عزلة المسرح في زمن كورونا (50) المسرح والمشاهدة كحاجة بيولوجية – د.رشيد منتصر

عزلة المسرح في زمن كورونا (50)

المسرح فن جماعي، وطبيعة جسد الفرجة المسرحية لا يتحقق جوهرها الا بالجماعة وفي الجماعة.. سواء على مستوى التشكل الابداعي من خلال التداريب والتحضير أو على مستوى التلقي والتفاعل الجماهيري الحي.

فماذا عن “عزلة المسرح في زمن كورونا”؟ وهل ما عرفته المنصات الوسائطية الالكترونية من مبادرات واسهامات “مسرحية الكترونية” قدم لهذا الفن الجماعي الحي والعابر، ما كسر شيئا من عزلته وانكماش فعله وفاعليته وتفاعله؟ هل تلبى رغبة الفرجة الحية بكبسولات فيديو ؟ وما تأثير الافكار المبتكرة الكترونيا على الفرجة المسرحية؟ المسرح وعاء ابداعي يحتضن الفنون جميعها.. فما تاثيرها على قواعده الثابتة والمتغيرة ؟ وما الفواصل بين التأثير الحقيقي والتاثير المزيف الزائل؟

ملف تشارك فيه مجموعة من الأسماء المسرحية العربية لإبداء الراي ومناقشة حاضر المسرح في الزمن المرتبط باكراهات الظروف المعطاة التي فرضتها الجائحة على الجميع… وما طبيعة النشاط المسرحي الإلكتروني الذي عرفه الظرف “الكروني”…

إعداد: عبد الجبار خمران 

المسرح والمشاهدة كحاجة بيولوجية

د.رشيد منتصر (المغرب)

من نافل القول بأن المسرح فن عابر.. والمسرح كتجربة ركحية حية، يعرف كيف يمحو آثار مروره على الخشبات مع تسجيل آثاره في الأجساد، والنصوص، والمخيلة والصور (ثابتة أو متحركة)، والذكريات…إلخ

المسرح فن عابر، لكن ليس هناك ما هو غير قابل للمحو أكثر مما يسجله في الذاكرة.. ولا يوجد ما هو أكثر خلودا من ذبذبات أصواته، وما يعكسه في النفوس من اهتزازات سرية تخترق كل الازمنة وكل أجساد المتفرجين، أولئك الشهود الذين حضروا لتذوق متعة أن يشاهِدوا (بكسر الهاء) ويشاهَدوا (بفتح الهاء).

إننا جزء لا يتجزأ من الممارسات الفرجوية الإنسانية الحية، أو ما يسميه غروتوفسكي “الممارسات الأدائية” « pratiques performatives »، فالمسرح حدث جماعي واجتماعي. كل المجتمعات البشرية، ومن دون استثناء، لها أشكال تمثيل جماعية خاصة بها. يقول ديدرو: “أي شعب لديه أحكام جاهزة للنقض، ورذائل للمحاكمة، وسخافات تستوجب الشجب.. فهو بحاجة إلى فرجات، لكن على أن تكون فرجات تخصه”.

الإنسان في حاجة إلى الأكل والشرب والتزاوج… وفي حاجة أيضا إلى فنون الأداء، إلى أن يُشاهَد ويشعر بأنه حي، والعرض الفرجوي الحي تجربة حسية تستجيب لنداءات غريزية / بدائية… الأشكال الفرجوية الحية مُشيدة على الرغبة في إدراك جسد الآخر (المؤدين والممثلين).. سحرية الحضور؛ جمالية الحركة؛ رمزية الإيماءة… هذا الآخر يصير مثل شريك محتمل وضروري لعلاقة رمزية، وفي بعض الأحيان، إيروتيكية. العروض الحية بمثابة مُرمم بيولوجي؛ وحاجة تكافلية ماسة تنصهر في عملية تقديم العرض وتتحقق في جسد الفرجة!

تُعلمنا الأنثروبولوجيا المعاصرة (موريس جوديليه / Maurice Godelier) أن هذه الأشكال هي اتفاق ضمني يمكن من تجسيد المخيال الجمعي وأنظمة المعتقدات المتأصلة في جميع الثقافات. المسرح والطقوس، المسرح والاحتفال، المسرح والعلاج النفسي، المسرح والمجتمع، المسرح والسياسة… هذه الثنائيات التي تبدو مثل عناوين ندوات، تُظهر جليا تعدد وجهات النظر لتحليل ظاهرة شاملة كلية ومركبة. تعتبر الأشكال الفرجوية الحية جزءًا مما يسمى “النظام المركب” (آني ليسني / Annie Lesne) والذي تعتبر سمته الأساسية سببيته الدائرية، بمعنى أنه “(…) في نظام مركب، معرفة الخصوصيات والسلوكيات الفردية المعزولة ليست كافية لرصد السلوك العام للنظام”

لماذا إذن نذهب إلى المسرح؟ هناك العديد من الإجابات الممكنة، وكل جواب منها يتوقف على وجهة نظر معينة وعلى المستوى التنظيمي المعتمد للإجابة: نذهب إلى المسرح للخروج من عزلتنا.. لنعيش تجربة جماعية.. لأجل سماع نص مسرحي كلاسيكي أو لاكتشاف نص مسرحي معاصر جديد.. بغية مشاهدة أداء ممثلة أو لعب ممثل مسرحي مفضل.. أو حضور إبداع ركحي لمخرج ذو شهرة عالمية. نذهب أيضًا إلى المسرح، ليس فقط لنشاهِد، بل قبل كل شيء لنشاهَد: المسرح والمشاهدة يشتركان لغويا في نفس الجذر الاشتقاقي. العرض الحي مُشيد على المشاهدة والمتعة.

د.رشيد منتصر – المغرب

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.