قراءة نقدية في مسرحية “بريندا” – كريم الفحل الشرقاوي كاتب وناقد ومخرج مغربي

 

 

  قراءتي النقدية التطبيقية لمسرحية “بريندا” المغربية التي تندرج ضمن فعاليات الدورى 13 لمهرجان المسرح العربي الذي ستنظمه الهيئة العربية للمسرح بمدينة الدار البيضاء المغربية ما ين 10 و 16 يناير 2023 .

كريم الفحل الشرقاوي كاتب وناقد ومخرج مغربي  theatrenoun@gmail.com

                 

            قراءة نقدية في مسرحية “بريندا” (1)

يندرج العرض المسرحي “بريندا” للمخرج المغربي الشاب أحمد أمين ساهل ضمن الرهانات الفرجوية للحساسية المسرحية الجديدة التي تحتفي بالتناسج الثقافي وتنعطف نحو شعريات فنون العرض متنصلة من تمركز النص الدرامي . وهي تجارب غالبا ما قادها و يقودها المخرج العربي المعاصر مؤلف العرض المسرحي و مبدع عملية للانتقال من الأدبي إلى المسرحي و من المكتوب إلى الممشهد ومن الورقي إلى الحركي ومن الصامت إلى المنطوق ومن الساكن إلى الحيوي ومن المتخيل الذهني إلى المتخيل الركحي الفرجوي. هكذا سيحاول المخرج / مبدع نص الفرجة التنصل من سلطة النص الدرامي وإعادة الاعتبار لمفهوم العرض المسرحي  كفعل مركب متعدد النصوص واللغات والمستويات مستثمرا فعل المسرحة   théatralisation ليحوله إلى مشرط جهنمي يداهم به كل النصوص الممكنة كاللوحة التشكيلية و الأدب الشفاهي والرواية و القصة و القصيدة و السير الذاتية و المناهج التعليمية و محاضر الصفقات التجارية و الأحداث السياسية و الواقعة اليومية … و كل النصوص الممكنة والمحتملة.  

 

مرجعية العمل المسرحي :

 

في هذا السياق تندرج تجربة مسرحية “بريندا” التي راهنت على مسرحة  théatralisation أغنية لمغني الراب الأمريكي ” توباك شاكور” بعنوان “بريندا حصلت على طفل” وهي أغنية تقارب وتعاقر الاستغلال الجنسي للقاصرات. حيث يتمحور موضوعها حول قصة فتاة أمريكية سوداء لا يتجاوز عمر 12 عامًا تدعى “بريندا” عائلتها فقيرة جدا ووالدها مدمن مخدرات. حملت من ابن عمها الذي سيتخلى عنها فعمدت مكرهة إلى التخلص من رضيعها برميه  في صندوق القمامة. لكن غريزة الأمومة ستدفعها دفعا لاستعادته بمجرد سماعها لصوت بكائه. ولتوفير لقمة العيش لنفسها ولطفلها ستقذف “بريندا” بنفسها في غياهب كل المهن الوضيعة انطلاقا من بيع المخدرات إلى ممارسة الدعارة لتلقى حتفها في نهاية المطاف في إحدى دور البغاء.  ويعتبر “توباك شاكور” أحد رموز “فن الراب” الذين ما فتئ ينحت أغنياته الثورية من مستنقعات الفقر وحضيضية الهامش ( العنصرية.. الفقر.. المخدرات.. الجنس.. اللانتماء.. التهميش الاجتماعي.. الإقصاء السياسي…) وذلك على غرار أغلب الفنانين الأمريكيين السود المنتمين لموجة “الهيب هوب”. وهي حركة فنية ثقافية احتجاجية ظهرت بوادرها في مستهل سبعينيات القرن الماضي في الحواري الفقيرة والأحياء الهامشية بمدينة نيويورك التي يقطنها أمريكيون من أصول إفريقية وجامايكية. كرد فعل ضد التهميش الذي كان يتجرعه الأمريكيون السود . وتتشكل حركة الهيب هوب من أربعة عناصر أساسية وهي :  رقصات ” البريك دانس ” أو التعبير الجسدي للهيب هوب. وفن الكتابة والرسم على الجدران أو التعبير البصري للحركة. و”ديدجي” أو فن تشغيل الأقراص الموسيقية والتلاعب بها. وأخيرا موسيقى الراب وهي الضلع الأساسي لثقافة الهيب هوب حيث تجمع عناصرها بين الموسيقى والكلام الدارج والنثر والشعر والغناء الذي يعتمد على إيقاعات موسيقية سريعة يقوم أصحابها بترديدها أكثر من غنائها مادامت عذوبة الصوت صفة ثانوية مقارنة بالايقاع المتحرر واللاهث والعنيف. ومقارنة أيضا مع المضمون الذي ينصهر داخله الذاتي والاجتماعي والسياسي والاحتجاجي… تترجمه عادة ألفاظ ثائرة وجريئة وخادشة وبذيئة وصادمة. وكلمات قاسية ونابية وجارحة. الشئ الذي خلق ثورة في التعبير وجرأة في الأداء وبساطة في التواصل وهي عوامل ساهمت الى حد كبير في انتشار ثقافة الهيب هوب في جميع أنحاء العالم. حيث سيتلقفها شباب الهامش في أوروبا وآسيا وإفريقيا والعالم العربي. ليصبح الراب صوتهم الاحتجاجي الصادح بهمومهم وآلامهم وأحلامهم وآمالهم. ما حذا بجامعة “هارفارد” وهي إحدى أعرق جامعات في العالم إلى برمجة أبحاث علمية مكثفة لدراسة موجة الهيب هوب باعتبارها ثقافة عالمية.

أما في المغرب فقد تلقف الشباب موجة الهيب هوب بوعي مزدوج مكنه من جهة من توظيف التراث الموسيقي المغربي وإدماجه في أغاني الراب ( كناوة.. عيساوة.. إيقاعات أطلسية أمازيغية…) كما مكنه من جهة أخرى من كسر الطابوهات الاجتماعية والأخلاقية متوسلين بلغة عامية صادمة وعنيفة وساخرة لمداهمة ومعاقرة مواضيع اجتماعية  آنية ومؤرقة. ناسجا بذلك ظاهرة غنائية شبابية ثائرة على التقاليد المتحجرة والأعراف المحنطة والسياسات النخبوية. ليصبح الراب صوت الجيل الجديد ولسان حاله والناطق الرسمي بهواجسه وأزماته الاجتماعية .

 

رهانات الأدرمة والمسرحة :

إن محاولة قراءة العرض المسرحي “بريندا” ومداهمة عوالمه ومساحاته وفضاءاته وبنياته الدلالية والجمالية. يحتم علينا العودة إلى آليات الكتابة الدراماتورجية التي اعتمدت على شبكة من اللوحات والتقطيعات والاسترجاعات المتداخلة التي تندمج ضفيرتها بمعمارية النص الدراماتورجي وأنساقه الدلالية والجمالية. والتي تتكاثف تنويعاته وديناميته وتقاطعاته وخطاباته. حيث يتداخل ويتقاطع خطاب الراوي وخطاب المونولوج والخطاب الباطني والحوار الجماعي وبوح الميكروفون داخل فضاءات تخييلية متشابكة. معتمدا في ذلك على لغة الشارع القاسية والجافة  واللاسعة واللاذعة والجارحة والصاخبة… لغة تجمع ما بين الخطاب الهامشي والتعدد اللغوي حيث ستنصهر اللغة العامية بمفردات اللغة الفرنسية والانجليزية في تناغم مع كلمات أغاني الراب التي غالبا ما تفجر لغة الشارع بكل عنفها الصاخب والخادش والصادم .إنها شعرية قاحلة تمتح من جفاف اللغة اليومية المتصعلكة والثائرة والمتمردة على اللغة الرسمية بكل مفرداتها الطنانة وبلاغتها البديعة واستعاراتها المنمقة ورصانتها العتيقة وتفخيماتها المصطنعة ومقولاتها المرصصة في العناية المركزة. هكذا ستتمرد الكتابة الدراماتورجية على سلطة اللغة الرسمية المتعالية كما ستتجاوز أيضا سلطة اللغة الوسطى التي تتوسل باللغة العامية الفصيحة لتغترف من تقعرات اللغة الحضيضية التي تنحت مفرداتها من جوف الهوامش والمستنقعات الآسنة.

إن عملية مسرحة  أغنية الراب  هي نوع من المجازفة والمخاطرة الإبداعية في تلاقيها بما هو متعدد و متشظي و متغاير و مفتوح … لتتأسس لدينا كتابة دراماتورجية تحتفي بالمتعدد و ترتفع أن تكون مجرد توزيعات  لمشاهد متغايرة إلى كونها كتابة تحمل حفرياتها الإبداعية وإضماراتها الفكرية وإكراهاتها الفنية والجمالية باعتمادها على خطاب بوليفوني لا يستسلم أبدا إلا لما هو تفاعلي وتصادمي متشبع  برهانات الحوارية المضادة تؤتثه كتابة ماكرة تنحت بلغة قاسية وحادة الزوايا تيمة “الاستغلال” كتيمة أساسية تتتمظهر في مجموعة من الوجوه وتتقمص مجموعة من الأدوار وترتدي مجموعة من الأقنعة. حيث تتعرض “ياسمين” الطفلة القاصر لاستغلال والدها المدمن. والاستغلال الجنسي من طرف ابن عمها الذي هجرها وتركها حاملا . والاستغلال الوحشي من مروجي المخدرات وسماسرة دور الدعارة وتجار اللحم البشري النيء. هكذا ستفجر تيمة الاستغلال  ذاكرة جسد “بريندا” ا

أو جسد “ياسمين” في اشتباكه مع سلطة الخطاب القهري المضمر.  الأمر الذي يحيلنا على حفريا ت مشال فوكو الذي سيرصد  الجسد كنص جاذب لسلطة وعنف الخطاب السوسيوثقافي ولكون هذا الخطاب يضمر نسقه القهري سواء كان خطابا أخلاقيا أو سياسيا أو قيميا فإن قراءة الجسد هو في حد ذاته قراءة لسلطة هذا الخطاب ولتشكلاته وامتداداته المجتمعية باعتبار الجسد وعاءا وخزانا لقهريته واستبداده وتمترسه.

 

  جماليات الكتابة الركحية :

لقد عمد المخرج الدراماتورج من خلال مسرحة أغنية الراب إلى إعادة كتابتها وإعادة توزيع سياقات النص وشخوصه وحواراته ومشاهده وفضاءاته وأمكنته وأزمنته وتكثيف كل اللغات التقنية التي تؤهل المكتوب الدراماتورجي للانتقال من سكونيته وستاتيكيته إلى دينامية وحيوية نص آخر هو نص العرض الذي يندرج ضمن المسؤولية الجمالية لفعل المسرحة. حيث نلمس منذ البداية الحضور المكثف لبلاغة الأداء الملحمي ورهاناته على تقنيات اللعب المفتوح والتمثيل داخل التمثيل في فضاء حلبة الملاكمة كملمح ترميزي يؤشر على الصراع والتباري والصدامية . فالحلبة لها حضور جمالي ووجودي ملتصق ببنية نص العرض وبتركيبته التقنية والجمالية . هكذا تتأسس البنى التخييلية في مسرحية “بريندا” متخذة وصفات انتقالية وقفزات شاقولية داخل زمكانية الفضاء المسرحي. بحيث تعتمد هذه التقنية على هدم المشاهد وإعادة بناءها. حيث يتم استدراج الشخوص من خارج الحلبة إلى الفضاء الأب / منطقة الصراع. أي أن الشخصيات هي التي تستدعي عوالمها وفضاءاتها تبنيها وتهدمها وليس العكس. وذلك بوصفها شخصيات ثابتة ومتحولة تستعرض شخصيات غيرية عبر لعبة مسرحية تقوم على تعدد الأدوار وتعدد الفضاءات وتعدد وتشابك خطوط اللعب الركحي داخل فضاء حلبة الملاكمة وخارجها.

 هكذا تلجأ اللغة الاخراجية إلى تقنية اللعب الركحي المفتوح حيث ستدفع العملية الإخراجية بشخوص العمل المسرحي إلى التباري في الحلبة من خلال اللوحات المتشابكة والمتكاثفة التي تسلط الضوء على العوالم السفلية الحضيضية للشخصية المركزية “ياسمين”. وذلك من خلال التداخل المشهدي وتقاطع الفضاءات التخييلية وتعدد الأدوار وانزياحات تقنية التمثيل داخل التمثيل . أما فيما يتعلق بزمن الفعل المسرحي فإنه يوظف سيرورة الزمن الحاضر عبر استدراجه لأحداث ماضية فيتوقف بذلك عن كونه حاضرا لتظهر في نفس المشاهد تغيرات في زمن الأحداث عن طريق نثر الذاكرة واستحضار امتدادها عبر زمن معكوس. ما يجعل تقنية الكتابة الركحية لا تتشكل وفق نمط خطي تقليدي يحكمه تعاقب الأفعال والأحداث وتسلسل أنظمتها الدلالية بقدر ما يتم الاعتماد على تقنية تفتيت المشاهد وإعادة تركيبها كتقنية مرتبطة بمقام اللعب المفتوح المشكل لمعمارية العرض وأنساقه ودلالاته. وقد اعتمد العرض على خطاب بصري تؤثث أنساقه تشكيلات جسدية و تنويعات مشهديه و إيقاعات تعبيرية مبنية على حضور حركي للممثلين ما ينسجم وبنية النص الذي تهيمن عليه تجليات اللاشعور والانفصامات السيكودرامية . وبذلك جاء العرض مشبعا برؤية ممشهدة تختزل الواقع في صور نفسية مكثفة تزخر بشطحات اللاوعي . 

 إن عملية المسرحة لا يمكن فصلها عن عملية الكتابة الدراماتورجية لكونها تحمل حفرياتها البصرية التي حاولت نحت المعطى الفضاءاتي المرئي باعتباره معطى رئيسيا داخل العملية الاخراجية والبنائية لنص العرض. إضافة إلى استثمار بلاغة اللوحة الممشهدة لتعميق البعد الدلالي  الذي اعتمد على  شغب الورشة التجريبية وقلق البحث المختبري .

                                          

                                                                كريم الفحل الشرقاوي

 

 

هوامش :  

 

1 – قراءة نقدية تطبيقية لمسرحية “بريندا” تأليف وإخراج أحمد أمين ساهل.  في إطار فعاليات الدورة 13 لمهرجان المسرح العربي الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح بمدينة الدار البيضاء المغربية في الفترة ما بين 10 و 16 يناير 2023 .  

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

This will close in 5 seconds