غربة.. أم بلورة للذات وصناعة حياة…؟ مشروع بغداد – برلين أنموذجاً

 

 

غربة.. أم بلورة للذات وصناعة حياة…؟

مشروع بغداد – برلين أنموذجاً

     في عام 2005م، وتحديدًا في 2 يونيو / حزيران، بعد إنهاء الامتحان النهائي للسنة الرابعة والأخيرة في كلية الفنون الجميلة – فرع الإخراج المسرحي، إذ حصلتُ على درجة البكالوريوس بتوفق، إذْ كنت ُمن بين عشرة طلاب الأوائل في الدفعة. أثناء ذلك توفرت لي فرصة للسفر الى أوروبا، فرصة بمثابة انتقالة مهمة ومحورية على المستوى الشخصي، تزامنت مع استعدادي الكبير للانفتاح أكثر على العالم. وهذا الاستعداد  ينطوي على اتخاذ قرارات، اعتقدتُ أنها ستشكل لي إضافة نوعية، أو نافذة أطلّ من خلالها على التجارب العالمية المعاصرة للمسرح، قريبا من مبدعيها،  قربٌ سوف يمنحني الفرصة للانخراط والدخول في قلب الحدث الفني، يساعدني على خوض التجربة الشخصية، وعلى تحمّل نتائجها، منطلقا من إصراري على الثوابت التي أومن بها والتي أسعي لتطورها لتكون فكرًا ونهجًا خالصُا لا مستنسخاً، ونتاجا هو حصيلة منطقية لتسع سنوات من الدراسة ما بين معهد الفنون الجميلة، وأكاديمية الفنون الجميلة من جهة، والعمل المبكر داخل الوسط الفني العراقي على مستوى المسرح والدراما التلفزيونية، و الإذاعة كذلك.

     كانت فرصة السفر قد شملتْ أيضا بعض الاصدقاء الذين دارت عليهم رحى الأيام، أحيت فيهم طباعا وتلاشتْ طباع، لكنها في النهاية فرصة حقيقية، لأنها تحققت في فترة حرجة ومربكة من عمر العراق الحديث، أي بعد الاحتلال بعامين فقط. لقد رُشِحنا من قبل (محترف بغداد المسرحي) والذي لولاه ما كان ليتحقق هذا السفر، أو ربما لتأخر كثيرًا، أو أنه لم يحدث قط. لقد كانت هذه الفرصة بمثابة تجربة مهمة، بل هي طفرة نوعية على الصعيد الحياتي والمهني على حدٍ سواء.

     بالنسبة لي، لا أسمي هذه التجربة (غربة) مطلقا! بغض النظر عن فكرة البقاء في أوربا التي استمدت أهميتها من القراءة المنطقية الواعية لمستقبل البلد، والذي كان قد وُضع حينها على رمال متحركة،  كان قرار البقاء صحيحا  بل وضروريا بغض النظر عن تدخل الداعم لي على اتخاذ هذا القرار، والمساند والمشجع إيمانا ودراية في أن فترة الهدوء النسبي في بغداد لن تطول، كنت أرى أن خيطا رفيعا، وترقبا حذرا بين ما قد يتصورهُ العقل لحدثٍ  قادم،  وأن الحلم في التغيير لن يتحقق، لقد آمنت في تلك الأيام أن سماسرة الحروب وتجار الدم لن يسمحوا بانتشار سقوط بقعة ضوء على هذه المساحة المنكوبة.

     لقد اردت البقاء في أوروبا لأستنشق هواء الحرية، ألامس سقفها العالي، فكانت النتيجة حياة فيها صورة الحلم، ومنجز فني إنساني، وتواجد غني يسير في منطقة هي ما بين العقل والعاطفة، وجود يرضي النفس بعيدا عن الأنا المتضخمة، التي لبست البعض والمتخفية خلف أقنعة ناعمة. 

  لقد كان هذا الترشيح، هو النواة، أو البوابة التي استطاع الدخول من خلالها عدد من الزملاء والأصدقاء والأساتذة، حتى الوصول الى برلين، فكانت التجربة استثنائية عبْر كل مفاصلها ومنهاجها التنظيمي والتطبيقي العالي المستوى، وأيامها التي تجاوزت الـ 70 يوما، رغم بعض الإرباك نتيجة بعض الأمزجة، لكني أجد الأمر بديهيا، وليس غريبا على مجموعة ومختارة من الفنانين لكل منهم مخزون فكري وعطاء ومزاج وهوى.

      لقد تم الترشيح واختيار الفنانين المشاركين من قبل محترف بغداد المسرحي الذي يترأسهُ الفنان القدير عزيز خيون والفنانة القديرة  د.عواطف نعيم وهو فضاء تجريبي تأسس في عام 1999م،  مشروع  يؤكد على أهمية التمرين والابتكار وصولا الى العرض، كذلك فرقة (فضاء التمرين المستمر) للأستاذ الفنان القدير د.هيثم عبد الرزاق والفنانة القديرة  د.إقبال نعيم، ومن الجدير بالذكر أني كنت أحد أعضاء المجموعة المؤسسة لفرقة فضاء التمرين المستمر على مستوى الممثلين ونتاجها المسرحي الأول (أعتذر أستاذي) الذي حصل على أفضل عرض جماعي في الدورة السادسة عشر لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.

     تم التنسيق وبشكل مباشر مع الراحل المخرج د. عوني كرومي المبتكر والمشرف على “مشروع بغداد – برلين” بالإضافة الى الجانب الألماني المتمثل بمسرح الرور عبر مديره الفني المخرج المسرحي ذوالأصول الإيطالية روبرتوتشولي والذي يعد من أبرز المسرحيين الألمان المعاصرين، ناهيك عن الجهات والمؤسسات الألمانية الداعمة والمانحة. هناك كانت البداية وبعد حين تعمقت وترسخت في بلجيكا.

     لقد كانت حياة جديدة، وبداية مثمرة على الصعيد الإنساني و العملي التخصصي، حياة ورحلة عذبة لا تخلو من الصعاب والاخفاقات والنجاحات، الدراسة والبحث وإتقان اللغة والانجاز، لقد تعلمت (هنا) أن تعشق وتُعشق سيكون لك حياة مختلفة وجديدة، سيكون لك محطات تلتقي فيها الآخر،  بأفكاره، بلونه المختلف، بلغته، عقيدته، أسلوبه وطريقة إدارة حياته،  لهذا كانت تجربة العيش هنا، انعطافة مكملة لفكر شاب، إنسان متمرد وغير كلاسيكي لا يهوى العيش في فضاء تسوده خطابات الدين المتشنجة، والتي بدأت بالظهور بشكل مفاجئ، غطت المشهد حتى، وأخفتْ كل ما هو جميل وطبيعي وطليعي في المجتمع العراقي.

     الغريب حقا، وبعد كل هذه السنوات ما زلت أقرأ وأسمع من يحاول تصدير مفردة (الغربة) وألصقها بالذين تركوا البلاد (الوطن) طواعية متناسين أن الغربة الحقيقية هي غربة الذات لا المكان، الغربة هي ضياع البوصلة وهدر الوقت والتحزب والتخندق تحت عناوين بالية وجوفاء، شعارات لا تبني وطنا ولا تُنضج مجتمعا ولا ترفع شأن إنسان، والحقيقة أن الوطن يكون حيثما نكون، هو الشعور بالأمن والأمان والرضا، الوطن أن تكون مواطنا من الدرجة الأولى، لديك الحقوق كلها، وعليك الواجبات. فيك يزدهر الوجود، تغني وتصلي وتنشد للحياة، للإنسان، للأرض. الوطن يا سادتي الكرام أنا (الإنسان). بل هو الفضاء الذي أجد ذاتي فيه، المسرح الذي أُحبه وأنتمي اليه، أغنيتي التي كنتُ وما زلت أغنيها، لكنها يقينا ليست… أغنية التم.

 حسن خيون

مخرج وباحث مسرحي معاصر

مؤسس ومدير فرقة الفضاء الواحد – مملكة بلجيكا

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش