في إختزال الخاص من العام تبصرات في ( شُباك أُوفيليا) / جبّار ونّاس #العراق

في البدء
لابد من الإشارة والتنويه عن مدى تفاعل ممن حضروا لِمشاهدةِ عرض مسرحية ( شُباك أوفيليا) من تأليف جواد الأسدي وإخراج الفنان مناضل داود ومن تقديم الفرقة الوطنية للتمثيل في بغداد التابعة لدائرة السينما والمسرح ولمدة ثلاثة أيام إعتباراً من 9 / 12 / 2020
فثمة ما يدعو لِأنْ نتأملَ في مساحة الأسباب التي شكلتْ المزاج الذي أدى بهؤلاء لِأنْ يظهروا ويعبروا عن رغباتهم في التصريح المعلن عن مدى مقبولية هذا العرض وإرتفاع مقدرات حضوره في التقويم والتناول النقدي الفاحص.
ولعل مَنْ يتبصرُ في أبجدية تلك الأسباب سيرى أنَّ هذا العرض راح يُراهنُ على إستعادة تلك النمطية التي ترى في إستحضار بعض من هيكلية العروض المسرحية وهي تقوم على طرازية كانتْ تُعدُ السياقَ الأولى القائم على الإنضباط في الإخراج والأداء في الحوار والتوائم الجسدي والإنفعال الداخلي المحكم بإنسيابية وبحسب ما يتطلبه الإشتغال الفني داخل منظومة العرض المسرحي ويُضاف إلى ذلك أنَّ هذا العرض راهن أيضا على إستحضار مؤهلات الإستجابة الفنية والجمالية التي كان يوفرها النص الشكسبيري المكتنز بموضوعات كثيرة تمس الحياة وتتحدث عن الحب والجريمة والإستحواذ والسلطة والقمع ولعل بعضاً من هذه العنونات قد أخذتْ مسارها و رحنا نشاهدها تتسلل إلى جسد هذا العرض عبر شُباك سيكون لنا شاهداً على جريمة مروعة حصلت من خلال صعود شهوات السلطة التي بطشت بالمجتمع بدم بارد فضلا عن التواصل مع سبب آخر يرجعُ إلى رهان إخراجي كان يتبنى فرضية المكان المحكم والتي جعلتْ من المتفرجين وكأنهم مرغمون عنوةً على الدخول الفعلي مع مقدرات ما كانت تطمح إليه تلك الفرضية المقترحة من قبل المخرج.
وتبدو هذه الأسباب شاخصةً بل ودافعةً إلى أنْ نتابعَ بعضاً من ردود الأفعال وهي تذهب إلى الإعلان عن مقبولية ترتكزُ على إستقرار وإستقراء داخلي في التنويه المعلن عن فعالية الأثر الذي تركه هذا العرض كما نقرأ في تصريح الفنان والمخرج المسرحي الدكتور محمد حسين حبيب حين يقول : ( ما أحوجَ مسرحَنا العراقي اليوم الى هذا الإنضباط الإخراجي العالي : في الأداء الحواري والجسدي والإنفعال الداخلي والترميز المفخخ والإيحاءات الدلالية المحتكمة الى لغة : المسرح / المسرح).
إختزالات الأسدي
 كان المؤلف جواد الأسدي في هذا النص قد عمل وفق إطروحته التي أسماها ( إطاحة هاملت) فهو يرى أنَّ هاملت شكسبير هو مشرع أبداً أمام تفسيرات ومعالجات وإعادة نبش لما يحتويه ذلك النص من مساحات مفتوحةٍ على صعيد البناء النفسي والجمال للشخصيات الفاعلة فيه، بيد أنَّ الأسدي في ( شُباك أوفيليا) قد ذهب مع خياره الذي يتبنى المقاطعة والإزاحة بإتجاه تصور آخر لهاملت غير الذي قرأناه عند شكسبير فهاملت الأسدي صار يتزين بلباس يتواءمُ مع راهن نعيش تفاصيله ودقائق لحظاته بمرارة طافحة ومؤثرة في فعلها المثير للخيبة والخسران.
ووفق هذا التبني فإنَّ الأسدي قد إختزل هاملت من كل خصوصياته لدى شكسبير ومضى يؤطرها بخصوصية تأخذ لها أبعاداً محلية وربما كان يشير أو يلمح إلى عزلة ونكوص الفعل المثقف وكذلك هو يمضي أيضا في إيجاد :
أولا : لغة عالية وموحية تأخذ لها خصوصية الإبتعاد وعدم التشابك مع لغة شكسبير فلغة نص الأسدي بدت ملفوظة بحوارات الممثلين لتشكل واحدةً من علامات الحضور والتميز التي حظي بها هذا العرض
وثانيا : صار الأسدي يشاكس النص الشكسبيري حين أعطى مساحات من الفعل والحضور على حساب الحضور الطاغي لهاملت عند شكسبير فلم نرَ لهاملت تلك الصولات الصادمة بالحكمة والفخامة والبروز المدوي في الأذهان حين أصبح باعثا للتساؤل المثير ( نكون أو لانكون) وتلك الأسئلة الوجودية التي كانت تؤرق الأذهان في التواصل والتفاعل معها فهاملت الأسدي وجدناه يتخلى عن ذلك التصور المسبق عند القراء والمتفرجين على السواء فبدا في هذا النص سفيها وكأنه يعاني من إعتلال عقلي يتفوه بلغة تحيلنا إلى العبث واللامبالاة والعزلة فحواراته بدت مملوءةً بألفاظ فارغة تثير دهشة المتفرجين وهو محاط بروائح مكان تنز أركانه بجريمة بات المتفرجون يعيشون تفاصيلها وخيوط مصادرها عن قرب
وثالثاً : ومما يثير الإهتمام في كتابة الأسدي لهذا النص هو حالة التوازي في الحضور الفاعل لأغلب الشخصيات فلاتكاد شخصية في تفاصيل النص لم تحظَ بكامل فعلها الذي يوازي بقية الشخصيات الأخرى في الأثر والبروز .
رهان الإخراج
 ووفق عملية الإزاحة التي عمل عليها المؤلف نجد المخرج مناضل داود يتماهى بروية مع الخطوط التي رسمها باعثُ النص فبدا على المخرج لِأنْ يبدي رغبةً في التفاعل المستند على إحترافية الإشتغال الفني وتماشياً مع وصية المؤلف التي أُدْرِجَتْ في فولدر العرض حيث تنص ( أنَّ لِأي مخرج يريد التصدي لشباك أوفيليا بأنَّ هذا النص ينتظرُ الرجم والتنكيل بمعنى كسر المتوقع بحجر ضخم، وإنَّ هذا النص كُتِبَ لا لكي ينتمي إليه الأسدي ويبجله وإنما لكي يُمرغه الإخراج الجديد بالوحل المختلف الذي يجعل النص نفسه أكثرَ ألقا ونضارةً حتى لو أُطيح به كله).
ويبدو على المخرج مناضل داود أنه إلتقط من شذرات تلك الوصية فراح يؤثث لطريقة عرض تكاد تُعيدنا إلى طرازية العرض القائم على الثوابت الفاعلة والدافعة بإتجاه ما هو متأصل في الإضافة والإزاحة أيضا فعمد إلى فرضية المكان المحكم والمغاير والذاهب لمشاكسة الفهم القبلي لعملية المشاهدة وجلوس المتفرجين المعتاد داخل صالة العرض فما حصل أنَّ المخرج قد جعل المتفرجين والممثلين يتواءمون عن قرب فوق خشبة المسرح ولم يعد هنالك من أثر لمقاعد الجلوس التقليدية، فالمتفرج الصاعد على خشبة العرض المفترضة يجد نفسه وكأنه داخل خيمة يلفها الظلام في إشارة يعول عليها المخرج في جعل المتفرجين مشاركين ومتواشجين مع أنفاس الممثلين وهم تلفحهم نيران السلطة وشهواتها القاتلة.
ويضاف إلى ذلك أيضا مدى تفاعل المخرج مع نص الأسدي فصار يركز على سحب فعالية الإخراج لأن تدخل في راهن المحلية من حيث الهموم والآثار المترتبة من جراء فعل السلطة التي أخذت لها حيزاً من الأثر المدمر على صعيد البعد الوطني والإنساني في العراق فلقد أعطى لذاكرة التلقي عند المتفرجين بعدا مؤثرا حين منح حضوراً لبعض من تلك الفواعل التي كانت وماتزال تمتليء بها تلك الذاكرة عن قرب ومن هذه الفواعل أنه جعل من الملك ( كلاوديوس) يرتدي بسطالا أسود وعلى طيلة مدة العرض وفي هذا تركيز على تلازم التسلط وآليات تنفيذه القسرية والباطشة والمتمادية في إستهانة البعد الآدمي وكذلك حضور بنادق الكلاشينكوف وأيضا طريقة القتل التي حصلت داخل البانيو وربما هذا يحيلنا إلى الأحواض التي كانت تتم فيها تصفية الأجساد المعارضة والرابضة في الإحتجاج الحق كما حصل في مشهد تطويق ( لايرتيس) وكذلك في عملية وضع الأكياس السود على رؤوس المعترضين فضلا عن مصاحبة فواصل من المؤثرات الصوتية ومنها أصوات الرصاص وكذلك عواء الذئاب الباعثة على الخوف.
ومما يلاحظ أيضا أن المخرج مناضل داود إعتمد على طريقة التتابع والتصاعد في تقديم المشاهد التمثيلية وكأننا به يريد التوضيح والتسليم في قيادة المتفرجين نحو فتح أبواب متن العرض بإسلوب متسلسل يساعد هؤلاء المتفرجين على التواصل والإمساك المرن بخيوط اللعبة التي تدور رحاها أمامهم وأمام أنفسهم فمع المشهد الإستهلالي وكأنَّ بالمتفرجين مع رقصة الوداع والتسليم المر لما سيحصل لاحقا بعد إنزواء الراقصين وبداية فعل الإضاءة وهي تأخذ لها من فعل الكشف والإبانة سيكون المتفرجون قبالة مكان مطلي بلون أصفر تتوسطه ندوب سود في إشارة لمرجعيات اللون الأصفر وإحالته القلقة في النفوس ومدى وقوعها في براثن الخوف والتخاذل والخيانة والتي بمجملها قد إكتظ بها متن العرض في حين أنَّ لتلك المندوب السود إحالات سترشد المتفرج لأن يتحرى مكامن الخطر الداهم الذي سيحل بآثار فعله المدمر هذا فضلا عن إعتماد المخرج على المشاهد المنفصلة والمتتالية والتي كانت تُؤدى من جوانب المكان المسرحي الجديد والمحكوم بفرضية المغايرة.
وكل هذا الإشتغال نرى المخرج مناضل داود كان يراهن على مفاتيحه الثرية وهم الممثلون ذلك أنَّه أعطى إعتماداً كليا على الأداء الجسدي لهؤلاء الممثلين والذين أعطوا تباينا واضحا في إظهار ما يتطلبه الدور المناط بهم جسديا وإنفعاليا وتقمصاً يساهم في إثبات الفاعلية المرجوة من هذه الأجساد لتعطي بالمحصلة النهائية ما عليها ضمن بانوراما العرض المسرحي.
فالممثلة ( زهره بدن) بدور الملكة ( غروترود) كانت أمينةً لمساحة الفعل الذي قُدر لها لِتُظهرَ من عندياتها فكان لها حضور طاغٍ
والممثل ( أياد الطائي بدور ( هاملت) فلقد أقنعنا بتلك اللامبالاة والميل بإتجاه العزلة والألفاظ الفارغة
في حين أنّ ( آلاء نجم) بدور ( أوفيليا) ورغم أن لها حصة الأسد في التواجد والفعل إلا أننا لم نر تلك القناعة الراسخة عند المتفرجين بمدى العطاء الذي يوازي حضورها الكثيف على خشبة المسرح
وكذا الحال ينصب حول أداء ( أحمد شوقي) بدور ( هوراشيو) فهو الآخر بدا عليه عدم الوضوح والجدية في إبراز مكامن الدور الذي كُلف بأدائه.
والوصول إلى ( حسن هادي) بدور ( بولونيوس) فثمة وضوح في حالات الفرز في الأداء ما بين المشاهد التي كان يؤديها مع إبنته وبين أدائه مع الملك القاتل وحالة التخاذل التي أظهرها لنا
ومع الفنان ( نظير جواد) بدور الملك الضحية ورغم حلوله كضيف شرف إلا أن لحضوره بزي الملك الجسدي ومراحل الحالات التي كان يظهر بها بعد قتله برداء أبيض كزوج ترفرف روحه شاهدة لتؤكد على دناءة فعل القتل الذي قام به الملك الجديد ( كلاوديوس) بمشاركة الملكة ( غروترود)
ومع الحضور الفعلي للممثل ( جاسم محمد ) بدور ( كلاوديوس) الملك ذو الشهوات والنزوات القاتلة إلا أننا صُدمنا بكثرة الأخطاء النحوية التي إكتنفت حواراته وكذلك وجود فواصل من الإدغام التي حصلت معه ومع إنخفاض صوته وعدم وصوله بشكل سلس إلى أسماعه المتفرجين وفي هذا مدعاة لأن ينتبه القائمون على إنتاج هذه العرض في مراعاة حضور الرقيب اللغوي قبل العرض سيما وأن لغة هذا العرض كُتبت بإسلوب فائق من حيث الدلالات ومن حيث الأثر الإيحائي والموسيقى الراكز بتقنية كتابية واضحة فهذه الأخطاء النحوية كانت قد تناثرت وبدرجة أقل في حوارات الملكة وهاملت وهوراشيو.
ومع الممثل ( أمير إحسان) بدور ( لايرتيس) فنحن مع طاقة راحت تتوضح بتفاصيل تدفقها فكانت راسخة عند الإحتجاج والرفض والتركيز مع حالة العمى فأضحت من علامات الإضافة لكلية العرض المسرحي تتناسب مع علامة الأمل التي أوجدها الإخراج في نهاية العرض بعد قتل هاملت داخل البانيو لِترتفع بعدها يدُ هاملت إلى الأعلى وبمصاحبة نطق أوفيليا بتمام الشهادة بحصول الجريمة كاملة.
ولا ننسى الجهد المقدم من قبل مجموعة الراقصين ( حيدر الخياط – أية الفارس – منتظر الشوك – هند القيسي – كرار جبار – خالد عقاب – نور الدين) بمعية مدرب الكريكراف ( ضياء الدين سامي) وكذلك الإشارة إلى لمسات مصمم الأزياء ( إخلاص صدام) وبقية منفذي مكملات العرض الأخرى.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش