قراءة نقدية لمسرحية “تائهون” – د.رشيد دواني

قراءة نقدية لمسرحية “تائهون

ضمن فعاليات المهرجان العربي للمسرح المنظم من طرف الهيئة العربية المنعقدة بالدار البيضاء يناير

2023

 شاهدت في إطار فعاليات المهرجان العربي للمسرح مسرحية تائهون”  من تأليف نزار السعيدي وعبد الحميد المسعودي دراماتورجيا عبد الحميد المسعودي وإخراج نزار السعيدي ومن إنتاج فنار للإنتاج الفني من تونس

١ العرض ونظرة المخرج

 قدم المخرج نزار السعيدي رفقة عبد المسعودي كتابة دراماتورجية   و ركحية عالما مصغرا للمجتمع التونسي وعبره  للمجتمع العربي والعالمي الذي أصبح يتشابه في كل بقعة  جغرافية وتركيبة مجتمعية تتجاذبها الحقيقة الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والحقيقة الواقعية التي يصطدم بها الكائن العضوي الافتراضي الذي أصبح عليه أبناء الأسرة التونسية وغيرها من الأسر العربية والأخريات في كل بقاع العالم.

 بشجاعة قل نظيرها فنيا، أدبيا وخاصة مسرحيا وفرجويا استطاع  نزار السعيدي عبر نظرته الإخراجية أن يفضح الواقع وينزع جميع أوراقه الأخلاقية وتعريته من كل ما يعتريها من شوائب و أمراض خاصة عدم التوازن النفسي في تركيباته المؤسساتية من قانون وعرف وصحافة وكذلك تماسك أو تفكك أسري وعنف  رمزي داخل الاسرة، المدرسة، التلفزة، المحكمة، الشرطة، الفن، منصات التواصل الإجتماعي حيث يسود العنف اللغوي، التنمر، العزلة القاتلة و فقدان الضوابط الأخلاقية…

 تعرية ركحية لواقع يومي افتراضي واستيهامي ، نريده ونهرب منه ! نرغب فيه ونخاف منه ! ونلجأ إليه في عزلتنا ونحس به كمشاهدين…

 كل ما يوجد على الركح من فراغات يمكننا العرض من ملئها بذواتنا ليصدمنا  بحقيقتنا و بمسؤوليتنا فيما يقع و سيقع ! استطاع المخرج بنظرته التاقبة أن يزعزع عقيدتتا و يخرجنا من منطقة الراحة و ننزعج  ونتسمر مشدوهين عاجزين أمام  ما تعكسه مرآتنا الركحية من واقع مأساوي يومي أصبح عاديا و غير مثير لأي إحساس أو تساؤل.

“تائهون”

في البدأ كانت الصرخة

 الحذوثة أو الخرافة من هناك كان البدء لعرض تائهون بصيغة الجمع القهري الجمع الواعي واللاواعي، تائهون المنطلق من قصة فتاة في عنفوان شبابها أو لنقل طفولتها المغتصبة داخل نسق عائلي مهتز، مهلهل ومهترئ…فتاة تقتل أمها… قتل بصيغة القطع الجذري مع الأصل والأصول وحتى مع التأصيل… قطعت حبل الوريد و حبل السرة والأسرة في آن واحد حيث أنهت التركيبة المجتمعية المركزية الممثلة في الأم والأب، في المؤسسة التعليمية الواقعية والافتراضية خاصة الممثلة في الجسد الإعلامي، في المؤسسة القضائية، الفضاء العام، الحي، الحارة ، المدينة، الدولة…

  هذا التشظي والتشذر الذي يتحدث عنه الكاتب والمخرج في نصه “تائهون” يتمظهر جليا في تأتيته للفضاء الركحي عبر سينوغرافيا شبه منعدمة و لكنها مليئة برمزيتها:  رمزية تعتمد أساسا على الفراغ مما يترك المجال للممثلين لكي يملؤوا بأجسادهم وأرواحهم بصدق وتفان هذا الفضاء الفارغ . هؤلاء الممثلون:

 تماضر الزرلي، انتصارعويساوي ،  محمد شعبان ، علي بن سعيد، صادق طرابلسي،  جمال ساسي،  رمزي عزيز…

سبعة! رقم صعب و رهيب بحمولته الرمزية

 سبع قصص! سبعة أرواح من خلال سبعة أجساد ! تطرح الأسئلة الوجودية،، الأزلية الدائمة الا منتهية في المساحات الكونية الركحية… الفضاء المفتوح بانفتاح الأفواه وصراخها هو الفاصل المكاني و الزمني للأحداث تكتبه وتحدده أرواح وأجساد الممثلين.

 خطاباتهم وحركاتهم مع التبات الشبه دائم للإضاءة  المتشظية  كلها مكنت المخرج نزار السعيدي من إعطاء بعد بدائي بمعناه البدئي والأولي الذي يرجع بنا إلى المعرفة  والإدراك الحسيين للأشياء والأحداث عبر الفطرة والغريزة وكذلك البعد الحداثي وما بعد الحداثي للتعبير عن الوجع والألم… استطاع المخرج وعبره الفريق الفني والتقني من ممثلين وتقنيين وفنيين من إدخالنا كمتفرجين إلى  سبر  أغوار السؤال والتساؤل، مكننا من الرجوع إلى الذات والوعي بها، وصل بنا إلى إعادة الرعشة الأولى للوجود، رعشة الخوف والرعب الأولي و الوصول في نهاية المطاف  إلى تأويل ماهية وصول الإنسان إلى بر الأمان والخروج من الشقاء الذاخلي للنفس المتصدرة المتشدرة  الممحوقة ..

مسألة أو إشكالية التية

الكل متآمر

 اعتمد المخرج نزار السعيدي فضاء فارغا إلا من كرسي أحمر يتحرك حسب تطور الأحداث والشخصيات، فضاء ركحي فارغ إلا من ثلاث مستطيلات كأنها عربة فضائية تدهب وتجيء بالممثلين والجمهور من وإلى عمق الخشبة ثم إلى مقدمة الخشبة… فضاء فارغ مربع  ومستطيل، يتحول بتحول و تطور  الشخصيات والمرور عبرها وفيها بشكل يحول الركح إلى دائرة!

الدائرة ليست حلقة مفرغة، هي حلقة تعبرعن الأمومة المفقودة و الموؤودة في زمن الأنترنيت …تعبر عن التيه في التاريخ والجغرافيا.  التيه الذي لا يحدد فقط مصير الإنسان بل يصبح هو مصيره و ماله و هو ما نراه جليا  في جميع الشخصيات المتآمرة على ما وصل إليه الكائن البشري، التونسي والعربي والأجنبي من انفصام في الشخصية وفقدان للأخلاق والمعايير…

 الممثلون تآمروا مع المخرج بشكل قوي نفسيا وجسديا وروحيا عبر أدائهم الصادق لكي يوصلوا إلينا الفقد الذي تعيشه ” إشراق” التي ليس لها من الشروق إلا الاسم مثل أقرانها وأبناء زمنها.  التيه والفقد اللذين يشارك فيهما كل من الصحافي بسطحيته ووصوليته وبحته عن الشهرة والبوز، يشارك فيه كذلك المعلم الأستاذ الفاقد لبوصلته ما بين الماضي والحاضر، ما بين المعرفة العميقة والحقة والمعرفة الإفتراضية، يلتحق بهم أو تلتحق بهم المحامية المتآمرة على إعطاء التيه شرعية بالإضافة إلى الشرطيين المتنافسين في سطحيتهما المتكالبة على إضفاء الصفة القانونية لبحثيهما… إلى غير ذلك من الشخوص المتآمرة  …

كل هذا و ذاك يجعل من العرض المسرحي “تائهون ” عرضا مستفزا بالمعنى الإيجابي للكلمة ، يستفزك الآن و هنا ، يستفزك عاطفيا و عقليا! يدفعك لإعادة السؤال و إن استطعت للكتابة!

د.رشيد دواني

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

This will close in 5 seconds