“قلنديا رايح جاي”: دراما التنقل والحركة على المسرح كما الحياة مضمون جاد في ثوب كوميدي ساخر..ونقدي ملتزم تحسين يقين-فلسطين

 

 

جديد المسرح الشعبي للمخرج فتحي عبد الرحمن:

قلنديا رايح جاي”: دراما التنقل والحركة على المسرح كما الحياة

مضمون جاد في ثوب كوميدي ساخر..ونقدي ملتزم

تحسين يقين-فلسطين

أهدى طاقم العرض عملهم المسرحي الجديد “إلى الذين يعبرون الحاجز يومياً ولا يتعبون، إلى الذين يخوضون معركة مفتوحة للبقاء في بيوتهم ومدينتهم، ويتحدّون القمع والتهجير والتيئيس وهدم المنازل، إلى الذين يحبون الحياة ويحبون وطنهم.”

لعل الإهداء، واسم المسرحية، يضيئنان فنيا ووطنيا وإنسانيا، على حركة الإنسان الفلسطيني في أرضه وعليها، من خلال تركيز النظرة على المقدسيين/ات بشكل خاص.

هذه الحركة في هذا الفضاء، على الخشبة كما في الحياة، حينما تصبح الحركة باتجاهين ضرورة لهم، فهم مجبرون على الاختيار، أو إنهم اختاروا ذلك في سبيل البقاء.

نص محكم الكتابة، والإخراج، بوجود تلاق رائع بين جيلين من الفنانين على خشبة المسرح، وبرسالة ملتزمة وناقدة ربما لنا جميعا، باتجاه الخلاص الوطني.

أسرة يلتقي قدرها الذاتي والموضوعي، الشخصي جدا والشظعام جدا، زوجان: معلمة وخياط وابنتهما تصبح موظفة بدائرة تسجيل الأراضي، الطابو، تضطرهم ظروف المقدسيين للتنقل بين القدس ورام الله. يرفضون الخنوع الاقتصادي حين يعرض عليهم مالك البناية التي يسكنون احدى شققها خلوا لتركها، يفاوضهم محامي الملك الجديد، الذي أيضا يعرف انهم اسرة مقدسية، يضطرون للعودة الى القدس خشية سحب بطاقة الإقامة، بعد مكالمة من اخت المعلمة، يعرف المحامي بأن الزوج لا يحمل بطاقة مقدسية. تتسارع الأحداث، حيث وتجتمع الخيوط لبناء الحبكة ومن ثم حلها، حيث تصل أوراق طابو احدى الأراضي من المالك الذي يعيش في الخارج، إلى أيدي الأسرة، بعد ضياعها من السمسار أو نزيه، لتبدأ مفاوضات أخرى يقودها المحامي، يكون الحصول على بطاقة الإقامة هو الترغيب، أما الترهيب فيكون بالقتل كما حدث لآخرين. يتم الرفض وعدم الخنوع بدافع وطني.

اطلع!

لعل كلمة النهاية في مسرحية “قلنديا رايح جاي”، للمخرج فتحي عبد الرحمن: اطلع، تنطلق من منطلقات حرص الشعوب على مستقبلها.

اطلع! خاطبوا معا: الاب والأم والابنة، خاطبوا المحامي-الانتهازي، الراكض وراء خلاص نفسه، جريا وراء تكديس الثروة، ولو على حساب قضيته النبيلة، كي يواجه قدره مع أبناء وبنات شعبه، حينما جاء مهددا لهم بتسليم “ورق الطابو”، تمهيدا لتسريبها للاحتلال.

هنا، يكتمل الخلاص الجمعي، لا لأسرة مقدسية فقط، بل لشعب يعيش تحت قهر الاحتلال، الذي يستكثر على البشر مجرد أن يكون لهم بيت، وتكون لهم حرية حركة وتنقل بين القدس ورام الله.

تضيق الأرض الفلسطينية بأصحابها الأصليين، بينما تتسع في شرعة الاحتلال للمستوطنين؛ ففي الوقت الذي يعاني فيه المقدسيين من إجراءات الطرد الممنهج لهم، يتم استقدام مستوطنين ليعيشوا في فضاء رحب.

هذه المفارقة المسرحية فنيا ووطنيا وإنسانية، تدفع لا لإعادة قراءة ما كتب من أدبيات الاتفاقيات، بل تسعى لخلق حلول وطنية ذكية للبقاء في القدس وفلسطين بشكل عام.

وهي مفارقة تثير الفكر والشعور والنقد تجاه ما كان ويكون، تجاه من ركضوا نحو مصالحهم الفردية، بحيث ثمة إيحاء نقدي لحال واقع العقارات المرتفعة الأثمان، وواقع تسريب الأرض للاستيطان، ولعل ذلك كله اجتمع في شخصية المحامي الذي يقنع الأسرة بترك منزلها في رام الله مقابل خلو، من أجل بناء برج جديد، وهو نفسه الذي يقنع الأسرة نفسها، مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب لإعادة “أوراق الطابو” للسمسار المقدسي “أبو نزيه”، البعيد جدا عن صفة اسمه.

ما بين قضية المقدسي في مسألة البيت ودلالاته، وبين الفلسطينيين بمسألة البيت في مراكز المدن، ثمة حركة لرأس المال، ليست نقية نماما..

انها مأساة المقدسي الذي لا يستطيع امتلاك بيت في مدينته، ولا البقاء في بيته برام الله، الذي تم بيعه لبناء عمارة كبيرة؛ فالخو المعروض لا يكفي لاختيار شقة مناسبة.

أبدع المخرج في ملامسة وجدان المشاهد منذ البداية، بعرض قضية معاشة، يعاني منها مئات الآلاف من المواطنين، من خلال تمثيل مسرحي بمسحة كوميدية، لحال أسرة مقدسية مضطرة للإقامة في رام الله والقدس معا؛ فهي برام الله بسبب الارتباط العملي والطبيعي، وبسبب وجود بيت واسع ومريح، وهي مستأجرة في القدس، لأجل وجود عنوان ضروري لأجل الاحتفاظ ببطاقة الإقامة، فثمة صعوبة بامتلاك بيت في القدس نتيجة إجراءات ما يسمى ببلدية الاحتلال.

أثارت مشاهد رزم الامتعة للتنقل بين المدينتين، ومشهد السيارة على طريق القدس-رام الله، الذي صار بسبب حاجز الاحتلال، طريق رام الله قلنديا، كوميديا، خففت من وطأة الشجن والغضب والمأساة أيضا..

وفي تلك المشاهد، اظهر العرض كيف يتكيف الفلسطيني من أجل البقاء، ولعل ذلك يذكرنا أيضا بتكيف “المتشائل” للكاتب إيميل حبيبي، بجامع الهدف السامي: البقاء.

لقد مثّل حال الأسرة في التنقل لا طلبا للعشب والماء كحال من تنقلوا في الطبيعة وغيرها، واقع المقدسي الفلسطيني المطارد، لا في لقمة العيش بل في وجوده المادي والروحي والوطني والإنساني.

انه تنقل إجباري لما هو أكثر نبلا، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بالتراب أيضا..

للقضية أجيال، كما للفن، فكان هذا التلاقي الإبداعي في التمثيل ذا دلالة وطنية على البقاء المسرحي والبقاء الوطني.

لقد انسجمت الرؤية الإخراجية في تقديم النص عبر عدة مشاهد متتابعة مشوقة؛ من خلال الانسجام الجمعي بين الأسرة وحركاتها ضد إزعاج المالك الجديد للأسرة، وضد المحامي والالك في المفاوضات، وضد مفتش ما يسمى “التأمين الوطني” والمحامي بعد انكشاف أمر ورق الطابو؛ حيث يجعل المخرج الخشبة مكانا لمتناقضين، شكل ذلك حيوية للعرض، وتعميقا لحالة الجدل بل والمقاومة. كما استطاع توظيف الشاشة في تعميق مشهد التنقل على طريق رام الله القدس مرورا بحاجز الاحتلال في قلنديا، كذلك الحال في الحوار الشائك بين الأب الخياط، وبين المحامي، الذي كان صراعا، تم توظيف الكتلة التي يستخدمها الملاكم عادة.

كذلك في مجال الحركة، لمسنا الاعتناء بالتفاصيل في الاهتزاز داخل السيارة، وعلى آلة الرياضة، وهذا يدل على الوعي بالتفاصيل الحركية وأثرها على المشاهد في تعميق المصداقية الدرامية.

أما مشهد مهربة علب السجائر (التي هربت أوراق الطابو) مع أبي نزيه السمسار، اللذين جمعهما قدر واحد داخل غرفة التحقيق لدى الجهاز الأمني، فكان تنفيذه مشوقا، متقنا من ناحية بناء النص وإخراجه؛ فهي حين تظنه محققا تتحدث له بخوف، وحين تعرف انه معتقل مثلها تتغير النظرة، ثم تعود جزئيا حين تعرف انه تم الإفراج عنه بسبب ضغوط الاحتلال، لكن ما تلبث أن تظهر احتقارها، لعل ذلك قادم دراميا من بناء شخصية المهربة كشخصية نامية في العرض.

إلى جانب الكوميديا، التي منحت العرض حيوية، كان للتشويق البوليسي في قصة السمسار والأوراق بعد حيوي جذاب، ومن خلال التمثيل المقنع، نزعم بأن عناصر الرؤية الإخراجية كانت متكاملة. وقد كان لاستخدام الديكور المتنقل والسينوجرافيا البسيطة دور في خلق جو درامي، ونذكر بشكل خاص هيكل السيارة كمكان للحوار أثناء التنقل. كذلك كان للملابس حضور إبداعي كما في استخدام التنورة الصفراء التي يتم توظيف نزعها، في سياق اكتشاف النفس من الداخل، حين ترى ان تمثيل الجنون يمكن ان يسهل حصول الزوج على الإقامة.

لارا نصار ومرح ياسين ومحمد مشارقة، ومحمود طمليه، وعدي الجعبة، فنانون/ات من جيل الشباب، والفنانان الكبيران جميل السايح وحسين نخلة من جيل سابق، التقوا جميعا فأبدعوا كلن في دوره.

أخيرا نتناول عنصر التمثيل الذي كان من أهم عناصر العرض، فهذه الفنانة لارا نصار بدور المعلمة ودور المهربة، تقنعنا وتجذبنا وتشدنا إلى العرض، من خلال عنصر الحركة، والتي تنسجم معها الفنانة مرح ياسين، في حين أدخلنا الفنان محمد مشارقة في حالة الإرهاق الفعلي إثر التنقل، ولا ننسى كيفية ازعاج الأسرة بالحديث غير المنتظم لموظف التأمين لدرجة زهده بالتفتيش الذي يضطر للرحيل.

كذلك الفنان محمود طمليه بدور السمسار، الذي أظهر أيضا إمكانيات إبداعية على مستوى الخطاب والحركة، كذلك اجتهد الفنان عدي الجعبة افي نقل المشاعر المختلطة لدى رجل الأمن الفلسطيني تجاه السمسار، وكان يمكن إطالة الحوار قليلا لإظهار الصراع الداخلي أيضا.

ونختتم بالفنان جميل السايح بدور عامل “التأمين الوطني، ومالك العمارة) وحسين نخلة (المحامي)، كفنانين محترفين، استطاعا أن يزيدا من روافع العرض، بما يملكان من موهبة وحضور، دون أن يسطوان على الجيل الجديد. يذكر ان الفنانة لارا نصار أدت دورين رائعين المعلمة ومهربة الدخان وهما مختلفان بالطبع، كذلك الفنان جميل السايح، الذي أدى دور موظف التأمين الوطني ومالك العمارة الجديد.

قلنديا رايح جاي، بتحدي الطابور الخامس، ب “اطلع”، تعانق فنيا وقوميا تحدي النظم المستبدة التي تم تحديها ب “ارحل”..ومعا تشكلان منظومة خلاص عام وطني وقومي (إيحاء)..

موسيقى: رامي وشحة، إضاءة: رمزي أبو دية، إدارة خشبة: محمد فروخ، إبراهيم الزهيري. العرض من إنتاج جمعية المسرح الشعبي، بدعم من الصندوق الثقافي الفلسطيني.

Ytahseen2001@yahoo.com

 

 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …