عبيدو باشا: نتفرّج على أشكالٍ وليس على معانٍ

“أنا من جيل يقدّم التعبير على أشكال التعبير”- يقول المخرج المسرحي والكاتب عبيدو باشا الذي حطّ في هذه الحياة كطائر يترجم بقاءه على قيد الحياة بكل أشكال التعبير المتاحة، في المسرح وفي السينما وفي الدراما، وفي كتاباته الصحافية بلغة نقدية متينة وبشعرية مختلفة، وفي كتابة الأغاني الراسخة التي بلغت المئة، وفي كتبه المسرحية السبعة عشر، فيما كل كتاب هو كتاب للحياة، ليس عن المسرح وأبطاله فقط، بل كوثيقة عن المكان والزمان، عن بيروت والعالم العربي… هو صاحب مخيلة ممتدة فوق العالم، وذاكرة تحتفظ بتفاصيل بيروت منذ منتصف القرن الماضي. يقول إننا في مرحلة إنصات وسنبدأ مرحلة جديدة، ويرسل دعوة لكل من يشتغل بالصناعة المسرحية والسينمائية بأن يعملوا على التدوين من أجل الأجيال القادمة، أما بيروت، فقد مرّت بفترات من الذعر من الآخرين، لأنهم خوّفوها، لكنها مساحة مشتركة للجميع. هو ابن بيروت القديم وابن مسرح الحكواتي وشيخ المسرحيين الذين نحب أن نحتفظ بهم من ذلك الجيل الذي كان يريد أن يقول أشياء كثيرة بطرق مختلفة. نسأله عن مشاركاته التلفزيونية الأخيرة والمسرح والنقد وبيروت في هذا الحوار.   

(*) عبيدو باشا المسرحي المخضرم يقول: كسرت الحاجة الاقتصاديّة البرجوازيّة الثوريّة المسرحيّة، حين شنّت هجومها المكتوم على المسرح. فجأة: أدرك المسرحيّون حاجتهم إلى التلفزيون… هل قدومك إلى الدراما، كما في مسلسلات عاصي الزند، الهيبة، بيروت واو…  هو انتشال للمبدع المسرحي من الصمت المسرحي، إذا جاز القول؟

الدراما التلفزيونية تساهم في دعم بعض الأسماء المسرحية على الصعيد المادي وعلى صعيد فهم العلاقة بين الآلي وبين المساحة الفارغة. هناك هجوم من الدراما، صحيح، لأن الأموال موجودة بالدراما التلفزيونية. المسرح يعاني من فقر كبير وبحاجة لأن يُعالج ليس بالمضادات الحيوية فقط. هناك مشكلة بالمسرح، والمشكلة ليست لأنه يعاني فقط من معوقات مادية، المشكلة أن ثمة جهات وأشخاصًا يدركون أن هناك أزمة اقتصادية ويدخلون من هذه الزاوية على المسرحيين الشباب وعلى عقولهم ويعملون على التغيير في مسالك تفكيرهم، وأقصد بهؤلاء صناديق الدعم المسرحية NGO’S وهي صناديق تابعة وممولة من جهات خارجية، ويقدمون الأموال التي يحتاجها الشباب مقابل تمرير أفكار معينة. نسمع لماذا لا تدعم وزارة الثقافة وتساعد، وأعتقد أنه من الجيد ألا يكون أي دور لأي وزير ثقافي بالعالم بالنتاج المسرحي. سأعطي مثلًا عن المخرجة المسرحية الفرنسية آريان منوشكين وكانت قد قدمت عددًا من المسرحيات المهمة وكان آخرها 1789 و1793، انتبهت الدولة الفرنسية أن لديها اسمًا لا بد من الاتصال به، وتواصلوا معها وعرضوا عليها الدعم المالي وبأنه يهمهم دعم التجارب الطليعية، وكان شرطهم أن تقدّم مسرحيتين سنويًا فيما كانت تقدّم مسرحية واحدة سنويًا. وبعد بدء العمل اكتشفت أن تسريع الإنتاج يحرق المراحل بحيث لم تعد تستطيع أن تشتغل كما تريد بل كما يريدون هم، ففي ضوء المعطيات والمال الذي بين يديها يجب أن تقدّم ما يرغبون به. بالتالي علاقة السلطة بالمثقف المبدع هي علاقة نفعية وغالبًا ما تعود منافعها على السلطة. وزارة الثقافة لا تتدخل، هذا جيد، بالإضافة إلى أن وزارة الثقافة اللبنانية ميزانيتها 0.05% وبالتالي تمتلك مبلغًا لا يُذكر. قلت لوزير الثقافة في لقائي الوحيد معه، إن هذا المبلغ الصغير بظل الأزمة الاقتصادية إذا تم توزيعه على المسرحيين سيعتبرونه مبلغًا كبيرًا، فالأحجام تُقاس بحكم الحاجة بالبلد. كان عندي سابقًا مواقف من التلفزيون لأني عملت سابقًا بالدراما التلفزيونية. وخلال عملي بـ”الهيبة” سألني المخرج سامر البرقاوي: لماذا لا تشتغل بالدراما التلفزيونية؟ أجبته أن التلفزيون يمتهن كرامة الإنسان. ثم دخلت إلى عالم كنت متهيبًا منه، ثم اكتشفت أن هذا العالم يتغير بالناس الموجودين فيه، سامر البرقاوي وتيم حسن وشركة الصباح، ثمة عالم مختلف عن العوالم الأخرى التي اشتغلت معها سابقًا. أقنعت نفسي بأني محترف ولذلك يجب أن أعمل بالتلفزيون كما أعمل بالمسرح أو بالسينما. عدتُ لتوّي من فرنسا وبلجيكا بعد مشاركتي في الفيلم الفرنسي البلجيكي “الجدار الرابع”، وبالتالي فإن المحترفين عليهم أن يعملوا كمهنيين، إلا إذا كان المحترف يعمل في مشاريع خاصة ويريد من خلال مشروعه أن يقول شيئًا ما، على صعيد الكلام المباشر أو على صعيد علاقته مع المسرح، أو يريد أن يقترح صيغة معينة. أما فيما يتعلق بالقضايا الأخرى فيجب أن نعمل بروح احترافية بكل الأماكن. ولولا وجود الطاقم المسرحي في الدراما التلفزيونية لكانت الدراما خسرت كثيرًا، كادحو المسرح هم أبطال الدراما التلفزيونية. فلماذا نريد أن نترك هذه الدراما طالما نحن قادرون على أن نطوّر بعلاقتنا فيها وبمفاهيمها؟ إن وجود أشخاص يمتلكون فكرًا مختلفًا سينقلون من هذا الفكر للدراما.  

(*) حدثنا عن تجربتك الأخيرة في “الجدار الرابع” ورؤيتك للسينما اللبنانية والعربية.

الفيلم هو عن الحرب الأهلية اللبنانية، مقتبس عن رواية “الجدار الرابع” للكاتب والصحافي الفرنسي سورج شالاندون، حيث يريد أحد المخرجين أن يقدّم مسرحية على خطوط التماس في لبنان تشارك فيها كل الطوائف. عندما تواصلوا معي كان الفيلم كمقترح في البداية، ولأني عايشت الحرب قدّمت ملاحظاتي، ثم قدّمت دور الشيخ الذي يحرّم التمثيل. تم التصوير في فرنسا وبلجيكا كون الإنتاج فرنسيا بلجيكيا، وهذا عادة من ضمن شروط العقود في أوروبا. استمتعت بالعمل مع المخرجة لأني شخصيًا أشتغل بمزاج وأشتغل لأستمتع، لا أشتغل فقط من أجل المال، بالتأكيد هذا ضروري، ولكن لا أعمل فقط لذلك، أعمل كي أقول شيئًا لأني أعتبر نفسي من جيل يريد أن يقول أشياء كثيرة وبطريقة مختلفة وعلى طريقته الخاصة. أحيانًا ننجح وأحيانًا لا ننجح ولكن نجرّب، كما يقول البيت الشعري: “… نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا”. اشتغلت سينما مع زياد الدويري في “القضية 23” ومع برهان علوية سابقًا ومع فيصل الياسري. أحب أن أعمل في المكان الذي أشعر أنني قد أترك بصمة فيه. عندما اشتغلت في “الهيبة”، جئت على العائلة ووجدت مكانًا لي فيها بالجزء الخامس، وهذا أمر غير سهل، وقبلها اشتغلت في “بيروت واو” بالجزء الرابع بعد أن رفضت العمل بالدراما لفترة طويلة، ولعبت دور فيلسوف على حافة الجنون ينام بالطرقات، استمتعت كثيرًا بالعمل، أحدثتُ أثرًا بالجزء الرابع، هناك تحدّ، أن تأتي بعد ثلاثة أجزاء وتقدّم دورًا تترك بصمة من خلاله وتحقق شيئًا. بالنسبة للسينما، لا توجد سينما، هناك أفلام سينمائية. هناك فرق بين صناعة سينما وصناعة فيلم، الصناعة السينمائية تفترض أن نقدم أعمالًا تتوافر باستمرار، لا يمكن أن نقدّم عملًا كل سنة ونقول لدينا سينما. هناك أسماء بالتأكيد ويعملون بشكل رائع. المشكلة أننا لا نجسر العلاقة بين الأجيال. نشتغل من دون أن ندوّن، فكل من يأتي من بعدنا يبدأ من الصفر. هذه دعوة لكل من يشتغل بالصناعة السينمائية أن يجدوا العلاقة بينهم وبين من سبقهم، فالبدء من الصفر قضية منهكة تحتاج لأوقات إضافية، ويمكن أن نوفّر ذلك إذا دوّنا، نحن لا ندوّن، التدوين شيء عظيم، لا يوجد أحد لا يدوّن، الأوروبيون كلهم كتبوا عن تجاربهم. في العالم العربي متعالون عن التدوين، أو لا يعرفون كيف يدوّنون، لكن يجب أن يجدوا من يدوّن لهم من أجل الأجيال القادمة.

(*) نود أن نتعرّف على رؤيتك النقدية للأعمال الدرامية الحالية، وخصوصًا أعمال شهر رمضان، والدراما المصرية والسورية واللبنانية والمشتركة.

شخصيًا أنا متفاجئ، اشتغلت كضيف شرف في عاصي الزند، ولم يكن عندي فكرة عن المسلسل، وتبيّن أنه ملحمة تاريخية. هناك أعمال في رمضان رفعت من معايير إنتاج الدراما التلفزيونية ورفعت من سقوف علاقة الممثلين والمخرجين والعاملين بشتى المجالات بالدراما. الدراما العربية تطورت وأصبحت في مكان بعيد، “الزند” و”سفر برلك” و”مربى العز” و”زقاق الجن” و”تغيير جو”. “سفر برلك” إنتاج تاريخي كبير ينطلق بكلامه من مكان لم تتطرق له الدراما من قبل، من مقاومة الجزيرة العربية للاحتلال التركي. كل الروايات سابقًا لها علاقة بمقاومة منطقة الشام. المصريون قدّموا أعمالًا لطيفة هذا العام، ومنها “تغيير جو” و”ضرب نار”، فيها مجموعة من الممثلين نقف أمامهم باندهاش. لدينا عدد من الأعمال الدرامية المهمة وعدد من المهنيين الذين نستطيع أن نرفع رؤوسنا لوجودهم، طاقم يُفتخر به ونستطيع العمل من خلاله بطريقة مريحة جدًا، مخرجون، ممثلون، مصورون، وإدارة ممثلين، ومهن بسيطة قد لا ينتبه إليها أي أحد. وصلنا إلى مكان يمكن أن ننتج دراما نفتخر بها. ونحن مدينون بذلك للدراما السورية. الدراما السورية لا تشتغل فقط على زاوية واحدة بل على كل الزوايا، وهي متقدمة في كل الاتجاهات.

(*) هناك مسرحيون متمسكون بالمسرح فيما يُحكى عن موت المسرح في زمن الأحادية العالمية بالثقافة الاستهلاكية، هل فقدنا الأسباب المؤدية إلى بروز تجارب جديدة، أم أن الزمن المعولم يفرض التسطيح والموت المسرحي؟

قصة العولمة يواجهها الشباب في المسرح، وقضية الهوية ستبقى مطروحة دائمًا، المسرح يقوم على قضية الهوية. إما أن نقدّم هوية خاصة بنا من خلال المسرح أو أن نقدّم عروضًا عابرة فقط من أجل العرض. والعولمة ماذا فعلت، حوّلت العالم إلى قرية، والمسرح هو شكل المدينة، وبحضور العولمة سوف تنحسر التجارب المسرحية، وتصبح الأجواء تبسيطية. ولكن هذه المرحلة ستمرّ لأن العالم بدأ يستعيد الثنائية، انتهت الأحادية التي خلقت العولمة، وبالتالي سيعود الحوار الثقافي، ففي غياب الحوار الثقافي تغيب الأشكال. نحن في مرحلة يخرج العالم فيها من الأحادية إلى تعدّد الأطراف من جديد، وهذه الأطراف ستتواصل مع بعضها بطرق مختلفة منها الطرائق الثقافية. إن المراوحة موت، ونحن في مرحلة إنصات. ربما لا نقدّم ما نريد فعلًا تقديمه ولكننا نحاول. الآن نحن نستمع إلى أشياء قادمة من بعيد، وستبدأ مرحلة جديدة.

(*) شاركت في “مهرجان المسرح العربي” بدورته الـ23 في المغرب مؤخرًا، وتقول إن هذا المهرجان هو حكاية من الحكايات الخرافية التي تضع العالم العربي في عالم واحد، كأن جملتك تغرس فينا تمامًا بصمة هذا الشعور العذب، العودة لفكرة العالم العربي الواحد… إلى أي مدى يمكن أن نحكي عن أهمية هذه المهرجانات في وضع رؤية موحدة للمسرح لبعث الحياة فيه وتجديد خطابه؟

أنا مع كل المهرجانات، لست ضد أي مهرجان لأن هذه المهرجانات هي آخر مساحات اللقاء بين العرب، ليس فقط بين المسرحيين، وبغياب مساحات اللقاء لا يمكن أن ننتج مسرحًا. مهرجان المسرح العربي جهة متميزة لأنها تقدّم من دون أن تطلب أي شيء، وأنا أحيّي هذه الهيئة التي تمارس الحوكمة لا السلطة.

العالم بدأ يستعيد الثنائية، انتهت الأحادية التي خلقت العولمة، وبالتالي سيعود الحوار الثقافي، ففي غياب الحوار الثقافي تغيب الأشكال

(*) يؤكد أنطوان أرتو أن النص لا يصنع مسرحًا وإنما الإخراج هو الذي يعتبر الأساس الحقيقي للمسرح المعاصر، فهل تراجع المسرح اليوم بسبب الفقر في الأفكار المسرحية؟ 

برأيي الشخصي نحن نفتقد إلى ثقافة مسرحية. لا نفتقد لأي شيء آخر، عندما يكون عندنا ثقافة مسرحية سيكون عندنا جمهور، حتى هذه اللحظة معظم الذين يقصدون صالات المسارح، لا يأتون من أجل المسرحية بل من أجل المظاهر والعلاقات. جزء من هموم العالم العربي لم يقدّمه المسرح. وإذا كانت عندنا مسرحية نتوسل الصحف كي ينشروا خبرًا عن المسرحية. ليس هناك إيمان بالمسرح وبدور المسرح، لم نستطع أن نحصّل ثقافة مسرحية، كالسياسيين، يشتغلون بالسياسة وليست لديهم ثقافة سياسية. الثقافة السياسية تقوم على خدمة الناس، وهم بالعكس. مطلوب أن نحصّل ثقافة مسرحية وأن يحصّل السياسي ثقافة سياسية، عندها ستأخذنا الحياة إلى نوع من الاختلاف الضروري. نحن في قرن انكشف على عريه أمام الأمراض والفيروسات وعلى طمع الأنظمة بتطوير الأسلحة وقتل الناس بصحتهم وأمنهم الاجتماعي. لا نمتلك ثقافة مسرحية لذلك لا يمكن أن نمتلك منصة مسرحية يقف عليها الجمهور وأن يعتبر المسرح ليس فرجة سطحية ولا تشاوفًا أمام الأصدقاء. في لبنان لدينا معاهد للفنون بكل الجامعات، تُدرّس كل المواد باستثناء النقد المسرحي، لماذا؟ لأن النقد المسرحي هو الأداة الأساسية في تكوين ثقافة مسرحية، لذلك لليوم لا أحد يقبل النقد المسرحي. نحن مجتمعات مسلّمة لا تستطيع أن تبتكر، تعتمد على الإله، وأنا أحترم كل الناس، ولكن الله يقول “اعقل وتوكل”، نحن متوكلون من دون أن نستخدم عقولنا. هناك مشكلة على صعيد بناء ثقافة نقيّم من خلالها ما يحتاجه المسرح كي يبقى ويستمر، وأن نقدّم شيئًا له معنى. نحن نتفرج على أشكال وليس على معانٍ. إذا أخبرتِ جارتك أنني شاهدت “الجدار الرابع” فماذا يعني لها ذلك؟ أنت تستشهدين بأرتو، هذا الكلام بيني وبينك وبين الذين يشتغلون مسرح، بين بعض المثقفين، أما فيما يتعلق بالرأي العام فليس له علاقة بأي شيء، وإلى حين يتوفر هذا الرأي العام المثقف، ستبقى تجربة المسرح تجربة مترنحة، تجربة تراوح بين الحضور والغياب.

(*) تقول: “النقد الآن مادّة سامّة لأنّه ليس نقدًا. يلاحظ المسرحيّون في لبنان أنّ نقّاد المسرح لا علاقة لهم بالمسرح”، أين أصبح مسار نقد الخطاب المسرحي الجادّ، وغيابه؟

لا يوجد نقد. في أحد المهرجانات كانت لي مداخلة وقلت ما يجب أن يُقال، لذلك يحاولون معاقبتي. قالوا: “من أخبرك أن النقد ضروري!”، لديهم أفكار وهذه الأفكار يجب أن تمرّ عبر المسرح بأي طريقة. ولكنهم لا يشتغلون على بنيان وعي، هؤلاء الناس لا يتمتعون ببنيان وعي فكيف يشتغلونه. بالتالي في غياب الوعي سوف يغيب كل شيء، للأسف الشديد، على صعيد المتطلبات يضعون شخصية تلبي متطلباتهم. نرى ما يُكتب، مسرحيات رائعة، ما الرائع فيها؟ هناك فرق بين الكتابة الانطباعية وبين النقد البنيوي، أن نتساءل، لماذا وكيف. الآن بهذه المرحلة، الانطباع هو سيد المواقف والأسماء المزيفة، والناس الذين يجرّبون العيش في هوامش المسرح، هم أبطال هذه المرحلة. تُعرض مسرحية لطالب جامعي فيخرج حاملو دكتوراه ويكتبون أن هذه المسرحية قدّمت مفاتيح لكل المسرح العربي، هذه المسرحية ما بعد حداثية. يا أخي قل لي ما معنى ما بعد حداثي، وفيما بعد قل هذه ما بعد حداثية. الكذب كثير ومن يُكتب عنه سعيد بذلك. شخصيًا لا أستطيع أن أدخل في حفلة التكاذب على الإطلاق، وإذا كان من ثمن فأنا مستعد لأن أدفعه.    


عن تجربة الحكواتي

(*) في حديثك عن تجربة الحكواتي تقول إنها هي حياة في حياة، تجربة اختبرت مفاهيم كثيرة ثم وصلت إلى طريق مسدود، حدثنا عن تجربتك في الحكواتي مع روجيه عساف ونضال الأشقر ورفيق علي أحمد، لماذا بدأت الحكواتي ولماذا انتهت؟

تجربة الحكواتي سجّلتها في كتاب “أقول يا سادة”، وهي تجربة كانت عظيمة تفتش عن أشكال مختلفة إلى أن وقعت البلد بالطائفية الشديدة، فصارت تكتب عن طائفة معينة وهذا الأمر نخرها ووصلنا إلى جدار مسدود في مسألة التفتيش عن الأشكال المسرحية. قدّمنا عددًا من المسرحيات، مسرحة “أيام الخيام” أحدثت ضجة بالعالم كله، واستمر عرض المسرحية 10 سنين، والكل كانوا يتفاجؤون ويتساءلون كيف اشتغلنا على المسرحية فنجيب هذه ليست مسرحية، هذا عرض مسرحي، حتى الذين اشتغلوا بالحكواتي لم يفهموا ماذا يشتغلون، لذلك كتبت هذا الكتاب. وبالكتاب هناك مرور على تاريخ لبنان الثقافي على مدى 150 سنة ليس فقط تجربة الحكواتي. هكذا أحب أن أشتغل.

(*) في استعادتك لتجربة الحكواتي في كتابك “أقول يا سادة” تُنهي الكتاب بعبارة: “إن تجربة العرب المسرحية اليوم فيما تبقى لها هي تجارب تقنية بلا مسّ، تجارب أحكام أو رؤى استنتاج معنوي في بناءات معدنية”. وتبدأ كتابك وتنهيه بعبارة “آن أوانها قبل أن آن أوان النهاية”، نود أن نسمع منك أكثر عن ذلك؟

كل العرب الذين اشتغلوا مسرحًا استنفدوا أفكارهم ومحاولاتهم، وعندنا مشكلة أننا كلما أفلسنا في مكان ما، نعود مثلًا إلى مسرح الشاطئ، إلى مسرح المدّاحين، إلى مسرح الحكواتي، عندما نعود إلى الأشكال التراثية نعيد أنفسنا إلى المربع الصفر، إلى البداية. لماذا تجربة مثل تجربة الطيب صديقي تنتهي بموت الطيب صديقي؟ أو تجربة الفاضل الجزيري لا تكون مثل تجربة فاضل الجعايبي الذي هو من المخرجين العرب الطليعيين، أعمال هؤلاء نتوقف عندها. بالإضافة إلى أننا بدأنا ندخل في التنميط في العمل. كتبت عن مسرحية الجعايبي “خمسون”، والتي قدّمها بمناسبة مرور خمسين عامًا على انطلاق “المسرح الجديد”، وتحكي عن داعش وعن الحجاب، كتبت أنه ليست كل امرأة وضعت الحجاب هي داعش، فزعل مني، لأن هناك من يكتب له أن المسرحية عظيمة، والعرب يحبون هذه الأمور، أما أنا فلا أستطيع فقط أن أمتدح.     

(*) يشكّل عبيدو باشا جزءًا من ذاكرة بيروت الثقافية، مارست النقد في الصحافة الثقافية أكثر من خمسة وعشرين عامًا، وكنت مسؤولًا عن صفحة ثقافية لسبع سنوات، وكنت الجندي المجهول في العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعية، حدثنا عن تلك التجارب، ولماذا ابتعدت عنها وعن الكتابة الصحافية النقدية تحديدًا؟

هناك خلط بين الصحافة الفنية والصحافة الثقافية الجدية. أنا شخص أكتب بالنقد منذ أربعين عامًا. لم أبدأ كناقد. بدأت محاولًا أن أكتشف أدوات النقد، وتعرّضت للانتقاد فيما كنت أكتبه. علّمت نفسي بنفسي لأن علينا أن نقرأ عمل الآخر من وجهة نظر الآخر. نفكّك هذا العمل من وجهة نظره وليس من وجهة نظرنا. نحن كنقّاد نعيد بناء العمل، تفكيكه وبناءه من وجهة نظر صاحبه. وهنا يكمن المعنى وتكمن القوة. ولكن الآن من يسأل عن من؟ لا يوجد نقد… من ينتقد من؟ ليس هناك من نقد بالجامعات اللبنانية وبكل الأقسام، التمثيل والإخراج والديكور… نحن مجتمعات مسلّمة أمرها لله. والناس المسلّمة أمرها غير مستعدة لتصدير النقد ولا لاستقبال النقد.

اشتغلت في جريدة “السفير” على مدى ربع قرن، ومثل ما قدّمَت لنا المنابر نحن قدّمنا لها. “السفير” لها فضل علينا ولنا فضل عليها. كانت جريدة طليعية وكانت مختبرًا، وهذا المختبر قدّم مجموعة من الأسماء التي لا يمكن أن تتكرّر. كانت جريدة عربية ولم تكن جريدة تكتفي بالتعاطي مع الأمور الداخلية، وبالتالي كانت قادرة على أن توسّع آفاقنا. هناك شيء في البلد انتهى، الصحافة الورقية انتهت مع أن رأيي الشخصي أنها ستعود قريبًا، لا يمكن الاستغناء عن الصحافة الورقية، فلندن عادت للورقي وفي أميركا أيضًا. الشغل الافتراضي عمل منهك ومربك ويكلف كثيرًا على الصعيد المعنوي والجسدي والروحي. كنت مدير برامج في “صوت الشعب”، المسؤولون عن هذه الإذاعة أقفلوا الأبواب وفتحوا النوافذ ورموا المفاتيح منها، لا يريدون أن يروا ماذا يحدث في الخارج. لا أستطيع أن أعمل في إذاعة لا توافق على استضافة شخص لا يتوافق مع سياستها. أنا علماني ديمقراطي وأؤمن بكل من يقدّم أشياء جديرة، تأتين بمجموعة شباب موهوبين ليقدموا برنامجًا ما فيسألونك أليس هذا كتائبي وهذا مردة وهكذا، أجيبهم ما الذي يعنينا بذلك… أصبحت العلاقة معهم غير مفيدة لي ولهم فتركت الإذاعة. بتلفزيون لبنان، أدّعي أني حققت شيئًا. مجموعة من الشباب والصبايا الذين عملوا معي أصبحوا في تلفزيونات الخليج والعالم العربي، ويكفيني أنهم يذكرونني دائمًا. كنت أقول لهم أنا راحل، خذوا مني ما تستفيدون منه وما يطوّر أدواتكم كي تستعملوها في حال كنت موجودًا أو غير موجود. أدّعي أنني استطعت أن أطوّر بمفهوم الفترة الصباحية، وقلت لهم أننا أمام تحدّ كبير، هذه الفترة تراها سيدات البيوت ومؤسسات الدولة الرسمية المجبرة على مشاهدة القناة، واشتغلت على مفهوم العلاقة مع هؤلاء الناس، وتحولت على مدى 14 سنة إلى واحدة من الفترات البارزة. ببساطة لأنني من جيل يقدّم التعبير على أشكال التعبير، أي أنني في أي مكان يمكنني أن أقول ما أريد قوله على طريقتي سأقوله، سواء بالتلفزيون أو الإذاعة أو المقالة أو بكتابة الأغاني أو من خلال كتبي أو بالمسرح أو مداخلاتي بالمهرجانات، بأي مكان أستطيع أن أعبّر فيه عن نفسي وعن جزء من أفراد جيلي لن أتردد.

مرّت بيروت بفترات من الذعر من الآخرين، لأنهم خوّفوها. هناك أشخاص بالسلطة خوّفوها بأن القادمين إلينا غرباء. لكن بيروت لا تزال تمد يديها وتوسّع صدرها لكل الناس، لأنها مدينة كوزموبوليتية

(*) لديك 17 كتابًا تشكّل جزءًا من بنية تحتية للثقافة في لبنان، وكل كتاب هو سيرة مختلفة ومتنوعة عن المسرح وأبطاله: “الكتاب الراوي”، “تياترو العرب”، “ممالك من خشب”، “هم”، “أقول يا سادة”، “انقلاب التغيير على أصحاب التغيير في المسرح”، وغيرها… حدثنا عن مشروعك هذا الذي بدأ منذ عام 1995 ولا يزال مستمرًا، وماذا تكتب الآن؟

هناك كتب في نقد النقد، وطالما أن النقد غائب في لبنان والعالم العربي بالتالي فإن نقد النقد قضية مستحيلة. رأيي أن مشروعي للكتابة مشروع عبث، أن نتصفح كتابًا عن تاريخ المسرح العربي، ربما كان عندي نوع من الشجاعة الزائدة، أو ربما الجنون، ولكن فعلتها. عندما فكرت بالموضوع، قلت إذا أردت أن أكتب عن كل مسرحية يحتاج الأمر إلى أطنان من الورق، فوجدت المقترب الخاص بي فأجد فكرة لكل فصل، مثلًا، الفصل عن المسرح الفلسطيني ينطلق من فكرة ويذهب إلى أماكن أخرى، يقوم على فكرة الصراع بين العمارتين، الفلسطينية والإسرائيلية، السجن الإسرائيلي والمسرح الفلسطيني، وأخذت مسرح الحكواتي نموذجًا، قبل أن تضع السلطة الفلسطينية يدها عليه وتتدهور أحواله، بعد أن انتحر صديقنا فرانسوا أبو سالم، بأن رمى نفسه من على سطح بناية قيد الإنشاء. كان في القدس مركز “المسكوبية”، وكان الإسرائيليون كلما أرادوا إهانة مسرحي يأخذونه إلى المسكوبية، فاشتغلت على مقارنة بين مسرح الحكواتي والمسكوبية وانطلقت منه للكلام عن المسرح الفلسطيني. هي كتب جيدة، أعتقد أني لا أخجل بها. بين يديّ الآن كتاب عن عاصي الرحباني سيصدر بمناسبة مئوية ولادته، وأدّعي أنه كتاب مختلف. منذ عام وأنا أكتبه وسأسلّمه الشهر القادم لأن عاصي من مواليد شهر أيار/ مايو 1923، وسيصدر الشهر القادم.

(*) كل كتاب من كتبك هو نصّ أدبيّ إلى جانب كونه كتابًا سيريًا وكتابًا للزمان، وللمكان أيضًا، وكتاب نقدي لكل ذلك الحيّز المسرحي والزماني والمكاني. وثمة توظيف للروح الشعرية في كتاباتك ينسحب على كتابتك الصحافية… نود أن نتعرّف على علاقتك بالشعر وهل كتبت الشعر يومًا؟

أشتغل على اللغة، ولكن ليس الجميع يحبها. أحب الاشتغال على اللغة، وأستطيع أن أفعل كأي كاتب عربي، وأكتب شيئًا سريعًا وسهلًا، جرّبت أن أغيّر ولكن هذا أنا. وكل الكتّاب يبدأون بالشعر، فالشعر ديوان العرب، وكتبت الأغاني، أحب كتابتها كثيرًا. لحّن مارسيل خليفة من كلماتي وخالد الهبر وأحمد قعبور وزياد الهبر وزياد الرحباني. يقولون لي كيف تقول إنك لست بشاعر، فأقول الأغاني على خلاف كتابة الشعر، الشاعر يكتب قصيدة أما الذي يكتب أغنية فهو فقط كاتب أغنية. 

(*) أنت ابن بيروت، عايشت تحولاتها كلها، حتى أنه يمكنك أن تعدّ لنا انتصاراتها وهزائمها، أود أن أعود معك إلى بيروت السبعينيات، أنت الذي كنت في العمل الثقافي وفي العمل الشيوعي وفي العمل المقاوم، مع اليسار والقضية الفلسطينية، حدثنا عن تلك المرحلة، وعن بيروت اليوم؟

بيروت اليوم مثل بيروت الأمس، لا تصدّقوا أن بيروت تغيرت، الناس تغيروا أما بيروت فلم تتغير، هذه مدينة الرواد، لم يعد فيها رواد ولكنها لا تزال صاحبة الأبواب السبعة التي تفتح أبوابها لكل الناس. مرّت بيروت بفترات من الذعر من الآخرين، لأنهم خوّفوها. هناك أشخاص بالسلطة خوّفوها بأن القادمين إلينا غرباء. لكن بيروت لا تزال تمد يديها وتوسّع صدرها لكل الناس، لأنها مدينة كوزموبوليتية، مدينة قائمة على طريق الحرير، مدينة مساحات مشتركة، وحين تفقد هذه الميزات تموت، ولأنها قائمة على هذه الميزات لم تمت ولن تموت. الاتحاد السوفياتي الجبار كان الجزء الآخر في القطبية العالمية، قُسّم وتحوّل إلى جمهوريات، ولبنان هذا البلد الصغير كان مهددًا بالتقسيم، ولكن لم يحصل ذلك حتى الآن ولن يتقسّم، لأن لبنان حاجة لغير أبنائه، للآخرين، ولا توجد مبالغة بهذا الكلام. وهناك مسألة أساسية، العداء الإسرائيلي للبنان موجود لأن لبنان يقدّم النموذج النقيض لإسرائيل. عندما يقولون إنهم لا يستطيعون العيش مع الفلسطينيين، يحصلون على جواب: انظروا إلى لبنان كيف يعيش اللبنانيون مع الفلسطينيين ومع الجميع ومع بعضهم البعض وهم مختلفون، بالتالي لبنان “دملة” إسرائيل، والذي لا يفهم قصة العداء الإسرائيلي للبنان فليفهمها، نحن “دملتهم”. نحن بلد حضاري وكل من يقول بأن إسرائيل بلد حضاري كاذب، وأول من يكذب على نفسه هو الإسرائيلي. أيها الناس، هناك نساء فلسطينيات بالسجون الإسرائيلية، هناك أطفال فلسطينيون بالسجون الإسرائيلية، هناك شيء اسمه الاعتقال الإداري حيث يمكن للإسرائيلي أن يعتقل الفلسطيني دون أن يقول له لماذا يعتقله، يمكن أن يسجنك بدون سبب، يمكن للطائرات الإسرائيلية أن تقصف بعنف، فكيف تقولون إن إسرائيل مجتمع ديمقراطي!

دارين حوماني

https://diffah.alaraby.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش