صانع المسرح” صورة الممثل في انتصاره وانكساره لدى برنهارد / أبو بكر العيادي

مسرحية “صانع المسرح” تثير ضحك الجمهور حينا، وينقبض لها قلبه حينا آخر، وتصيب المرمى في تصويرها عظمة الممثل ومأساته، انتصاره وانكساره بعمق نادر.

بعد نقد الطبقة السياسية في النمسا، ونقد المجتمع النمساوي ونخبته، ونقد عائلته نفسها نقدا جارحا في شتى الحالات، وجّه توماس برنهارد نقدا لاذعا هذه المرة إلى الفنانين بعامة، ورجال المسرح بخاصة، في مسرحية “صانع المسرح” التي عرضت مؤخرا على خشبة “دوجازي” بالعاصمة الفرنسية باريس.

“صانع المسرح” للكاتب النمساوي الشهير توماس برنهارد هي مسرحية داخل مسرحية، بطلها بروسكون مؤلف وممثل ومخرج في الوقت نفسه، لا يملك بدل الموهبة سوى طبع سيئ، ومزاج عكر، وغرور يفوق الحد، ونرجسية تصوّر له أنه أعظم رجل مسرح على الأرض.

بروسكون هذا يملك فرقة تمثيلية تتألف من أفراد عائلته، قرر أن يقودها إلى مكان ناء في أرياف النمسا ليعرض مسرحية بعنوان “عجلة التاريخ”، يحاول أن يضع فيها بعض رجال السياسة البارزين وجها لوجه، بلا طائل، فكل ما خطط له وأراد تنفيذه لم يستطع تجسيده على الخشبة لأسباب عديدة، هذا العرض الذي أراد أن يستهل به تجربته في محاولة كسر المركزية، ونشر المسرح في البلدات والقرى البعيدة عن العاصمة فيينا، كان أول أعماله.

تحط الفرقة رحلها في خان ريفي بقرية أوتزباخ به قاعة رقص يجعل بروسكون من مصطبتها خشبة لأداء فرقته، ولكن سرعان ما يتضح له أن المكان لا يناسب الفن المسرحي، سواء من الداخل أو من الخارج، فمن الداخل، القاعة صغيرة مكسوة بالغبار، والركح ضيق، والتقنية الصوتية متعذرة، وأضواء النجدة لا تنطفئ.

أما في الخارج، فثمة جمهور غير مثقف، ورجال مطافئ هواة، وعنصريون يعادون الأجانب، وخنازير، فمن الذي سينهض بأداء هذه المسرحية في مثل هذه الظروف؟ قطعا ليس ممثليها، أي تلك الفرقة المكونة من زوجة بروسكون وابنه وابنته، ومن بروسكون نفسه، الذي يعتقد جازما أنه نجم موهوب، لا كِفاء له. وربما لذلك كان يعامِل فرقته كما يعامَل الرقيق، بلسان فظ، وكلام جارح، وانتقاد لا ينتهي، والمفارقة أنه يعشق المسرح، ويبذل قصارى جهده كي ينجح عمله.

هذه الشخصية المحورية المعقدة تقمصها كأحسن ما يكون الممثل أندري ماركون، الذي عرفناه ممثلا في أكثر من عشرين شريطا سينمائيا مثل “بَشَرة الملائكة”، و”الحياة الموعودة”، و”المستحمّات”، ونحو عشرة أفلام تلفزيونية، ولكنه يستمد شهرته من الأعمال المسرحية العديدة التي تفوق الأربعين عملا، من تأليف كبار المؤلفين المسرحيين من شكسبير، وموليير، وراسين، وغولدوني إلى فيدو، وجورج بوشنر، وبرنار ماري كولتيس، وهارولد بنتر، وياسمينة رضا..

استعارة متواترة للحياة لاسيما خواءها
استعارة متواترة للحياة لاسيما خواءها

أندري ماركون أضفى على تلك الشخصية لمسة مضحكة، وعنفا مرعبا، وسذاجة طفولية، ذلك أنه محبوب وبغيض، منفتح وطاغية خاصة تجاه أفراد عائلته، زوجته التي تداوم السعال خوفا منه لكثرة ما يؤنبها ويغلظ لها القول، وابنته التي يرجها فتواجهه بعناد، لأنها تعرف تقلّب أطواره، وتدرك ما سوف يتلفظ به قبل أوانه، وإن كانت أيضا تتحاشاه في أحيان كثيرة، مثل ابنه الذي يضعه والده أمام رهانات متتالية قصد امتحانه ووضعه على المحك.

ذلك أن بروسكون، حين يقف على الخشبة أو وراءها ليسير فرقته له شروط يلزم بها الممثلين مثلما يلزم بها صاحب القاعة، ولا ينفك يتذمر من جمهور متبلد الذهن، بعد أن اكتشف أن سكان هذه القرية يهتمون بعيد السُّجُق (نقانق من دم الخنزير) أكثر من اهتمامهم بالمسرح، لاسيما إذا كان صانعه هذا الممثل المتغطرس الذي يعيش في عالم خاص به وحده، يقضي الوقت في توجيه سيل من الشتائم الحاقدة، والمضحكة في آن واحد، ضد النمسا وسكانها، وضد هتلر، والمسرح، وأفراد أسرته، رغم أنه يظهر لهم أحيانا من المحبة ما يجعل المتفرج حائرا أمام هذه الشخصية المعقدة.

عناصر كثيرة من سيرة الكاتب الذاتية تنطوي عليها هذه المسرحية التي عرضت مؤخرا على خشبة “دوجازي” الباريسي، والتي يعتبرها نقاد المسرح ورجاله من أفضل ما ألّف توماس برنهارد، فيها يمتزج الحب بالكراهية شأن سائر أعماله، ولكن خلف هذا المزاج العكر الظاهر أنشودة حب للمسرح، ومن يصنعه، ومن يخرجه، ومن يؤديه، وإن كان النص بالغ التعقيد رغم بساطته البادية، والذين جربوه يعرفون مقدار الصعوبة التي ينطوي عليها بسبب التكرار الذي يسِم لغته.

يقول أندري ماركون الذي تقمص دور بروسكون “لقد جَهدت كي أحفظ النص، مثل عازف بيانو لا ينفك يعزف مقطوعة ويعيدها حدّ الملل كي يتمرس بها ويكتسب دقائقها، بل إن النص سكنني حدّ الهوس، حتى صرت أفاجئ نفسي باستعمال فظاظة بروسكون في تعاملي مع أقربائي وأصحابي”،  وفي رأيه أن هذا النوع من المسرح يشترط في من يُقدم عليه سيطرة تامة على شتى مكوناته.

مسرحية تثير ضحك الجمهور حينا، وينقبض لها قلبه حينا آخر، وتصيب المرمى في تصويرها عظمة الممثل ومأساته، انتصاره وانكساره بعمق نادر، وهذا ليس غريبا على كاتب في قيمة توماس برنهارد فالمسرح حاضر في أعماله، حتى في النصوص التي لم يضعها للمسرح، لأن الفن الرابع يمثل لديه استعارة متواترة للحياة، لاسيما خواءها.. وضياع المعنى في المسرح هو انعكاس لضياع معنى الحياة.

_____________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش