ظلال بريخت لا تزال حاضرة على خشبة المسرح العربي

 

 

 المسرح البريختي اعتمد على دور الجمهور وعلى كسر الإيهام وعلى النزعة التعليمية
 تأثير بريخت أصبح تقنية معترف بها على كل مسارح العالم
 مسرح بريخت يلبي حاجات عميقة ودائمة الحضور في عصرنا

كتب برتولد بريخت أولى مسرحياته “بعل” وهو في الحادية والعشرين من عمره (1981)، وسبقها ببعض الأغاني والقصائد القصصية (البالاد)، ولا شك أن “بعل” حملت حياة بريخت الشاعر والفنان الذي خالط الصعاليك والفنانين المتجولين والعمال العاطلين، وارتاد الحانات والحواري والأزقة الضيقة، وبذلك عبرت المسرحية عن واقع الفرد واغترابه في مجتمع لا يحقق له إمكانات الحياة الضرورية، ويدفع به نحو مناطق التوتر والضياع، وهو الشكل السائد للكتاب المعاصرين للحرب العالمية الأولى..
وانطلق بريخت بعد ذلك ليؤسس منهجه الملحمي في المسرح الذي هدف من ورائه إلى كسر اندماج الممثل في الشخصية المسرحية التي يقوم بها، وتحرير المتفرج أيضًا من هذا الاندماج السلبي، ليكون أهم انقلاب في جمالیات العرض المسرحي في القرن العشرين، وعبر سنوات إبداعه التي شارفت على الأربعين عامًا، استطاع بريخت أن يضيف إلى صلب الدراما تيارًا قويًا بظلاله على خشبة المسرح في كافة أرجاء العالم.
ومع بداية الخمسينيات انتقل مسرح بریخت إلى الخشبة العربية في مصر ولبنان وتونس والمغرب والعراق وغيرها، لتتجلى تأثيرات هذا المسرح البريختي في كافة عناصر المسرح من كتابة وإخراج وتقنيات جمالية، ومازال بریخت يمارس حضوره في المسرح العالمي ومن ثم تنهض الأسئلة حول ما تبقى منه عربيًا، وتأثيراته على الخشبة العربية وحاضره اليوم ومستقبل منهجيته.
ويرى نقاد بريخت أن ما يميز منهجه أنه وبالرغم من سقوط الأيديولوجية الماركسية التي قام عليها، يظل منهجًا فكريًا وفنيًا صالحًا للتطبيق في كل زمان ومكان، وأهميته تتركز في أنه المنهج أو الأداء الوحيد في الدراما الذي يحقق وظيفة التنوير كما ينبغي أن يتحقق، وهو يسعى إلى العدل الاجتماعي في غيبة الايدولوجيا.

مسرحية "بعل" لبريخت
أول مسرحية لبريخت تعبر عن اغتراب الفرد

وعلى المستوى العربي، ترك بريخت آثاره في عدة بلدان مثل سوريا حيث قُدم له مسرحية تعليمية هي “القاعدة والاستثناء” سنة 1992 في مسرح الجيب، وأخرج  له المخرج الراحل سعد أردش مسرحية “الإنسان الطيب” سنة 1966  ثم “دائرة الطباشير القوقازية”سنة 1968 مع المخرج الألماني كورت فيت، وقد فرض بریخت نفسه أيضًا على المسرح في سوريا والعراق ولبنان بشكل خاص، كما تم تقديم مسرحية “الأم شجاعة” التي أخرجتها ليلى يوسف في أوائل السبعينيات، ولكن بریخت تسرب كمنهج إلى معظم كتاب المسرح المعاصرين والذين حاولوا مناقشة قضايا الأمة الاجتماعية والسياسية، ونلاحظه بشكل واضح لدى أعمال الراحل سعدالله ونوس وألفريد فرج. وميخائيل رومان ومحمود دياب وغيرهم، فقد وعى هؤلاء أن الهدف المسرحي هو التفكير والتغيير من خلال المنهج الملحمي الذي استخدمه بریخت، ولم يقف هؤلاء عند تقنيات بریخت فالفن لا يكفي فيه المحاكاة بل لابد من الاضافة، وهذا لا يمنع أن يظل منهج بریخت لقرون طويلة مثل المنهج الأرسطي، وأن يتكيف مع الاحتياجات الجديدة، فإذا كان بريخت قدم منهجية البناء الاشتراكي ونقد الرأسمالية بكل فظاعتها وأزماتها فإن المجتمع الرأسمالي ما يزال قائمًا ومنهجية بریخت صالحة من أجل التغيير إلى مستقبل متفتح آخر.
وتسرب بريخت أيضًا إلى الكثير من المخرجين العرب الذين زاوجوا بين منهج ستانسلافسكي ومنهج بریخت العقلاني القادر على توصيل الدلالة بشكل أوضح للجماهير وأيضًا الممثلون العرب الكبار تسرب إليهم منهج بریخت من خلال القراءة أو المشاركة في أعماله.
ولعله من الواضح أن  تأثير بريخت لم يكن قاصرًا على بعض المؤلفين، أو كسر الايهام ومحاولة إحداث صدمة، بل أصبح كل ذلك تقنية معترف بها، ويقوم بها معظم المسرحيين، فقد ألقى بریخت بظلاله على الإخراج والتمثيل، وكافة مشتملات العرض المسرحي فالممثل الذي يقنع الجمهور  بأنه يمثل هي تقنية بريختية، والمشاهد الذي لا يستغرق في العرض أو يتوهم بأن ما يعرض طبيعي – لأن هناك مسافة لعادة النظر والتفكير في النص وهذا ما كان يقصده بريخت.

بصمة بريخت كانت وما تزال واضحة جدًا على المسرح العربي، ليس من زاوية الكتابة فقط بل من زاوية الأداء والإخراج والديكور والإضاءة

تيار بريخت
الناقدة فريدة النقاش، ترى أن منهج بريخت لم يستنفد قدراته وإمكاناته الكامنة بعد في المسرح العربي ولا العالمي، بالرغم من تأثيره القومي في الأجيال الجديدة من الكتاب والمبدعين المسرحيين في العالم العربي، ومازال بريخت ومسرحه الملحمي الذي يعتمد على ذاكرة الجماعة وقدرتها على أن تخط لنفسها أفقًا للمستقبل ليس مجرد موضة عابرة تنبثق ثم تنطفئ كالشهاب لأنها تلبي حاجات عابرة.
وتضيف: إن مسرح بريخت يلبي حاجات عميقة ودائمة الحضور في عصرنا وأحددها على النحو التالي: إن مسرحه الملحمي اعتمد اعتمادًا كبيرًا على دور الجمهور وعلى كسر الإيهام، وعلى النزعة التعليمية من جهة ثالثة، وحاول في هذه التركيبة التي قطعت مع تراث الخشبة المغلقة الإيطالية وميزت عصرًا هو عصر الشعوب ليختلف بشكل جذري عن المسرح الشكسبيري الذي اعتبره قمة ما انجزه في هذا الميدان، وجاءت هذه التركيبة كي تعبر في تجاوز العالم البرجوازي، وخلق عالم شعبي حقيقي عبر المسرح، وبالتالي كان لابد أن تصبح أدواته وقيمه ورؤيته للعالم جديدة كل الجدة، لتميز عصرًا بكامله مازالت إمكانيات هذا المسرح فيه لم تستنفد بعد، أي العصر الذي تشعر فيه الشعوب جميعًا إلى تجاوز الوضع الراهن للرأسمالية وبناء عالم جديد بقيم جديدة وأفكار جديدة.
وتضيف فريدة النقاش: لقد أثر بريخت واسعًا في كل أجيال المسرحيين في الوطن العربي منذ عرفناه في الخمسينيات، فتأثر به أهم الكتاب من محمود دياب وميخائيل رومان (مصر)، وعبدالكريم برشيد (المغرب)، وعز الدين مدني (تونس)، وروجيه عساف ونضال الأشقر (لبنان)، وقاسم محمد ويوسف العاني (العراق)، أي أن بصمته كانت وماتزال واضحة جدًا على المسرح العربي، وليس فقط من زاوية الكتابة فقط بل من زاوية الأداء والإخراج والديكور، فعلى سبيل المثال كان بريخت يدعو إلى إضاءة شاملة لكي لا يوحي بأي شكل من الأشكال أن ما يقوم به حقيقي، ويدعو المتفرج إلى دور ايجابي وليس كمتلقي سلبي.

مسرحية بعل لبريخت
“بعل” أولى أعمال بريخت على مسارح عالمية

وتعتبر النقاش أن بريخت علامة مسرح النظام الرأسمالي وضرورة تجاوز هذا النظام وأحد العلامات الانسانية فيه، ولم تكن مصادفة فقد كان بریخت مناضل اشتراكي وشاعر وفنان مسرح اشتراكي، وسوف يبقى تأثيره مثلما بقى تأثير شكسبير، وربما بنفس القوة والزخم، وهو تعبير عن احتياجات كامنة ولم يجر التعبير عنها بشكل واضح مثلما عبر بریخت، هذا ليس معناه أن تيار بریخت يبقى دائمًا هو التيار الوحيد، فنحن نعيش في مجتمعات لها طابع التعدد، وسوف تبرز تيارات أخرى، لكن تيار بريخت سيظل هادرًا وقويًا لأنه استلهام الاحتياجات عميقة في التحول الموضوعي للإنسان، نحو تجاوز عالم الفوضى والوحشية إلى عالم أفضل وأرقى.
الاستثناء والقاعدة
الناقد د. حسن عطية، أستاذ النقد المسرحى بأكاديمية الفنون، يقول بقي من بريخت الكثير وتأثيراته الأساسية على المسرح العربي ليست فقط من خلال التأثير المباشر، وإنما أيضًا تأثيره في الكتابة الدرامية لدى عدد كبير من الكتاب مثل سعد الله ونوس والفريد فرج ويسري الجندي وغيرهم، وبالنسبة لصياغة العرض المسرحي والتعبيرات التي طرحها بريخت مثل كسر الحائط الرابع والجدل مع الجماهير، وفهم المسرح كأداة تأثير تغييري وتنويري في المجتمع،، إن مسرح بريخت يعتبر أهم انقلاب مسرحي في جماليات العرض المسرحي في القرن العشرين، ولذلك سيبقى تأثيره مستمرة إلى زمن طويل قادم، طالما المسرح العالمي وليس العربي فقط في حاجة للتجديد. (وكالة الصحافة العربية)

https://middle-east-online.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش