“غنام” المسرحي الرحال.. إيقاع للدهشة وتجاوز للأمكنة – غادة كمال

 

انتابتنى مشاعر الدهشة مقرونة بالإعجاب وأنا أشاهد فى قلب جامعة القاهرة عرضا لمونودراما «سأموت فى المنفي» التى ألفها وأخرجها ومثلها الفنان العربى المبدع غنام غنام.
ففى ذلك العرض الشيق للمسرحية أمام طلبة قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ازددت دهشة وأنا أرى عن قرب تجاوب هؤلاء الطلبة مع العمل، وهم من جيل الشباب الذى تنعقد عليه آمال الأوطان..
أما سر الدهشة فهو ليس فقط فى الأداء المسرحى كتابة وتمثيلا وإخراجا.. لكنه أيضا يرجع إلى ذلك التجاوب العالى مع المسرحية حوارا وأداء بعد أيام من تقديم الفنان غنام لرائعته ذاتها أمام أطفال إحدى المدارس المغربية وتجاوب هؤلاء الأطفال مع العمل وتفاعلهم معه مع أنه قد يبدو عملا صعبا يتجاوز أعمارهم… إلا أن غنام الفنان المبدع استطاع بمهارة أن يتخطى سنواتهم القليلة بل وأن يرسخ صورته فى أذهانهم وأن يتعلقوا به؛ لأنه خاطب قلوبهم النقية قبل أن يخاطب أعمارهم الغضة.
وها هو غنام يقدم أمامنا هنا فى القاهرة نفس العمل لطلبة كلية الآداب وينال تجاوب هؤلاء الطلبة مع العمل بصورة مدهشة.. فقد استطاع الفنان غنام بلغته ومفرداته الخاصة أن يجعل الدموع تترقرق فى عيونهم فى بعض المواقف.. وما هى إلا لحظات حتى تعلو البسمة شفاههم.. فى مهارة فائقة على نقلهم من شعور لآخر ومن حالة إلى عكسها بمنتهى السلاسة.
إن مونودراما «سأموت فى المنفي»، والتى تجاوزت المسافات، وجالت الأمكنة، وذهبت إلى المتلقى أينما كان، وحققت أكبر جولة عربية وعالمية فى أهم عواصم قارات العالم.. إن هذه المسرحية ليست قصة إنسانية لشخص من فلسطين ولا لعائلة فلسطينية، ولكنها قصة وطن.. قصة الأرض الفلسطينية التى أنجبت محمود درويش وغسان كنفانى وسميح القاسم وناجى العلى وإدوارد سعيد.. وغنام غنام.. الأرض التى تزرع مع كل ميلاد لمبدع جديد شوكة فى ظهر الاحتلال.
هى قصة إنسانية.. نعم.. تحكى عن عائلة تتمسك بالإرث الفلسطينى بداية من الأب صابر، والذى له من اسمه نصيب، وكان عنصرا رئيسيا فى العمل الدرامي.. إلى الأم التى تتغنى بأغنية من التراث الفلسطينى تغيرت معها كلمات الأغنية بتغير إحساس الأم عندما فقدت ابنها البكر وتحولت إلى أنشودة حزينة.. ومرورا بالأبناء.. ومعاناة الغربة وألم الشوق إلى الوطن.. وانتهاء بموت البطل.
وهنا وعند مشهد النهاية تتجسد تراجيديا الموقف، والتى جمع فيها الفنان غنام بين تناقض المشاعر فتارة نشعر بحزن الفقد.. وتارة نضحك من القلب فى مشهد من المفروض أن نبكى فيه على موت البطل؛ ولكن براعة الفنان جعلتنا ننتقل من حالة إلى حالة فى نفس اللحظة بمنتهى السلاسة وبمهارة يحسد عليها.
لقد شاهدت العمل أكثر من مرة.. وفى كل مرة أكتشف بعدا جمالياجديدا
يدفعنى لإعادة المشاهدة مرات ومرات، وكأن البطل يضفى من روحه فى كل مرة جزءا جديدا يجعلك ترى جانبا لم تره من قبل.
هذا هو.. غنام غنام الكاتب والمخرج والفنان الذى حمل المسرح على أكتافه متخطيا المسافات ومتجاوزا كل العناصر المكملة للعرض من إضاءة وديكور واكتفى فقط بالكوفية الفلسطينية… وهى الرمز… وبكرسى متنقل طوال العرض…. ولم يقدم فقط المونودراما التى تعتمد على شخص واحد لنجاح العمل… ولم يحمل على عاتقه اختزال العمل فى شخصه… لكنه تجاوز المونودراما مستعينا بالحكي…. ليثبت لنا أنه بالفعل حكاء بارع ينقلك إلى عالم سحري.. تتمنى أن تبقى فيه ولا تغادره.
لقد تجاوز الفنان غنام غنام المسافات… والأمكنة…. والأشكال التقليدية ليقدم لنا عملا فريدا… تجاوز فيه نصا وأداء حالة الفنان التقليدي… فذهب بإبداعه إلى كل الأمكنة لينشر ثقافة المسرح وليسهم بشكل مباشر فى خلق جيل واع بدور المسرح فى الحياة.. وهذا ما أدهشنى فى جمهور العرض من الطلبة، والذين كانت تعليقاتهم عقب العرض تنم عن فهم للعمل وتجاوب لا محدود للرسالة.
ومن الإنصاف أن نقول ودون أى مجاملة أو مبالغة إن مسرحية «سأموت فى المنفي» قد تجاوزت المسافات والأمكنة… واستقرت فى وجدان الجمهور وظلت عالقة فى الأذهان وهو ما يعزز ثقتنا بأنه بعد هذا العرض أصبح لدينا مئات من المتابعين الجدد للمسرح العربى بعد أن عزفت «سأموت فى المنفى» لحنها بإيقاع الدهشة.. وسوف يتكرر هذا الإيقاع مع كل عرض جديد.
** مدير إدارة الشباب بشبكة إذاعة «صوت العرب».
https://www.albawabhnews.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش