كتب- إبراهيم السواعير

العمل الذي يقوم به الفنان الكبير والمثقف الواعي غنام غنام في المونودراما المسرحيّة(سأموت في المنفى- بدل فاقد)، الذي عرض في مهرجان عشيات طقوس المسرحية أمس، هو أسلوب ذكي وواعٍ، وأيضاً فعل احترازي ضد موت يقيني يموته جميع الفلسطينيين كلّ يوم، النازحين منهم والمشردين عن بلادهم، وأثق جيّداً بمقدرة غنام غنام على تجاوز التقليديات من المعالجات واستجداء العواطف إلى اللعب الإبداعي والمكاشفة المذهلة لجمهور أيضاً يفترض أن يكون واعياً ومثقفاً ونخبوياً، والشعب الفلسطيني كلّه مثقف بالقضيّة، وواعٍ بوعي القضيّة مبكراً، وهي القضيّة التي نشأوا عليها وشربوها مبكّراً مع حليب الأمهات.

وغنام غنام، حين يمتح من الذاكرة ويظلّ يراوده ذلك الشبح الذي يمرّ عليه كلّ يوم وينذره بالهلاك والموت، يتعرّض في الواقع لهلاك وموت معنوي أكثر منه موتاً جسدياً أو ماديّاً، ولذلك فالعمل بتقديري هو إرهاصات لم تكن لتتأتي لأيٍّ كان لأن ينوب عن (غنام صابر غنام) في سرد تفاصيل عائلته والاشتغال على متناقضات الشخصيات والسخرية من هذه الشخصيات حيناً والشعور معها بتعاطف حيناً آخر، فكأنّه يقدّم لنا رواية أدبيّة مليئة بالحوارات الساخرة والمفارقات المضحكة المبكية، وكأنه يرصد سيرته بأسلوب غير تقليدي وإنما أسلوب الراوي الذي ينسج الخيوط ويقربها من بعضها وينظر إليها بعد ستٍ وخمسين سنة مثلاً، أو بعد طول إقامة مع الجرح، ليقرأ صدقيّة أو موثوقيّة الأشياء التي مرّت به والتي عاشها والتي انطلت على دماغه حيناً، وحيناً كان يجعلها تنطلي عليه بتسامحٍ ماكر أو تمريرٍ مؤقّت إذا صحّ التعبير.

ويرصد غنام هذه السيرورة أو هذه السيرة الذاتية للعائلة، ومن التوليف بين شخصياتها والاستفادة من مفارقاتها وتخصصاتها في العيش والحياة، يتوخّى أن يقرأ المشهد إنسانياً قبل أن يقرأه فلسطينياً، وإن كان ينفجر مرّةً واحدةً معبّراً عن الحنين إلى فلسطين وهو يصدح بأشعار محمود درويش التي حفظها عن ظهر حزن، خصوصاً وهو اللغوي والمثقف والموسوعي، لذلك هو في الحقيقة يقرأ هذه المشاهد الحياتيّة التي مرّت عليه، ويبدو أنّها ستمرّ على غيره كثيراً، ويبدو أنّها ستمرّ عليه، ويرصد فيها كلّ هذا العمر الضائع في المنفى رصداً غير تقليدي بل هو رصدٌ مخاتل، رصد لا يرضى بغير المقنع أو الوجيه من الأسباب، وإن كان يؤمن بأسبابه الخاصّة، وإن كان بكلّ محاولاته أن يمنطق نصّه السردي هذا بكلّ ما فيه من مفارقات وبكلّ ما فيه من سخرية، وبكل ما فيه من أحلام ضائعة، وبكلّ ما فيه من نفسيات معذّبة، وإن كان يريد أن يصل إلى نقطة يظهر فيها الفلسطيني وهو يتجرّع همّه ويعيش هذا الهمّ صبح مساء وليل نهار،.. يريد أن يصل إلى أنّ هذا الهمّ هو بالتأكيد ليس متخيلاً، وليس ضرباً من الابتزاز العاطفي، بل هو حقيقة ماثلة يستطيع أيّ كاتب وأيّ مسرحي أن يصنع منها ومن هذه المأساة الفلسطينية أو الملهاة، كما يسميها بعضهم، ملاحم إنسانية تبدو بكلّ تناقضاتها وبكلّ أبعادها، وبكلّ دوافعها عبر عائلة غنام غنام، هذه العائلة التي كانت وعاءً خصباً لأن يسكبه على جرحه ولأن يتعايش والجمهور فترةً ليست بالهيّنة وهو يروح ويجيء، لا في مساحة الدائرة التي يتحلق حوله فيها الجمهور النخبوي والمثقف والهواة والبسطاء من الناس، وإنّما يروح ويجيء في مساحة الجرح الفلسطيني دون أن يكون ثقيل الظلّ أو أن يكون منبرياً، فيكثر من تنميط الخطابات.

والمنبريّة، وإن كانت تنفع في الشعر وفي أساليب النضال، إلا أنّها غائبة لدى سرديّة غنام غنّام، إلا في لحظات يتقمص فيها دور المناضل أو الخطيب أو الشاعر، في حديثه عن العائلة والأماكن التي يتشظى بها الحلم، الحلم البريء الذي يصبح معقّداً وربما تمسّه رياح غير بريئة ليصبح حلماً مغموساً بالمكر، المكر أمام حياة ماكرة قُدّرت عليه وحرّكته كيفما شاءت. أعجبني في هذه السردية أن صاحبها لم يكن فعلاً ليستجدي الناس عواطفهم، وإنّما كان فيها البطل وكان الجمهور متغيراً تابعاً بامتياز، بل كان الجمهور هو هو، وهو سرد حكايته مع الثقافة ومع السياسة ومع المدرسة ومع الحب ومع عواصم الدول العربية، وفي خلوة مع نفسه نرى غنّاماً كلاً معقداً، لأسباب كثيرة تتظافر ليترع بها عنق الزجاجة فتخرج على شكل شذرات أو حكايات فرعية بسيطة في شكلها لكنها تحمل مضامين كثيرة، أعجبني فيها أنّه وإن كان يتحدث عن فلسطين و”كفرعانة” مثلاً وأريحا وعمان إلا أنّه كان يتحدث بصفة الإنسان المستلب في أرضه غير المستلب في فكره وحنينه، هذا الحنين الذي يلحّ عليه ويشدّه إلى أن يفارق ويسخر ويشتغل على المتناقضات لإنشاء ما يفرح به نفسه قبل أن يُفرح به الآخرين. هذا البوح في الحقيقة هو بوح حنيني ومكاشف، البطل فيه هو جزء من الجمهور، فقد وصلت العلاقة الحميمة بين البطل والجمهور إلى أن يكاشفهم بظروف المسرحية وأن يحيطهم علماً بمآلات الأحداث وأن يضعهم بصورة مهنته التي فرضت عليه وكان يمكن ألا تُفرض عليه لو كان في مكان آخر أو كان في ظرف غير الظرف، فهي مأساة اللاجئ والنازح، وهي مأساة الإنسانية وهي دواخل النفس البشرية التي تمتلئ بمركبات الزيادة والنقص لتخرج لنا هذا العمل الخم، الذي يمتحن به الفنان غنام غنام نفسه ويشدّها لأن تبدو حزينة وساخرةً أمام كلّ هذه الأحداث.

أن تشارك الجمهور هذه المشاركة، وتقول لهم سأفعل كذا لأنه كذا، وأرجو أن تشاركوني هذا العمل وأن تعيروني كرسياً أصنع منه حقيبة سفر، أمرٌ محسوب في ذهن البطل ووجدانه، خصوصاً وهو ينطلق في حلقة لا تنظر العيون فيها إلا إليه، وهذا جهدٌ قوي جداً كمسرح مونودرامي ببعدين، يطلب فيه لصدقيته وثقته بالجمهور، أن يسمي شركاؤه هذا الفعل من المسرح ما شاءوا، وأن يسمي المتمرسون في المسرح والأكاديميون العمل ما شاءوا، فهي عبقرية ذهنية وخواطر تتوارد وبطل يتحرك على الجمر ويخاطب الجمهور خطاباً صادقاً ولكنّه معبّأ بالألغام ومليء بالسخرية من مصائر البشرية والحياة. في السردية كما قلت يبدو المكان الفلسطيني ويبدو أيضاً الشجر وتبدو المهنة ويبدو الكتاب السياسي وتبدو الأحزاب وتبدو المدرسة وتبدو الحبيبة وتبدو الأحلام المعطلة ويبدو الأخ ويبدو المحقق السياسي وتبدو الظروف الراهنة والظروف السابقة وتبدو المطارات بيتاً لهذا الغنّام وتبدو الأغنية أيضاً وسيلة للفضفضات والتعبير، وتبدو المقبرة أيضاً، حيث يجعل من القبر مكاناً يتلصص منه المرء على ما فوق الأرض، وتبدو قبور الفلسطينيين ممهورة بأسمائهم وأسماء قراهم التي هُجّروا منها، وتبدو التأويلات شهيةً لصعود الدرجات ويبدو غنام الطفل وغنام الكهل وغنام الكبير في مقاربات وقراءات ذكية يتساءل حولها بطل المسرحية. هذه المسرحية التي يقرر غنام غنام سلفاً أنها لن تدخل مسابقة مهرجان عشيات طقوس حفاظاً عليها، وأنها وسيلته لأن يستنسخ عنه كثيرين مثله، هي عمل ذهني جاد وأدبي ساخر، هي صور وأغانٍ تعبئ فضاء الجمهور وتجعل من صاحبها كتلة من النشاط يستنسخ منه عشرات الأشخاص الذين مروا في حياته، وربما هو بعد هذا العمر المتقدم نسبياً، يسخر من كثير من أشياء حدثت، وربما يحنّ إليها ويرجو منها أن تعاش بطريقة أو بأخرى، الفلسطيني حين ينثر قصيدته أو قضيّته على الملأ ينثرها كلٌّ بحسب ثقافته وفكره ورونقه في الحديث، الكبار في العمر أمام البقالات في المخيمات يحيلونك سريعاً إلى مفتاح عتيق مقشّر يضعه صاحب البقالة في (عُبّه) أو في ثنايا قلبه القديم أو في خزانته العتيقة والجديدة على حدٍّ سواء، والمثقف حين يحدثك عن فلسطين يكون قد ألمَّ بإدوارد سعيد وغسان كنفاني وكلّ المنظرين وقرأ أعمالهم التي أبدعوها في المنفى، ولذلك فغنّام غنام يتبع قلبه وأسلوبه الخاص، وقد حككته التجارب وعلّمته كيف يمكنه أن يقف مع ذاته وأن يأخذ قراره بذاته، فهو ذو عين واثقة، بل ذو عينين تتأملان المشهد كثيراً، ولا يمكن لمجالس غنام غنام أن لا يظفر منه بمعلومة أو بشذرة إبداعية في هذا الموضوع أو ذاك.

من جانب آخر، إذا اعتبرنا السردية هذه تأكيداً وتفعيلاً لحقّ العودة فهي خروجٌ على واقع، وهي تصميم أكيد على ألا تنسى القرية الفلسطينية ممثلةً بكفر عانة مثلاً، وأريحا، والمخيّم، وألا يُنسى المكان الفلسطيني، وهذا عمل نبيل ومهم من حيث الموضوع، ولكنها معالجة كما قلت ليست بكائية بل هي معالجة ذكية ربما يخرج فيها المرء على نفسه، وربما يعيد دموعه إلى عينه لهول الموقف ولبرودة المحيطين بهذه القضيّة التي تأبى أن تُحلّ وتأبى إلا أن يموت أبطالها الفلسطينيون خارج بلدانهم في المنافي وقد حملوا معهم رائحة التراب الذي حمله غنّام غنام وسُرق منه في الطريق، حمل معه شيئاً من تراب وحمل معه شيئاً من ذكرى أو ذاكرة إلكترونية وحمل معه جرحه، ولكنه دائماً ما يتعرّض للنهب، فنحن أمام عمل مغاير، وأمام شخصية عابرة للأزمنة والمكانات، شخصيّة تقرأ السياسي بعين الاجتماعي وتقرأ الديني بعين الإنساني، وتقرأ المقبرة بعين الكوميديا، وتقرأ الشاهد، شاهد القبر دليلاً على أحقيّة المكوث في هذه الحياة وأحقيّة الاعتراف بالأثر الفلسطيني الذي ضاع جغرافيةً ولكنه لم يضع مفهوماً في ذهن الفلسطيني، ولكلٍ تعبيره الخاص ورؤيته في التعبير عن جرحه، وغنام غنام اختلق أو صنع من هذا الكرسي، الذي كان يمكن أن يستعيض عنه بحقيبة، عالمه الخاص، لكنه أبى، ويبدو أنّ للكرسي دلالات ذهنية لديه، أو يبدو أنّه استلّه من الحضور لإظهار مزيد من العلاقة العفوية الحميمة اللامخطط إلا لها ولتداعياتها في المشهد، لأنّ هذا المشهد الجمهور فيه شركاء والجمهور هم أبطالٌ فيه، والجمهور عارفون بظروفه وطقسيّته وعارفون بمآلاته، فهو مشهد ينفتح على ذاكرة بعيدة وقريبة، إذ ينطلق البطل الراوي أو الحكّاء أو القاص أو الذي تنثال أمامه الذاكرة والخواطر من بوابة إحدى المطارات المتخيّلة، وربما الحقيقيّة، لأنّ المطار مكانٌ حميم يسيطر على غنام غنام ويملأ عليه عقله ووجدانه أيضاً، منه يتشظى إلى البلاد العربيّة، فهو مكان أصيل، والمطار هو سفر، والسفر هو غربة، والغربة هي منفى، والمنفى هو موت، فالمطار لم يأت اعتباطاً لدى غنام صابر غنام بل ليكون منطلقاً للحديث أو خيطاً يتتبع به خيوط الجريمة الإنسانية البشعة التي ارتكبت بما يدعو إلى السخرية، سخرية الضحية من الجلاد، الجريمة التي ارتكبت بحقّ هذا البطل الذي ما يزال يستنسخ عنه أبطالاً آخرين.

صدقية الحوار بين غنام والجمهور في المركز، المركز الثقافي الملكي بعمان، لطول عمله المسرحي في هذا المركز وفي غيره من المراكز مع فنانين مبدعين عانوا كثيراً من الظروف،.. بدت واضحةً لدرجة أنّ غناماً كان يعرفهم جيداً ويناديهم بأسمائهم، فمنهم الشاعر الفلسطيني المثقف، ومنهم المخرج الفلسطيني المثقف أيضاً، ومنهم الممثل الفلسطيني المثقف، ومنهم طالب الجامعة الفلسطيني المثقف، ومنهم اليساري واليميني، ومنهم المرأة الفلسطينية التي جاءت يأسرها عنوان المسرحيّة لتعيد شيئاً من بكاء أو حنين لا يعبر عنه إلا غنّام، فالرجل انسجم مع جمهوره لدرجة أنه أصبح غير معزول عنهم، يستأذنهم في أن يتنقل بهم من مشهد إلى مشهد وهذه في الحقيقة تمنحه راحة كبيرة في الأداء، يسير بهم من مكان إلى آخر، بكل صدق، يمزج السخرية بالواقع والواقع بالسخرية، ويتتبع خطواته طفلاً وخطوات والده وجدّه، ويتتبع أيضاً أكثر من هجرة لديه، الأولى من كفر عانة إلى أريحا، والثانية من أريحا إلى جرش، فعمان، فمطارات الدول العربية، فاللهاث وراء إقناع الناس بجدوى الجرح ومرارة التطواف.

غنام غنام، أبو غسان، اشتغل في المسرح كثيراً وتعب وناضل بهذا الفن، ونقّل فؤاده السياسي بين الأفكار في أوقات حرجة، وكان يعاني فترة من التاريخ السياسي، فترة استدعت ظروفها ذلك، وكان الكتاب السياسي فيها له أثره وعنفوانه، فترة حساسة نشأ فيها الجميع مثقفاً وكان الحلم الفلسطيني عند الشباب متوقداً، لكنّ هذه الإرهاصات كانت سبباً في أن يمتلئ بها وجدان وعقل الفتى الذي من صفاته أنّه يسخر من أحداث ماضية بعين حاضرة أو يحنّ إلى أحداث ماضية بعين الآن الحاضرة.

المسرحية بالفعل عمل جاد ونخبوي وشعبي أيضاً، فيها من الحكاية وفيها من الإسقاط السياسي على بساطتها وفيها من البكائيات وفيها من الحنين وفيها من حث الجمهور على أن يتعلقوا بإنسانيتهم وأن يعبروا أيضاً، وفوق هذا وذاك أن يقوم فنان بعمل يسمونه مونودراما، ويظلّ وحده يسأل فيجيب يجلس ويقوم يعيد ويستعيد يضحك ويبكي يجدّ وييأس، أمرٌ ليس بالسهل، بمعنى أن يقوم بالأداء وتتركز عليه عيون الجمهور وأحاسيسهم، فلا مجال للخطأ ولا سبيل للخوف ولا فرصة للتردد، ولكنّه يقوم بذلك وكأنّه ساحر سحر هذا الجمهور ليلتفّ حوله، فلم يكن ليعاني هذا الجمهور الملل،.. بدأ من المطار وانتهى إلى المطار، وتمنى أن تعود الطائرة التي تحمل الرحلة رقم 1948 بما يلفتنا إليه الرقم، إلى فلسطين، فيعود إلى قريته وأن يكون كباقي الناس الذين يعودون بعد كلّ رحلةٍ طالت أم قصرت في هذه الحياة إلى تراب الوطن.

ولأنّنا دائماً نقول إنّ للفلسطيني الريادة في اللجوء والريادة في الإحساس المبكر بهموم الغربة ومقارعة الظروف وإثبات الذات وصنع البطولة من سياط الجوع والحرمان والتشرد، فإنّ (غنام صابر غنام) يبدو اسماً وجيهاً لسهولته ويبدو أيضاً من الأسماء التي لها وقعٌ موسيقي خاص، صنع بنيته ومادته المثقف المسرحي الأديب المثقف غنام غنام، والحنين ما يزال يملؤه والشوق يشدّه ورائحة التراب المسروق ربّما ما تزال تمرّ من تحت أنفه، دون أن يكون له إلا أن يشمّها وهي عنه بعيدة.

والرجل مبررٌ له أن يفعل ذلك، فقد برّحه الحنين وذبحه البعد وتعرّف على أنواع كثيرة جداً من البشر بحكم اشتغاله بالمسرح وتعايش مع كلّ الظروف، فلا أقلّ من أن يبوح وأن يعبّر عن إحساسه، وأن يكون في التعبير ما يشبه الفضفضات، لكنّه بالتأكيد ليس تعبيراً جافاً وليس خطّاً مستقيماً يسير عليه، وإنّما خط السير من الولادة إلى المقبرة هو خط متعرج كثيراً وفيه منحنيات كثيرة، وحين تكون المقبرة مآلاً بحسب العنوان فإنّ في هذا ما يدعو إلى التفكير، فإذا كان العنوان عتبة للنص أو هو ثريا النص كما يقولون(سأموت في المنفى- بدل فاقد)، فإنّها عبارة تحمل قهراً وتحمل تأنيباً وتحمل شخصاً يهيب بالجميع أن يلحقوه وربما أن يلحقوا غيره من الشباب لئلا يموتوا في المنفى، المنفى في الحقيقة هو المكان، المكان كاغتراب جغرافي، والمكان كاغتراب نفسي، الاغتراب والغربة وما بينهما من تقاطعات.

غنام صابر غنام ليس مجرّد شخص ترك أرضه قسراً وذهب باتجاه اللامعلوم، ولكنّه ترك أرضه وامتلأ ثقافةً وامتلأ سخريةً من جراحه وتعبّأ رأسه بأفكار اليسار واليمين وكلّ الأفكار السياسية التي صفّاها بمصفاة الحنين أصلاً، فهي الدنيا تصنع المرء ولا قدرة له على مغالبتها وإن تعايش معها أو سار يتلقى ما فيها من صدمات.

هذا العمل بالتأكيد لا يتمخّض إلا عن شخصيّة معقّدة بمتغيراتها وظروفها ولا ينسج وقائعه إلا شخص نشفق عليه لكثرة ما احترق دماغه وقلبه بهذا، نار تلفحه وربما أعاصير تهبّ عليه وهو يصعد الطائرة ويعدّ الدرجات، وهو يتساءل حزيناً، وهو يستعيد تاريخ هذه الأرض التي ذنبها الوحيد أنّها مقدّسة، شخص يُحترم فعلاً لمقدرته على الإبانة دون أن يكون صخرةً على المتلقي، المتلقي واعٍ ويفهمه ويسير معه ومع مفرداته التي اجترحها في هذه الحياة، فـ(بدل فاقد) بما تحمله من فكرة ذكيّة ناضجة، تحمل معنى الصورة والأصل، وأن يصبح المرء صورةً عنه هو أمرٌ مؤلمٌ وحزين، والفقد في كلّ الحالات صعب، وكأنما مُني الشعب الفلسطيني بهذا الفقد، فهي بطولة سردية تقرأ المعاناة والفرح والتصميم والإرادة وتقرأ هذه التعرجات وهذه الآلام التي تصيب غنام صابر غنام، هذا الاسم الموسيقي الذي ظلّ يتردد عبر المسرحية بتلقي الجمهور الحار لهذا الراوي الذي لا يحفظ التاريخ ولا يُلقَّنُه، كما يلقّن الميت، وإنما هو يفهم الأمور على حقيقتها، ويدرك تهويمات الإنسان جيداً ويقف ربما عند منعطفٍ ما وقد ألحّ به الحنين ودعاه الشوق لأن يغني محتفلاً بالجرح، وكلّ ذلك يشكّل قمّة نظرية الجرح إذا صحّ التعبير.

فإذا شئتَ المسرحية قطعةً أدبيّة كان ذلك لما فيها من صور أدبيّة ودلالات وإسقاطات، وإذا شئتها فلسطينيّة فهي كذلك لما فيها من عمق إنساني وفكري، وإذا أردتها سيرة فلسطيني مشرّد كانت كذلك، بما فيها من غربة واغتراب، وإن أردناها مكاناً عصيّاً على اللقاء وأمكنة تظلّ متطلبات لا تنتهي لهذا اللقاء كان ذلك،.. هي سيرة ولكنّها سيرة ليست جافة وليست بريئةً، بل هي تغمّس من صحن السياسة وصحن الفكر وصحن الأخلاق وصحن الأحقيّة وصحن المظلوميّة وصحن الألم الذي يعتصر صاحبه، وقد تحقق له كلّ شيء باستثناء أن يعود فيشمّ رائحة التراب عن قرب.

“سأموت في المنفى- بدل فاقد” عمل يستحق أن نقف له إجلالاً واحتراماً، وأن نقف مع هذه الشخصيّة التي صنعت بانوراما ورحلة شائقةً حزينةً ساخرةً باكيةً بين هنا وهناك، رحلة موضوعيّة ومكاشفة وأحياناً تَعذر الظروف وكانت تستند إلى هموم وهموم كثيرة صنع منها غنام الفنان والمثقف والأديب فكرته وأسلوبه الخاص، الأسلوب الذي يتفق في الروح والتفاصيل في كلّ عرض جديد للعمل يخضع لشروطه وربما مستجداته التي تغدو وجيهةً لأن تُصهر في العرض بمهارة (غنام صابر غنام) الذي بات أيقونةً من أيقونات الجرح الفلسطيني في رحلة المنفى والشتات، وهي أيقونة مضيئة حتماً وستملأ الأجيال بالذاكرة وتمنع عنهم ما يراد بهم من موات.