قراءة في رسائل يوم المسرح العربي ( 2008 – 2022 ) د. محمد حسين حبيب

 

     اذا كانت جميع مساعي البحث عن هوية (للمسرح العربي) ومنذ اكثر من نصف قرن قد وصلت الى طريق مسدود، فالاحتفال بيوم خاص (بالمسرح العربي) يأتي تعويضا – بزعمنا – عن تلك المساعي, أو مكملا لتلك (الهوية) الغائبة التي نمسك بتلابيبها فعلا ليوم واحد من كل عام.

المكان: (الشارقة)

الزمان: (العاشر من يناير / كانون الثاني) من كل عام

الحدث: الاحتفال بيوم المسرح العربي

   من فكرة تأسيس (الهيئة العربية للمسرح) التي اطلقها حاكم الشارقة الدكتور سلطان القاسمي, تم تحديد هذا الاحتفال سنويا من قبل الهيئة, بأن يكون هناك يوم خاص لمسرحنا العربي ويتم فيه تكليف احدى الشخصيات المسرحية العربية المعروفة بعطائها الابداعي, بكتابة رسالة خاصة بمناسبة هذا العيد المسرحي العربي, كما هو الحال مع تقاليد الاحتفال بيوم المسرح العالمي سنويا.

   وفعلا كانت الانطلاقة الاولى من الشارقة مع اول احتفال في العاشر من يناير/كانون الثاني 2008. وكانت حينها اول رسالة خاصة بهذا اليوم كتبها الفنان د. يعقوب شدراوي, من لبنان. فما الذي حوته هذه الرسالة – والرسائل الاخرى تباعا – من مضامين وأفكار وتوجهات وأهداف ونتائج؟ تسعى هذه القراءة للكشف عنها.

   بعد موجز سريع وجامع لتطور حركة المسرح الاجنبي يفصح شدراوي عن نيته ولوج منطقتي (التسلية) و(التأمل), مبنيا لنا في نظرة سريعة عن احتراق رجل المسرح من أجل الحياة .. من أجل الناس .. ومثاله رجال كثيرون يقف في مقدمتهم (وليم شكسبير) الكبير, الذي لا يمكن تصور يوم واحد سيأتي علينا لنقول فيه: اننا شبعنا من شكسبير .. ثم يتأمل شدراوي وبموجز تاريخي سريع ايضا كيفية وصول المسرح الينا كعرب وصولا متأخرا, من المرسح الى المسرح, كان التحول, وكانت الاحلام والحكايا تولد مكانا للعب وللرقص ليس الا … لكن مع الانتباه الى ضرورة اكمال ما بدأه الاخرون حفاظا على رسالة المسرح الانسانية دائما من اجل الاجيال اللاحقة. فما المطلوب فعله بعد كل هذا؟ .. يقول شدرواي:

فماذا علينا أن نفعل اليوم وما هي الخطوات المطلوبة للقيام بما علينا، نحن الباقين أحياء، أن نقوم به لإبلاغ الرسالة للاجيال الطالعة؟

المطلوب ليس أن نقيم ندوات نكثر فيها الكلام من دون التوصل إلى نتائج محددة. المطلوب ليس ان نلف وندور حول المشكلة بل أن نقتحمها.

المطلوب في عصر العولمة والانترنيت، وتعميم الثقافة المعلبة وخراب المدينة بمعناها الانساني الحميم.

المطلوب بداية العمل على اعادة تشكيل حياة البشر الروحية سعياً إلى حضارة تليق بشعب كامل لكي يبني ثقافة قادرة على الغاء التعفن والترهل.”

اشارات ونقاط ضوء عملية يستشعرها شدراوي ويتفحص ثمارها .. التركيز على الجانب العملي ذلك ان المسرح قد فرض نفسه حاجة اجتماعية ثقافية توعوية بامتياز .. وان الجمهور هم الهدف الاسمى لكل ما يقدم مسرحيا وتحديدا الطبقة الوسطى منهم لانهم الاهم جماهيريا وفق شدرواي نفسه .. ليتوقف عند وصايا مهمة منها ما تحقق فعلا بعد عام 2008 ومنها ما ينتظر, فيقول في نقاط :

” 1 – محاولة العمل على ضخ الحياة من جديد في الطبقة الوسطى وتسهيل سبل نموها وتنشيطها من حيث هي عماد كل حراك اجتماعي نهضوي. هذه الطبقة التي قال عنها يوريبيدس : هي وحدها تحفظ النظام، وتمسك برمق الحياة.

2- العمل على ان يخرج من رحم هذه الطبقة جمهور لديه قابلية استقبال الاعمال الابداعية وتمثلها ونقدها. ويضيف ايضا: “وما تاج هذا العمود إلا حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية التنقل، وحرية الابداع، والحق في الاختلاف.”

شدراوي – كما المسرح وكما جميع المنتمين – هو ضد الحرب .. ضد الموت المجاني والدمار .. وهو ايضا – كما المسرح وكما جميع المنتمين – مع الانسانية الحقة ومع الكرامة والحرية ابدا. ليصل الى تساؤله المهم والخطير في جملة نصت على التالي:

رسالتنا: أن يطفح عملنا بالمغزى العظيم، إذ نشعر بان الناس بحاجة لأعمالنا“.

مهم جدا ان نبحث في كيفية الوصول الى ذلك الهدف الصعب .. الناس بحاجة لاعمالنا .. ما السبل الكفيلة فعلا لتحقيق هذا الهدف السامي؟ كيف يمكن ان يكون المسرح مرتبطا بحياة الناس وبشكل يومي؟ كيف يمكن فعلا ان يشكّل المسرح عامل قلق لدى الناس اذا مر عليهم شهر واحد او ربما اسبوع واحد, وهم لم يروا فيه مسرحية واحدة؟ .. أيمكن تحقيق ذلك فعلا؟

اما الرسالة الثانية التي كتبتها السيدة سميحة ايوب من مصر, وألقتها في القاهرة 10/1/ 2009 في افتتاح مهرجان المسرح العربي الأول. كان الرجوع الى التاريخ ايضا, لكن لا التاريخ العام بل الى الخاص منه, الى التجربة الذاتية والفنية للفنانة ايوب عبر ماضيها وعلاقتها بخشبة المسرح المصرية, برغم ما تعرضت له هذا الخشبة من صعود وتراجع عبر مسيرة حافلة بالتحولات المرتبطة بالواقع المصري الموغل اثرا بواقع المسرح ومدياته الابداعية, فكانت نهاية كل مسرحية انما بداية لمسرحية جديدة اخرى وهكذا.

تقول ايوب: “كان حلماً ورسالة.. رفعته أجيال على أكتافها، واحترق فيه مَنْ احترق، وتعذب فيه مَنْ تعذب، لكن السعادة سادت الساحة بأكملها.”

وتضيف: “من يعش على جنبات المسرح.. يتنفس المسرح، ولكنه يجهل أو يتجاهل شيئاً واحداً.. هو إسدال الستار.. فحياة المسرحي بلا ستار.. النهاية.. إنها رحلة ممتدة إلى الأبد.. موغلة في الآتي..”. وايضا هناك البحث عن حلم جديد .. حلم بناء قاعة مسرحية في كل مكان .. في كل قرية وشارع ومدينة .. انها فكرة السعي الى الترويج واشهار المسرح .. اشهار الحياة الحقة ايضا كما سعى وتأمل شدراوي في رسالته السابقة .. لان المسرح في النهاية صناعة للبهجة .. صناعة للاحلام المؤجلة الى حين.

وتأتي رسالة الأستاذ عز الدين المدني من تونس التي ألقاها يوم 10/ 1/ 2010 في تونس في افتتاح مهرجان المسرح العربي الثاني بوصفها الرسالة الثالثة .. رسالة جمعت ما بين السيرة الذاتية والسيرة التاريخية مع مراعاة التنويه على المعنى المفاهيمي لفن المسرح من منطلق المنحى التفردي لهذا الفن برغم انه يخاطب الجماعة .. فضلا عن ما ينماز به الفن المسرحي من مكانة وتجدد وفحوى زئبقية يصعب الامساك بها دائما .. يقول المدني:

وكيف لا يكون فن المسرح من أعز الإبداعات الفكرية وهو يتبدّل ويتغيّر ويتجدد على الدّوام، فلا يستقر على حال تتكرر، ولا على قاعدة تتكلس، ولا يتجمد في قانون إجرائي يمارس في كل عرض وفي كل عهد وفي كل عصر! فقاعدته الوحيدة حينئذ ألا تكون لها قواعد! إذ هو يتساءل عن كيانه فيراجعه في كل حين وآن، ويتساءل العاملون في وظائفه عن مفارقته بشكل مستمر: فما كان اليوم إيجابياً يصير في عيونهم وعيون الناس سلبياً غداً.”

هذا اضافة الى ان المدني راح يكشف وبجرأة واضحة عن أمراض وعن العلل الخبيثة التي تسللت إلى فضاءات مسرحنا العربي بسبب: “أولئك الذين يسبحون في الرداءة والضحالة والتفاهة والسمسرة والتجارة الفاسدة .. ” مضيفا قوله وبقسوة: “لقد حصل فعلاً ذلك في هذا الزمن الذي تردّى فيه فن المسرح العربي إلى أسفل سافلين، فصار مبتذلاً ملطخاً قذراً كمنديل الطبّاخ لأنه في متناول من هبّ ودبّ من بني آدم لا من العارفين، وصار محتقراً مبخوساً لأن عون الفرقة المسرحية يكتب ما شاء له أن يكتب من المسرحيات السّخيفة قصد الإضحاك من أجل الإضحاك لا غير، ولأن كهربائي الركح قد تكلف بإخراج مسرحية غبيّة في منتهى الغباوة والبلادة بحجة أن الجمهور (عايز كده)، ولأن عامل الميكانيك يمثل دور صلاح الدّين، وصار نجماً بينما لا دراية له بفن الممثل فضلاً عن فن المسرحة، ولا بأي شيء سوى تبديل زيوت السيارات القديمة …” لكن الرد والتصدي لامثال اولئك هو الابداع والتواصل والبحث والتشجيع واجتذاب سبل للعطاء ابدا .. فيقول المدني:

الإبداع في عروقه بحث واستقصاء مثابر، فما أحوج المسرح العربي إلى البحث، وإلى بناء مؤسسات للبحث، وإلى دفع الكتّاب والمخرجين إلى البحث، وتشجيعهم على البحث بالأموال والتراتيب. ذلك أن الإبداع هو بحث في قول ما لا يقال وفي رؤية ما لا يرى وفي سماع ما لا يسمع حتى يكون الفعل الإبداعي بكراً ومبتكراً في المعاني والجماليات معاً، بمعنى غير مسبوق، مختلفاً عن السابق، ذا سمة الغرابة، طريقاً بعيداً كل البعد عن الابتذال والأشياء الممجوجة والشائعة كقاسم مشترك بين البشر، حديثاً ذا شوكة حداثية حادّة، ينبض بالجدّة في خصوصيته، في تفرده، في اختلافه، في فتح دروب وآفاق لا تخطر على البال..”.

ومن ثم يستقرىء المدني اسباب (الهجرة) من المسرح الى التلفاز ويستعرض مسوغاتها بموضوعية وواقعية, اذ يبحث عدد من الفنانين الى الشهرة السريعة عبر التلفاز او السينما لكن هذا النوع من الشهرة المؤقتة والسريعة تموت سريعا ايضا, ولان هذه الشهرة لا تعوض قيمة الفن الحقيقي وقيمة الفنان المسرحي الحقيقي مستقبلا .. لينتقل المدني الى (الحرية) .. الى تلك القاعدة الاساس لفن المسرح .. من مبدأ اننا لم نعرف المسرح تاريخيا الا حرا. وبحسب جان جاك روسو (ولد المسرح حرا) وبتناص واضح يقول المدني:

أليس المسرح يوحي للمواطن العربي بالديمقراطية أي بحرية التعبير وباحترام رأي الآخر؟

والفن يربأ عن نفسه أن يكون وصياً على أفكار الناس ويتبرأ من أن يكون وليّاً ولا بوقاً للدعاية ولا استعلاء أخلاقياً ولا مكابرة سلوكية على الإنسان.

ذلك أن فن المسرح حرّ: حريته في النفس وفي الفكر وفي الخيال وفي الجماليات وفي المواضيع ولا مزية لأحد عليه ولا على فن المسرح.”

ومن العراق كانت الرسالة الرابعة للأستاذ يوسف العاني التي ألقاها يوم 10 / 1 / 2011 في بيروت, في افتتاح مهرجان المسرح العربي الثالث .. فمن خبرة 67سنة مسرح و58 مشاركة مسرحية دولية جاءت هذه الرسالة بتنوعاتها السيرية والموضوعية الراصدة وتساؤلاتها عن واقع حال المسرح العربي .. مبتدئا العاني التعبير عن لحظات سعادته الان بهذه الوحدة وبهذا الانتماء العربي فيقول:

أرى اليوم أمامي لبنان بمسرحه والخليج بمسارحه ومصر بمسرحها العريق والعراق بإصرار مسرحييها على العطاء وسوريا بتواصل عطائها ومسرح الأردن بنشاطه، أرى فضاءات المغرب العربي المتعددة لأعود إلى مشرقه.. أراه كله موحداً تحت شعار مبارك: المسرح العربي..” ومباشرة يضيف قاصدا الاستفزاز بقوله: “ولكن أرجو ألا يستفزكم تساؤلي: هل لدينا حقاً (مسرح عربي)؟ ..”

وعبر سرد سيرته الفنية بايجاز وحلمه القديم بالوحدة العربية, وبسبب ما تعرّض له شخص العاني ومسرحه الى الرقابة والقمع والمنع .. “صارت السياسة التي تُعنى بالإنسان في كل مكان جوهر مسرحي.” اي جوهر مسرح العاني في العراقي .. ومن ثم تلاحقت الخبرات العربية في عدد غير قليل من المؤتمرات والمهرجانات المسرحية التي بدأها العاني منذ عام 1957, لتلبي الحاجة الفنية ولتصقل الخبرة المسرحية .. فضلا عن تلاقح الخبرة ما بين الاجيال المسرحية المتعاقبة وهذه هي اساس ديمومة المسرح فعلا .. فيقول العاني:

الاستفادة من الرعيل الأول بما اغنوا وبما أبدعوا.. وأن نتبنى الشباب بصدق حماستهم المثقفة.. بما يقدمون من محاولات إبداعية مطورة لما كان.. وألا نقف موقف المتعالي على الكفاءات الجديدة .. فهي مفتاح المسرح الآتي..”.

ثم ليصل العاني الى تأكيده على محاولة التخلص من الكمي على حساب النوعي في انتاج عروضنا المسرحية .. منتقلا الى تاكيده ايضا الى عدم العزلة عن الاخر .. ومحلقا الى منطقة الحلم .. بقوله: “فأنا وعمري المسرحي الآن قد بلغ السابعة والستين بسنواته الطويلة وتجاربه الكثيرة والتي تنوعت وتغيرت وتناقضت وتآلفت.. جعلتني محكوماً بالحلم بعد أن اجتزت مرحلة الأمل وصار علي أن أنقل حلمي إلى كل المسرحيين العرب.. وإلى الهيئة العربية للمسرح بالذات لتعمل أو تحاول أن تعمل وأقول: تحاول أكثر من مرة لإزالة السدود والحدود.. وأكرر تحاول لكي يتحقق المسرح العربي الواحد: مدرسة وفناً وفكراً.. دون عزلة عن مسارح العالم بل بتميز جدير به وأصالة عريقة فيه بعد أن نتواصل بيننا ونصل إلى أفضل ما يقدمه أشقاؤنا في هذا البلد أو ذاك.. أن نتبادل الرأي ونكتشف الرؤى سواء ما كان جديداً منها أو التي ما زالت تبحث عن السبل الخلاقة للمسرح الآتي لنا وأن تظل الصراحة في الطرح أساساً صادقين مع أنفسنا أولاً .. كي نصل – مهما طال الزمن – إلى سمات وملامح وجذور في الشكل والمضمون ليكون مسرحنا بعد هذا (مصدراً) مسرحياً جديداً لا على صعيد مسارحنا وحدها.. بل على صعيد المسرح العالمي كله.”

اما الرسالة الخامسة فألقتها السيدة سعاد عبد الله من الكويت في يوم 10 / 1 / 2012 في عمّان – الأردن حيث انعقاد المهرجان المسرحي العربي الرابع .. وايضا كانت السيرة الذاتية, وايضا كانت الذكريات .. فتقول: “نعم، في ذلك الصباح البعيد، الذي سجل تاريخ ميلاد علاقة، أصبحت وثيقة، ودونت أسمي ورسمي، وكتبتني ضمن من سبقوني في هذا العالم المبهر المبهج (عالم المسرح)، وهبتني ذلك الانتماء الحميم إلى مسرح، هو الكون كله، في لحظة مدهشة، تمسك الأنفاس، وتفجر الحياة الجديدة” .. لتنتقل عبد الله من صبيحة المسرح المدرسي الى ذلك الحلم – كما هو حلم يوسف العاني – بوصفه المنقذ لواقع حال حياتنا العربية التي هي بحاجة الى ربيع مسرحي دائم .. فتقول:

لأن المسرح هو أبو الفنون جميعها، ولا بد أن يقوم ابناؤه منتفضين على واقع الحال، ليعيدوا صياغة عالم يخرج من رحم المأساة سالماً معافىً وشامخاً، كما كان دائماً، فيقدم الخير والجمال لتدب خطى الفرح فوق خشبته من جديد، وليعود نشيد الحياة وصراخ الأمل… فإن حياتنا العربية، في ربيعها الذي تأخر كثيراً، تستحق أن يكون المسرح رديفها، بل أن يغدو صوتها الصادق الصدوق دائماً..”

ومن رحم معاناة الفكر والبحث المسرحي ولدت الرسالة السادسة للسيدة ثريا جبران من المغرب والتي تمت قراءتها بالانابة عنها يوم 10 / 1 / 2013 في الدوحة حيث انعقاد مهرجان المسرح العربي الخامس .. والتي انمازت هذه الكلمة / الرسالة عن بقية الرسائل بأمور عدة منها: ان طريقة السرد الذاتي كانت مختلفة اذ تم توظيف السرد بطريقة منولوج داخلي درامي طويل وكأنه نص مسرحي مونودرامي بالامكان الاشتغال عليه واعداده عرضا مسرحيا مونودراميا مهما, بحكم الصياغة والاسلوب اللذين احتكمت اليهما كاتبة الرسالة .. الى جانب تمثل عدد من المفاهيم المسرحية عبر هذا المونولوج الداخلي الحزين والفاضح لكل المسكوت عنه مسرحيا وسياسيا واجتماعيا .. تقول جبران:

لقد كان المسرحُ، بالنسبة إِليَّ، وسيظل فَنَّ الحقيقة بامتياز. ولكنَّ حقيقةَ المسرح، بالتأكيد، ليست كحقيقة الخُدَع السينمائية، ولا حقيقة التلفازات التي تحجُب الرؤية، ولا حتى حقيقة المطابخ السياسية السائدة، حيثُ تُعَدُّ الوصفاتُ والتَّوابِل، وتُطْبَخُ الطَّبْخَاتُ على نار هادئةٍ في المختبرات والكواليس الدولية – كما كتب الشاعر الراحل مُحمَّد المَاغُوطْ – ثم يأكُلها الكبار في الغرب والشرق، بينما يكتفي العَرَبُ بغَسْلِ الصُّحُون! (أفَكِّر هُنا بالأخص، في العَرَب الذين لا يريدون العودة إلى التاريخ بعد أن خَرجُوا منه ..”

وايضا تقول: “المسرحُ ليس تصفيقاً، وإنما هو تَفَاعُلُ صِدْقٍ مع صِدْقٍ. وهذه مناسبة، لأَلْتَمِسَ بأَلاَّ تُصَفّقُوا كثيراً إنْ دَعَتْكُم مُجَامَلاتُ إلى التصفيق. وإنْ صَفَّقْتُم – ولا بُدَّ – لا تُصَفِّقُوا تَصْفيقاً خَاطِئاً. لَكَمْ أَعجَبَني ما قَالَهُ الروائي الأَلماني غُونْتَرْ غْرَاسْ (نوبل للآداب 1999، الذي كَتَبَ كذلك بعْضَ المسرحيات): «التَّصْفِيقُ الخاطِئُ من الجهَةِ اليُمْنَى يُغْرِي التَّصْفيق الخاطئ من الجهة اليُسْرَى!».

المسْرَحُ إِنصاتٌ وصَمْتٌ وتَأَمُّلٌ وسكينَة. فضاءٌ للأَمل، وحتَّى حين يَيْأَس المسرحُ يكونُ يَأْسُه خلاَّقاً ومُدْهِشاً وحيّاً، وليس عَدَميّاً أو سلبياً.

المسْرَحُ ثقافة واستثمار ثقافي، خيالٌ وتقْنية وصناعة حضارية وإِنسانية.

المسرحُ هندسةٌ للأرواح الجديدة.”

تكررت جملة (المسرح ابو الفنون) في اكثر من رسالة سابقة, لكنها هناك جاءت الجملة حاملة معها مسوغاتها وكما جاءت بالنص: “المَسْرَحُ أبو الفنون، كائنٌ حيٌّ ينْتَبِهُ إِلى التناقُضات فَيَقُولُها، وإِلى التَّوازُنَاتِ فَيُضيؤُها، وإلى الاعْوِجَاجَاتِ فَيُعرِّيها، وإلى الهزائم فَيُسَمِّيها.” .. ولماذا المسرح هو فن الحقيقة بامتياز؟ لان: “لا خُدَع سينمائية في المسرح يمكنُها أَنْ تُمجِّدَ الحرُوبَ، وتُضَخِّمَ البُطُولاتِ الكاذِبَة. على العكس، يَعْتني المسرح بمَعْطُوبي الحروب، وبالمهزومين والمظلومين والمَكْلُومين. ويُعطِي الصوتَ لِمَنْ لا صَوْتَ له، وينْتَصرُ للجنون الذي يَقُولُ الحِكْمةَ وينْطِقُ بالمَوْعظةِ الحَسنَة.”

ولان ظاهرة مسرح المناسبات الدينية او السياسية قد استشرت في اكثر من دولة عربية, نفت جبران استحالة استمرار هذه الظاهرة ونواياها المؤقتة التي تعمل ضد خطاب المسرح ورسالته الانسانية ونصت بالقول: “.. فلا مجال لمسْرَح المناسبات والمواسم. لقد كان مسرحُنا العَرَبي الحقيقي ثورياً قبل الثوراتِ العَرَبية الجديدة. ولا شَكَّ أنه كان مصدراً من مصادر وَعْيِها، فَسَبقَ الثَّوْرةَ إِلى فِكْرَتِها.”

وبمقابل ان المسرح هو فن الحقائق بامتياز دائما, تشير جبران الى انه هو فن الشك ايضا .. لانه يعبر ايضا عن الشك بامتياز ايضا, لا الشك العابر .. بل الشك الذي يوقظ الوعي ويوقظ السؤال.

وحتى اصبح ( المسرح قلب المدينة النابض ) عام 2014 وهو عنوان رسالة اليوم العربي للمسرح جاءت بقلم الدكتور سلطان بن محمد القاسمي .. وقد قرأها يوم 10/1/2014م على قاعة مسرح قصر الثقافة في الشارقة .. وهي الرسالة السابعة والاخيرة في كتابنا هذا لكنها ليست الرسالة الاخيرة مستقبلا , لاننا بانتظار القادم والجديد دائما طالما هناك من هو ينتمي باخلاص وحب الى هذا الفضاء الرحب والمقدس والشريف ( المسرح ) .

جاء في مقدمة رسالة القاسمي ما نصه : ” المسرح ميدان رائع للتعبير عما تزخر به الحياة الاجتماعية من اذواق العصر والافكار والطموحات الجديدة . ” … ثم يستدرج مباشرة الى ما مر به واقعنا العربي من ابتلاء بما يسمى الربيع العربي معيبا على الحكومات العربية التي لم تسع ” الى استخدام المسرح لتربية الراي العام لان تلك الوسيلة قد استهلكت بسوء استغلالها واصبحت غير مجدية ” .. لكن الشارقة اصبحت ومنذ مدة ليست بالقصيرة تسعى لتعزيز هدفين مهمين هما : ( احتفالي ) و ( تربوي ) وما بين الاحتفال والتربية يكون المسرح ويكون الفكر الخلاق .. فيقول :

فالاعياد تمجد مدة يوم حدثا تاريخيا قريبا او بعيدا , اما المسرح فانه يعكس الاحتفال ويمدد اثاره في ربوع البلاد . وتدل المسرحيات على هذا الهدف المزدوج باحداث تاريخية واحداث وطنية وتسليات وطنية وارتجالات شعرية ولوحات فنية . ”

   ويختم القاسمي رسالته بدعوة مدوية لجميع اهل المسرح العربي ان : ” تعالوا معنا لنجعل المسرح مدرسة للاخلاق و الحرية ” … و ما احوجنا فعلا اليوم الى اخلاق مسرحية نستنهضها مجددا او نقوم المعوج منها لان المتربصين وعدد من الطارئين يرديون اخماد وتمييع هذه الاخلاق هدفا بموت مسرحنا العربي .. و ما احوجنا فعلا اليوم الى تعزيز مفهوم الحرية مسرحيا لنمد من خلالها الاواصر المفاهيمية لحياتنا الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية والحفر عموديا لحرية خلاقة تنسجم وتاريخنا العربي بوصفه الموروث و الارث و التراث الحضاري والثقافي الذي نفخر به اليوم ومستقبلا .

   وتجلت رسالة الفنان المسرحي يوسف عيدابي ليوم المسرح العربي عام 2015 في دعوته الى الاستيقاظ في زمن الغفلة والموت ، كاشفا عيدابي هنا عن معاناة الشعب السوداني وسعيهم التاريخي المعاصر من اجل مجتمع متماسك واحد ، لكن هيهات وسط هذه الانفلاتات التحزبية المنشطرة والمفككة التي من شانها تزايد القلق والخوف والاضطراب حاليا ومستقبلا ، فكان عيدابي ان دعا لمسرح جاد وفكري جماهيري من اجل بلاده وناسها ، فيقول : ” لا نريد مسرحاً للنخبة أو لفئة قليلة في بلداننا التي ترزح تحت نير الحروب والجوع والفقر والمرض.  في مثل بلادي الكليلة العليلة الممزقة، المقطوع شطرها – الغابة جنوباً، والمنفصل شقها – الصحراء شمالاً، لا نريد للمسرح إلا أن يكون إداةً  إجتماعيةٍ ووسيلة للمقاومة والكفاح ضد التفرقةِ والاحتراب.  على المسرح أن يكون في مناطق النزاع والشقاق، وفي أماكن العلم والتنمية، فرصةً للتسامح والتعايش والحوار؛ بل ولتقريب شقة الخلاف والاختلاف ”

   كذلك يكشف الكاتب عن الظروف المجتمعية المضطربة وماذا يتحتم على المسرح ان ياخذ دوره لكي يكون طليعيا ومستيقظا ، ” فيا أهل المسرح استيقظوا ” .

   ومن فلسطين ياتي صوت مسرحي مائز في معاناته ومعانات بلاده ، هو الفنان زيناتي قدسيه ليكتب رسالة المسرح العربي لعام 2016 ، تحت عنوان مائز هو الاخر هو ( لم يعد امامنا خيارات ولانملك رفاهية الوقت ) وهو يتحدث في رسالته مع المتمسكين بصناعة الجمال ، ضد المتهافتون ، لا المتهافتين الى صناعة القبح ، ثم يغور للكشف عن فلسطينيته المائزة وتجربته عبر اكثر من اربعين سنة في سوريا فادرك ان المسرح ينبغي ان يكون حرا اولا ومقاوما ثانيا فيقول : ” مسرح جديد حر و مقاوم, بدأت إشاراته الأولى تتبدى منذ عشر سنوات.. حرٌ مقاوم.. لأن المسرح بطبيعته حُرّ, و منذ نشأته الأولى كان مقاوماً, و قدم آلافاً من العروض المسرحية المقاومة بمعناها الحرفي, مقاومة المحتل, الغازي, العدو, المستعمر, و في كل دول العالم هناك دائماً حضور لافت للمسرح المقاوم و إن اختلفت أساليب التعبير عن روح المقاومة من مسرح لآخر. و ما دام هناك فاشيون و ديكتاتوريون, و قابليات لنشوب حروب ثنائية أو كونية, و ما دام على الأرض أربابٌ يتمسكون بربوبيتهم و يعملون على تخريب العالم و تدمير أمنه عبر التاريخ, و ما دامت الآفة الإنسانية الماثلة أمامنا و المتمثلة في البعض الذي يرى العالم أضيق من أن يتسع له و للآخرين, و يريد أن يعيش وحده جاعلاً نهج حياته: “هذا كله لي”.. ما دام كل هؤلاء يعبثون بحياتنا و مصائرنا, فإن المسرح المقاوم يبقى حيَّاً و يعبر عن حرية الإنسان و الشعوب و ثقافاتها ”

   نعم ” المسرح قضية كبرى وتحتاج رجالا على مقاساتها ” وهكذا اثبت قدسيه انه رجل مسرح بحق عبر تاريخه الحر فنيا والمقاوم سياسيا ، لانه اكد في رسالته هذه على ضرورة الثقافة المجتمعية لانها السلاح الاوحد ضد التجهيل المدروس والمخطط له من قبل الاخر ، الثقافة هي الباقية كمصد مواجه وخلاق ضد القبح ، الثقافة في ” مواجهة القبح بالجمال والياس بالامل . ” خاتما رسالته : ” هذه الخشبة ابتلعت كل العمر.. خمسون عاماً بالتمام و لا كمال.. أرى كل شيء كما لو كان البارحة أو اليوم.. و كل شيء كان لها.. للتي غنيتُ لها كُل هذا العمر.. و سأظل أغني مع الذين غنوا لها, و الذين سيشاركوننا الغناء.. مثلما كان.. و ما سيكون.. إلى أن تكون.. حبيبتي التي ستبقى تمتلك السماء.. هي وحدها لها قلبي, هي وحدها تفتح روحي لما لا يمكن سمعُه, هي وحدها و العجائب تندهش إذا مرَّت, هي وحدها, و سيبقى الشرف الإنساني مثلوماً إلى أن تخرج من الجحيم إلى رحاب الحرية, و نتوجها درَّة لتاج العالم.. عالم متجدد أكثر حرية, عالم يقف الناس جميعاً فيه أخوةً متحابين, يطبعون سيوفَهم سِككاً, و رماحَهُم مناجل.. لا ترفع أمةٌ على أمةٍ سيفاً.. و لا يتعلمون الحرب.. فيما بعد. ” 

   ومن الاردن ياتي صوت الفنان حاتم السيد ليكتب رسالة يوم المسرح العربي لعام 2017 ، مبتدئا باثارة الاسئلة ومواجهة الحقائق ، كيف يمكن لنا صناعة البهجة وسط الدمار ، واضعا عددا من التساؤلات مستثمرا كلمة ( كيف ؟ ) وتكرارها باحثا عن الاجابات ، ” حين يحضُرُ المسرحُ يحضُرُ الحلمُ، وحين يكبُر المسرحُ يكبرُ الحلمُ وتستقيمُ الحياة، فلماذا لم تكبُرْ أحلامُنا مع المسرحِ رغمَ اتساعِها، ولماذا لم تستقمْ حياتُنا رغمَ كَثرةِ خشباتِنا؟

سؤالٌ بحجمِ الأمة التي ما تزالُ تبحثُ عن خشبةٍ يعُمُّ عليها السلام، فسلامٌ لكم، وسلامٌ عليكم، وسلامٌ على الله الذي غيّبناه لنحلَّ مكانَه..

كبيرةٌ أسئلتُنا، وكبيرةٌ أحلامُنا، وكبيرةٌ قضايانا، لن تقفَ عليها كلمةٌ مقتضَبةٌ كهذه، لكنّكم مَن يُحصيها عدداً، ويعيها وعياً، ويعيدُ إنتاجَها لتكونَ نهجاً، ليس لنا فقط، وإنّما لأمةٍ نريدُ أن ندرّبَ أبناءَها ليقفوا على بواباتِ المسارحِ ليشاهدوا كيفَ تكونُ الحياة ” .. ليكشف بعد ذلك ان مسرحنا مسرح حياة ، لا موت ، مسرح من اجل الانسان وانسانيته التي ينبغي ان تسود وتنتصر ضد قانون الغاب والمافيات والزعامات التي تعمل لمصالحيتها حسب ، لنجد انفسنا امام اسئلة جديدة اخرى اكثر مرارة من سابقتها :  

”  كيفَ لنا كفنانين ومثقفين أن نقفَ في وجهِ هؤلاءِ الأوصياءِ على الحياةِ.. هؤلاءِ الذين ينْصُبون أنفسَهم مكانَ الله، يحلّلون ويحرّمون والأمةُ تنقسِمُ عليهِم وبسببِهم؟

كيف لنا كفنانين ومثقفين أن نجعلَ الأمةَ تلتقي على الأفكارِ الكبيرة والأحلامِ العظيمة، لا أن تنقسمَ على السفاهةِ والانحطاط؟

 

كيف لنا كفنانين ومثقفين أن نربأَ بأنفسِنا أن نكونَ أبواقاً لأفكارٍ قميئةٍ تدعونا للاصطفافِ خلفَها دونَ الوعيِ بها؟

كيف يمكنُنا أن نقبلَ الآخَرَ، وأن نطلبَ من الآخرِ القَبولَ بنا، إذا لم نقدّمْ ما هو إنسانيٌّ جمعيٌّ يسمو فوقَ كلِّ أنانية؟

كيف لنا أن نصنعَ منَ المسرحِ حريةً للنفْس، وحريةً للفكر، وحريةً للخيال، وحريةً للحلم.. نعم؛ أحلُمُ كما أشاء، أحلُمُ كما أشاء لا كما تشاءُ لي.. ” .. وكيف وكيف ؟؟ فالمسرح في النهاية هو رحلة الاصرار والعزيمة والمعاناة .

   ( نريد ان نقفل مخافر الشرطة في عقول المبدعين ) بهذا العنوان المثير والمستفز حقا ، تاتينا رسالة الفنان المسرحي فرحان بلبل عام 2018 ، ليوم المسرح العربي ، يشرح فيها بلبل رحلته المسرحية لاكثر من اربعين عاما ، قضاها عبر تجارب نظرية وعملية ومشاهدات وتجوالات سورية وعربية متنوعة ليسال بعد كل هذا : ” هل المسرح العربي المعاصر بخير ؟ ” لينتهي سريعا  الى اجابة مفادها : لا ” المسرح العربي ليس بخير ” وسبب ذلك يعود الى الازمات والويلات والسياسات المتوالية على الشعوب العربية وتقييد الحريات الفكرية والسياسية والدينية  ، لكن الفنان المسرحي استطاع ان يكون ماكرا في الالتفاف – مثلا – على تقييد حريته الفنية والابداعية ليقدم اعماله ويمررها على جهل الرقيب بحيثيات العمل الفني وترميزاته المشفرة .. فيقول عن المسرح العربي : ” لكنه منذ أواخر القرن العشرين حتى اليوم صار مضطرباً ضائعاً لا يعرف ماذا يجب أن يقول. ويتخبط في أشكاله  فلا يعرف كيف يتقنها. وهذا ما جعله عاجزاً عن تأدية مهمته الاجتماعية والفنية والجمالية التي كان يقوم بها. وعجزُه هذا جعل جمهوره منفضاً عنه. فلم يعد يحظى اليوم إلا بنخبة ثقافية أو شبه ثقافية دون أن يحظى بجماهيرية واسعة كانت له في الكثير من مراحله ”

    ثم يسوغ واقع حال المسرح السوري ومقاربته مع واقع المسرح العربي عامة بقوله :

    ”  … واضطراب المسرح العربي اليوم وضياعه نتيجة حتمية لأوضاع الوطن العربي الذي يعيش اليوم تمزقاً في بعض أقطاره، وتحمحماً مكبوحاً برغبة التغيير الاجتماعي في بعض أقطاره، وضبابيةً في النظرة إلى المستقبل في كل أقطاره. ولعل المسرح السوري اليوم يشكل النموذج الأوضح لكل الاضطراب الناتج عن التمزق. فهو متوقف في بعض مدنه. وهو ضعيف في بعض مدنه. وهو مكبوح مقيد في كل مدنه. فيكاد يكون ممسوح الملامح في تلك الأرض التي دفعت بالمسرح العربي من قبل خطوات إلى الأمام. ”

   وفي عام 2019  تم اختيار شخصية مسرحية جزائرية لكتابة رسالة المسرح العربي وهو الفنان سيد احمد اكومي ، فكتبها تحت عنوان ( المسرح الذي أريد ) موضحا فيها كيف جاء الى المسرح ؟ لانه ادرك منذ بواكير عمره ، بان الخيال يستطيع تغيير الواقع ، ليستعرض بعد ذلك بايجاز تاريخ المسرح في الجزائر وتاثر الفنان الجزائري بالفرق المسرحية الزائرة . يقول :

” حين كان التاريخ دجلاً، أردت أن أعتلي الخشبة لأقول الحقيقة. لم يكن المسرح بالنسبة لي قناعة فكرية فقط، بل كان إيماناً يلامس الروح، كنت أحمل جمرة المسرح بغبطةِ و فرحِ من يحمل أغلى”كوهينور“(KOHINOOR) (ماسة) في العالم، المسرح عندي درب سري مدهش قادني إلى ماهيتي، إلى كينونتي الحقيقية؛ لم أكن أمثل، كلا أبداً، كنت أعيش، أعيش أسئلتي، عزلتي، حيرتي، دهشتي، تمردي، ثورتي، عذاباتي، فرحي، انسانيتي؛ كنت أنهمر على الخشبة بكل كياني و كان المسرح هو الخلاص ” .. ثم يسرد لنا ظروف مجيئه الى المسرح واختياره له طريقا حياتيا بقناعة تامة ، ولاهمية ماجاء في رسالته نقتبس الاتي : .

جئت الى المسرح حين”كان الليل يخاف من النهار”   

ذلك أن المسرح ليس بياناتٍ سياسيةً أو شعاراتٍ فارغةً أو خطبَ جوفاء

إذا أصبح المسرحي في خدمة هذا النوع من المواضيع، فما عليه، إلا مغادرة بناية المسرح و حملَ الأبواق و الاتجاه إلى مقرات الأحزاب و التجمعات السياسية، و ليعلن موته هناك.

إننا نتقاسم مع السياسيين أحيانا نفس الفضاءات و نتوجه لنفس الجمهور، ومثلهم نطمح للتأثير على المتلقي، لكن الفرق شاسع بيننا.

قد يقول البعض إن شكسبير نفسه كان يهتم بالسياسة، هذا صحيح، لكنه لم يكن سياسيا، لقد كان فنانا مبدعا عملاقا، وتأتي إشاراته السياسية في ثنايا مسرحياته بذكاء ودهاء كبيرين، ولم تكن مسرحياته غارقة في السياسة والايدولوجيا.

يريد منا السياسيون أن نكون همزة وصل

لقد قالها لنا ذات يوم الرئيس الراحل هواري بومدين”أريدكم ان تكونوا همزة وصل بين القمة والقاعدة

عفوا أيها الحضور الكريم، المسرحي الحقيقي لا يمكن أبدا أن يكون جسراً أو بوقاً أو همزة وصل،

إنه صوت الحقيقة وضمير الأمة،عليه أن يحمل بأمانة الرسالة”ليكون رسولا و ليس عبدا مأجورا”الرسالة التي وجد من أجلها المسرح، ألا وهي خدمة قضايا الإنسان، وعليه أن يجعل أي فضاء يتحرك فيه حدثاً مسرحيا يشجع على التفكير والمساءلة و النقد “

   ومن البحرين يكتب لنا الفنان خليفة العريفي رسالة المسرح العربي لعام 2020 تحت عنوان (النص المسرحي بين الصوت والصورة) ، شارحا بدايات المسرح كونه ( كلمة ) اولا ، بعدها يمر العريفي بتحولات المسرح تاريخيا بين الكلمة والصوت والحركة وتفعيل دور المخرج بعد ذلك ومسكه بخيوط العمل المسرحي ، وصولا الى تنظيرات ستانسلافسكي ومايرهولد وارتو وتطبيقاتهم الادائية وكذا الحال مع كروتوفسكي ليصل اخيرا الى الصورة في المسرح ، وزمن الصورة في كل اللوائح الفنية والاعلامية الجديدة .. فيقول :  ”  المسرح العربي اليوم أيضا معني بالصورة. بل إنه يجب أن يعنى بالصورة، حتى يواكب تراكم التطورات في المسرح العالمي. وما دام المخرجون الذين يمتلكون الرؤية الفنية والفلسفية والجمالية، قادرين على تحويل قصيدة للمتنبي مثلا إلى صورة مسرحية جاذبة، فهذا يعني أن المسرح مسرح مخرجين، أكرر مسرح مخرجين، أين إذن الكاتب المسرحي الحديث؟ هل جدير بالمؤلفين أن يكتبوا نصوصا للصورة؟ برأيي نعم، هل هذه دعوة إلى تحويل النص المسرحي التقليدي إلى سيناريو مسرحي؟؟ أسوة بسيناريو الدراما التليفزيونية أو السينمائية. نعم إنها دعوة، دعوة للخروج من نمطية كتابة النص المسرحي التقليدي. الخروج من النمط، خطوة لتحرير الفكر المسرحي من قيد الثبات والجمود. فيا أيها المسرحيون العرب، إذا اردتم أن تطوروا المسرح العربي ليصير عالميا، فلا تقفوا عند الأمس، لا تقفوا عند اليوم، بل إذهبوا إلى ما بعد الغد. لتطوروا المسرح العربي إذهبوا إلى ما بعد الغد. ”

   وتاني رسالة الكاتب المسرحي الاماراتي الاستاذ اسماعيل عبد الله ، ليوم المسرح العربي لعام 2021 وهي تستعرض لنا بدايات التأسيس لبيتنا المسرحي العربي ( الهيئة العربية للمسرح ) منذ عام 2008 مع شرح موجز لاستراتيجيات عملها وتوسعاته سنويا وتنسيقاته العربية المستمرة ، مع طرح لكثير من الاسئلة الموجبة والمنبعثة من خبرة ودراية بواقع حال مسرحنا العربي في كل حدب وصوب . مساءلة انفسنا ، عن ماضينا وحاضرنا وعن مستقبلنا ، وعن كيفية ترويض النفس ونضالها من اجل فعل ما ينبغي فعله وتقديمه .. ولقد توقفت الرسالة عند محطات عديدة منها : 1- كارثة كورونا ، وكيف اماتت الفعل المسرحي المباشر والحي ، برغم وجود بائل لكنها كانت مؤقتة وعلى عجالة ،  2- المسرح المدرسي واهمية تفعيل مناهجه الدراسية في التربية المدرسية وفي جميع المراحل الدراسية . 3- التاكيد على حرية عمل الفنان ، فلا مسرح بدون حرية . ولاهمية ماجاء في متن الرسالة نقتبس منها الاتي :

” لنجعلْ هذا اليوم وقفة سنوية لزحزحة السؤال من خانة المخاتلة إلى سطوع المكاشفة، فنحن جميعاً في دوام الحاجة للسؤال المستأنف والذي يدق جدران الخزان، السؤال الذي نطرحه على أنفسنا هيئة وعلى المسرحيين مؤسسات وافراداً، إذ أن الهم واحد والحلم واحد والأمل واحد.

علينا كمسرحيين أن نتحلى بجرأة الأبطال التراجيديين في إقصاء سطوة القوى الغيبية لنرش الملح على جراح الواقع، ليزأر الجرح بصدى الجواب.

علينا أن ندحر المستكين لنكتب بسكين الحقيقة على خشب مراكبنا التي تترنح وسط أمواج هذا العالم الصاخب المنكر لقيم الحق والخير والجمال، علينا أن نقلقه بالسؤال، ونغيره بالجمال، علينا أن نقتله بالمعرفة، علينا أن نمحو اسلاكه الشائكة بورد يتعمشقه فيرده سياجاً للبهجة.

يظل المسرح فنَ السؤال والمشاكسة والمشاغبة التي تفضي للكشف، خاصة وقد وجدنا أنفسنا وسط معطيات الاضطراب والتوتر والفراغ المقلق الحافل بالأعراض المرضية المميتة أو المخيفة، وهي الحالة التي تشهد فقدان التوازن أو السقوط في الفراغ والغياب بين مرحلتين، فتضطرب كل المنظومات وتبرز اختلالات مرضية توصف بـ «أزمة ناجمة عن حقيقة أن القديم يعاني من سكرات الموت، لكن الجديد لم يولد بعد”، فهل سنتحول لعرافات تسوِّق المومياوات وتنصبها مرشدات للأحياء؟ أم نتحول إلى سياف فاقد للبصر والبصيرة وحس الرحمة ونقتلَ الولادات الخدجَ ونستكين لأجراس العرافات؟ مصاصو الدماء الذين يحولون الدم والأحلام إلى أوراق بنكنوت في خزائنهم ويَمْهَرُونَ في صناعة السلاح يخاتلوننا بملمس ناعم للبندقية وأدخنة ملونة للقنابل حتى لنخالها مدعاة للفرح، فيما تقوم هي بدور ملاك الموت وحفار القبور وصاحب العزاء معاً، المرحلة لا تحتمل المخاتلة

علينا أن نشاغب المستتب من المعارف، أن نتوقف عن استهلاك ذات النظريات، أن نساهم في مسائلة العلوم، أن ننقد نقدنا، أن نضع منهاجاً جديداً لأكاديمياتنا؟ هل ما زلنا مُسَلِمِيْنَ بأننا نبت شيطاني لم يساهم في نشأة المسرح؟ وهل ما زلنا نتصرف مثل طالب يُقِرُ بنظريةٍ خاطئة حتى لا يخسر علامة النجاح؟

هل توقفنا عن استنساخ النظريات والتطبيقات والأشكال والمضامين؟ هل صرنا شركاء في تفكيكها وإعادة إنتاجها؟

هل قرأنا الفلسفة والحكمة التي أسست لحضاراتنا وحضارات الآخرين بغية أن يظهر أثرها فينا؟

علينا أن نسلح أبنائنا بالمسرح ليكونوا أصحاء يؤمنون بالحوار ويدركوا بالخيال ما وراء المشهد العام ويحللوا بالمنطق أحداث الزمن الذي يعيشون ؟

في العاشر من يناير اليوم العربي للمسرح، ندعوكم لنكون معاً فلن ننجو فرادى من هذا الطوفان، في اليوم العربي للمسرح، نهتف معاً عشتم وعاش المسرح إكليل غار على رأس كل مريديه، في اليوم العربي للمسرح نواجه سؤال نكون أولا نكون.. برد واحد “نكون”. ”

   وتاتي رسالة هذا العام 2022 م وهي الرسالة الخامسة عشر في يوم المسرح العربي ، وقد تم التكليف بكتابتها الفنان اللبناني الاستاذ رفيق علي احمد ، وقد وضعها تحت عنوان ( الحياة مسرح .. المسرح حياة ) ،  وقد اثراها صاحبها بمواضيع عديدة منها : 1- تفاعل الثقافات والحوار وان المسرح خير فضاء لذلك التحاور . 2- التوصيات التي نشهدها في كل مهرجان او مؤتمر مسرحي فمنذ اربعين سنة هي نفسها والى اليوم ، لا شيء تغير منها ، اذ لاشيء تحقق منها . 3- السبب في ابتعاد الناس عن المسرح ؟ الفنان ام الجمهور ؟ 4- غياب المسرح في التربية المدرسية  5- الرقابة افة ضد عمل المسرح والعاملين فيه  6- ضعف الامكانيات المادية على طول الخط وفي جميع بلداننا العربية 7- الحرية في المسرح هي انتصار للحياة وللمسرح . ومما جاء في الرسالة :

” وفي زمنٍ جعلته القوى المُهيمِنة زمنَ صراعِ الحضارات، تغدو تلك الحاجة (إلى المسرح) ملحة أكثر، لأن عالمنا يتعرض إلى عملية تدمير ممنهجة من خلال فرض ثقافة وحيدة سائدة تحت شعار عولمة متوحشة، جعلت الكوكب كله بمثابة “سوبر ماركت” هائلاً، والإنسان مجردَ زبون تقاس قيمته بقوته الشرائية لا بقوته الفكرية والإبداعية. وفي ظلّ هذا الواقع الذي تَسَلَّعَ فيه كلُّ شيء، يقف المسرح المنفتح على الفنون جميعها، والقادر على الاستفادة من العلوم جميعها، يقف في خط المواجهة الأمامي، لأنه لا يستطيع أبداً التخلي عن القيم الإنسانية الفكرية والروحية والمعنوية التي تشكّل جوهر وجوده وسرّ استمراره عبر الزمن

سوى التساؤل عن أسباب استمرار غياب التربية الفنية والمسرحية عن مناهجنا الدراسية اللهم إلا قلّة منها؟ والتمادي في تهميش المسرح وتجاهله من قبل العديد من وزارات الثقافة في بلداننا العربية، وعدم دعمها للأعمال المسرحية الجادة والمجددة بذريعة شحّ الميزانية ونقص الإمكانيات، فيما نلاحظ كيف تُصرَف الأموال الطائلة على أمور سطحية واستهلاكية تافهة، وكأن الأمم والشعوب تنهض وتتقدّم بلا آدابها وفنونها وفي مقدمها المسرح!

   أما الطامة الكبرى والدائمة فهي الرقابة المستمرة على الإبداع المسرحي، وهي رقابة برؤوس متعددة مثل كائن خرافي: رقابة رجال السياسة ورجال الدين ورجال الأمن وسواهم من “رجال” يقفون سداً منيعاً في مواجهة رجل واحد، هو رجل المسرح أينما كان في هذه المدينة أو تلك، على هذه الخشبة أو سواها، ويضعون الحواجز والعثرات في طريقه. وإذا كان مَن يراقب الناس يموت همّاً، فإن الرقابة على الإبداع هي الموت نفسه، وهي ألد أعداء الفعل المسرحي. لأن الإبداع صنو الحرية. لا إبداع بلا حرية، لا مسرح، ولا حياة. ” .

mh_habeeb@yahoo.com

 

  

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش