قراءة إخراجية لعرض “الملك لير” للمخرج السويدي الكبير إنغمار بيرغمان – د. فاضل الجاف 

قراءة إخراجية لعرض “الملك لير” للمخرج السويدي الكبير إنغمار بيرغمان

كان عرض مسرحية الملك لير عام 1983 أول عمل إخراجي شاهدته للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان، كنت قبل ذلك شاهدت بعضا من أفلامه، وكمعظم الناس كنت اتصوره قبل مجيئي إلى السويد مخرجا سينمائيا فحسب، مما زاد من رغبتي وحماستي لمشاهدة الملك لير على الخشبة الكبرى في المسرح الملكي.

أعدت ترجمة جديدة لملك لير، قامت بها بريت هالكفيست خصيصا لعرض المسرحية على المسرح الملكي، وكان طلب بيرغمان من المترجمة، أن يكون النص المترجم” صالحا للتمثيل، سهل الإلقاء، على أن يكون فوق كل هذا مفهوما” من مقدمة بيرغمان للترجمة الجديدة.

حذف بيرغمان من النص ما يقارب أكثر من ربعه، وغيَر أيضا تسلسل بعض المشاهد وأعاد ترتيبها من جديد، وقام أيضا بتغيير بعض الإحالات الى الزمان والمكان في النص الأصلي.

وقد قام المسرح الملكي بتوزيع الترجمة الجديدة مع دليل العرض، كانت تلك تجربة جديدة بالنسبة لي، حيث أحتوى النص إشارات تحت السطور التي تم حذفها بخط غامق.

جرى العرض الإفتتاحي في التاسع من شهر آذار، وقد تيسرت لي مشاهدة العرض في الخريف من العام نفسه.

بداية كنت أتساءل: لماذا أختار بيرغمان الملك لير كأول عمل مسرحي له بعد عودته من المنفى (ألمانيا) الذي استغرق ثمان سنوات؟ وكان خلاله يعمل مخرجا في مسرح ريسدينت تياتر بمدينة ميونيخ.

ذكر بيرغمان في اللقاء الصحفي قبل العرض، كنت ٲفكر في إخراج مسرحية للجمهور، بشخصيات معدودة، ونص غير طويل، مسرحية سهلة التنفيذ، على أني قرأت مسرحية الملك لير مصادفة.

 وعن سؤال طرحه عليه أحد الصحفيين: هل اخترت المسرحية لأنها تعبير عن نفسك؟

يرد بيرغمان ضاحكا: إنه غوته الذي قال في أعماق كل رجل متقدم في السن ثمة ملك لير. ليس أنا.

ولكن ليس الأمر بهذه السهولة، فالملك لير مسرحية صعبة، وهي تشكّل تحديّا للمخرج المحترف المبدع. وقد أختار بيرغمان ترجمة جديدة لنص شكسبير الذى ثمنّه بيرغمان وفضله على الترجمات القديمة.

عاد بيرغمان للعمل مع مصممة السينوغرافيا غونيلا فايس (زوجة الكاتب المسرحي بيتر فايس)، التي صممت السينوغرافيا والملابس، مجسّدة بنية النص الداخلية وأحداثه الجوهرية بمفردات معبّرة، مراعية بذلك سرعة تغيير المشاهد وديناميكة حركة الممثلين. فمنذ المشهد الأول یتبين لنا أن المصممة لا تعرض لنا عالما نمطيا (كليشيا) لمسرحيات شكسبير، كما جرت العادة في عروض الويست إند وبرودواي مثلا، إنما تجسد عالم الملك لير كمنظومة وبنيان مسرحي يعبّر عما هو جوهري بمفردات وٲدوات منتقاة وموظفة بدقة متناهية.

لعل أجمل وأفضل ما في تصميم فايس، كان سرعة تغيير المشاهد وسهولة إنتقال الحدث من مشهد إلى آخر بصورة خاطفة، وكان هذا يتجسد بوضوح في  إنتقال مشهد القصر إلى مشهد العاصفة، حيث الملك فاقد البصر يتخبط وهو يعاني أشد العذاب.

البساطة في الديكور والإعتماد على الفضاء الخالي كمساحة دينامية للعب وحضور الممثلين وخروجهم والأداء المقتصد على السجادة الحمراء، خدم العرض في معظم مشاهد المسرحية، بإستثناء مشهد العاصفة ذي الأهمية البالغة في المسرحية بامطاره وعواصفه على أرضية من السجاد الأحمر.

كان تأكيد المخرج على مبدأ التمسرح واضحا في إظهار الطابع الفرجوي للعرض منذ المشهد الإستهلالي، فالمخرج أستهل العرض بحركة دائبة معبّرة للمجاميع على المسرح، فالمشهد الإستهلالي حملّ في طياته إشارات وإيحاءات واضحة بإننا بصدد عرض مسرحي يتخذ من التمسرح إسلوبا، ويتجلى ذلك من خلال أداء المجاميع المتمثلة بجموع الجند المدجّجين بالسلاح، ومن خلال شتى المجاميع المتحركة على المسرح بإستمرار.

 ويشكّل التمثيل الصامت” بانتوميم” والرقص وحركات الكورس التعبيرية، في معظم المشاهد خلفيات تصويرية أو تأكيدية لما يجري في المشهد، وفي أحيان أخرى كان أفراد المجموعة يحلون محل الديكور والأثاث، فمثلا بدلا عن إحضار مقعد للجلوس، كان أحد أفراد المجموعة يتخذ هيئة كرسي ليجلس الممثل على ظهره.

 إبتعد المخرج عن إتباع الأساليب التقليدية والنمطية (الكليشهات) المألوفة في إخراج شكسبير لتصوير ما كان يجري في العهد الإلزابيثي.

شكّل الفضاء الخالي، على شكل نصف دائرة مغطاة بسجاد وثير أحمر اللون فضاء اللعب الرئيس. كانت الجدارن مغطاة باللون الأحمر أيضا ومعظم الشخصيات ماثلة على المسرح طوال مدة العرض، مما سهّل دخول وخروج الشخصيات بيسر وإنسيابية. حتى الشخصيات غير المشاركة في المشهد تيسّر لها البقاء كظلال مجسّمة في الخلفية المظلمة للمسرح، وأحيانا كان الممثل يختفي ويظهر خلال تلك الفجوة المظلمة الواقعة خلف عوارض قائمة في خلفية المسرح. وعلى الجهة المقابلة، أي من جهة النظارة، مدت مقدمة المسرح، أي لسان الخشبة نحو الجمهور، فيما يشبه مسرح غلوب ثيتر الإليزانيثي، وذلك بهدف خلق علاقة أكثر حميمية مع النظارة. السينوغيرافيا لم تتغير، حيث بقي المنظرثابتا خلال العرض برمته.

 التركيب الإجمالي للمشهدية في عرض لير، كان على النحو التالي: كان رجال ستة واقفين في ملابس سوداء، وهم يواجهون خلفية المسرح وظهوهم للصالة، هؤلاء كانوا يمثلون الجنود، أما بقية الممثلين الذي جسّدوا شتى شخصيات المسرحية فقد ظهروا في أزياء بلون أحمر. هؤلاء كانوا يمثلون في مناطق مختلفه من فضاء المسرح، فالرجال الستة بالإضافة الى أدوارهم كجنود و كرمز للبلاط والسلطة، كانوا وكأنهم يشكّلون جدارا رمزيا أو أطارا يحدد المشهد الفعلي. في هذا الفضاء نتملس إلى جانب الدراما والتدراجيديا، تهريج المهرجين وألعاب اللاعبين وٳستعراضات المهرجين. لا شك ٲن بيرغمان ٲستلهم هذا المشهد الحيوي من شخصية مهرج الملك في المسرحية، الذي يحضر وسط كل هذا ليؤدي دورا بالتهريج والغناء.

بإستثناء فضاء اللعب الرئيس في وسط المسرح وخلفية المسرح باللون الأحمر، كان اللون الأسود يكسو المسرح، فالمصصة غونيلا فايس أكدت على التعارض والتناقض باستخدام اللونين الأحمر والأسود في الديكور والفضاء والأزياء، وهما اللونان المفضلان لبيرغمان في عروضه المقبلة من مسرحيات شكسبير، وهو كما يرى، أن اللونين الأحمر والأسود هما أفضل لونين للتعبير عن السلطة وسيادة القوة والسيطرة.

الازياء في لير، كانت توحي بطابع القرن السادس عشر وبعصر النهضة، وكان اللون البرتقالي طاغيا في ملابس لير وأسرته، بينما ظهرت المجاميع، خصوصا الجنود والحراس بخوذ تشبه الخوذ الرومانية، وبملابس عسكرية ذات كتافيات توحي بالضخامة والبأس الشديد، كل ذلك بلون الأسود الغامق.

في ختام المسرحية، يبتكر بيرغمان مشهدا إضافيا على المشهد الأخير، فبعد موت لير وحمل جثته إلى الخارج، تندفع المجموعة في طقس مفعم بالحيوية والحركة لحمل جثة لير الى خارج المسرح، يعقب هذا المشهد، مشهد آخر من ابتكار المخرج، وفيه تجري مبارزة بين الخصمين إدغار وآلباني على المسرح يفضي إلى تلاشي كل شيء على المسرح، حيث تتطاير الستائر الحمراء التي تغّلف المسرح وكأن المشهد أنفجر بغتة ليتحول كل شئ إلى لاشيْ وليبدو المسرح عاريا إلا من التاج المتبقي والقائم في الوسط.

مثّل دور لير الممثل القدير يارل كوله، وقد برع في تمثيل دوره كملك في قمة المجد والسلطة، والمعروف عن دور لير صعوبة التحوّل من كون لير ملكا إلى كونه عجوزا خائر القوى يهوي إلى الحضيض، فتحوّل من مثل هذا النوع هو الرهان الأصعب للممثل الذي يمثل شخصية لير، وفي عرض بيرغمان كان يارل كوله ممثلا بارعا، لاسيما بصوته وإلقائة القوي المتنوع، لكن البراعة خانته في تجسيده شخصية لير وهو في أوجّ جنونه، حتى أن سمات المبالغة والمغالاة كانت بادية في أدائه هذا الجزء من الدور. وبشكل عام، لم يخرج طابع أداء يارل كوله عن النمطية المألوفة في تشخيص الملوك،  وعن نمط الملك لير الذي تكرر في العديد من العروض التقليدية، مما خلق تعارضا في وحدة إسلوب عرض المسرحية، تعارضا بدى ناصعا بين أداء كوله التقليدي والأداء الممسرح المؤسلب للمجموعة، في حين أن الممثل يان أولوف ستراندبرغ الذي مثلَ دور المهرج،  بدا اداءه أكثر انسجاما مع الطابع الفرجوي للعرض، وقد عرض ستراندبرغ دوره التهريجي دون المبالغة في محاولة الإضحاك، وكأنه ليس مهرجا، بل هو يقول الحقائق المؤلمة و الحكم الجوهرية ببساطة وتلقائية، خصوصا عندما يقول للملك لير: ما كان ينبغي أن تشيخ كثيرا، قبل أن تصبح حكيما جدا. باختصار أجاد ستراندبرغ في تجسيد دور كوميدي دون أن يحاول أن يكون مضحكا، فمنذ حضوره الأول كان يوحي بأنه ليس ممثلا كوميديا.

أما بخصوص بنات لير فقد ركز عليهن بيرغمان تركيزا أشد من تركيزه على شخصية لير، وعليه فقد كان أداء شخصيات البنات والشخصيات الشريرة أكثر قوة من شخصية لير.

وعموما كان تركيز بيرغمان على مشاهد المجاميع بحركاتها الدائبة على الخشبة وحيويتها المتواصلة كمشاهد بصرية آسرة استحوذ على انتباه الجمهور بالدرجة الأولى، مما أثرت سلبا على النص المنطوق أحيانا، خصوصا في المنولوجات الطويلة، وقد بلغ التأثير السلبي لهذا الأسلوب أوجّها في مشهد العاصفة، الذي ورد ذكره.

 ومهما يكن، فإن التأكيد الأساسي على المشاهد الجماعية من الناحية البصرية والأداء الفرجوي قلل من أهمية المشاهد الكلامية، وعليه يمكننا القول: أن

 العرض كان يعتوره شيئ من عدم الاتزان بين الأسلوبين: الفرجوي والنفسي، الحركي والشفاهي.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش