا عربيا هاما. وخلال مسارها الفني الذي يزيد عن الخمسة والعشرين عاما حققت الفرقة العديد من الجوائز سواء ما تعلق منها بجوائز أفضل عرض مسرحي متكامل أو أفضل مخرج أو أفضل نص أو أفضل ممثل أول أو ثان.

 وكان من أبرز العروض التي قدمتها الفرقة في تاريخها “لقمة عيش” الذي قدم في معظم البلاد العربية وحقق جوائز في مهرجان شرم الشيخ الدولي لمسرح الشباب في مصر ومهرجان الكويت لمسرح الشباب العربي عام 2017. كما قدمت الفرقة مسرحيات “ذات يوم” و”صالح للحياة” و”حبل” و”ظل وسبعة أرواح” التي حققت أربع جوائز في مهرجان أيام بيت الزبير المسرحية، و”جزيرة الأماني” الخاصة بالأطفال التي حققت الجائزة الكبرى في المهرجان الربيعي الدولي لمسرح الطفل بالمغرب وجائزة الأداء الجماعي في مهرجان مزون في عمان. وغيرها من العروض للكبار والأطفال على حد سواء.

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.