شباك اوفيليا وكينونة الوجود / د. منتهى طارق المهناوي‏#العراق

على قاعة المسرح الوطني وتحديدا خشبة مسرحه التي ضمت جمهوره وممثليه بحميمية لقاء متجدد بعد احداث صعبة مرت على العراق والعالم منها مظاهرات تشرين وجائحة كورونا، استدعت الفرقة الوطنية للتمثيل في موسمها الجديد عروض متنوعة ومتواصلة لكسر الظروف الراهنة التي نمر بها، شباك اوفيليا المسرحية التي كانت ضمن سلسلة هذه العروض لمخرجها الفنان الدكتور مناضل داوود ومؤلفها الفنان الدكتور جواد الاسدي ولنخبة مميزة من ممثلين المسرح العراقي ( الفنان نظير جواد‘ الفنانة زهرة بدن، الفنان اياد الطائي، الفنان حسن هادي، الفنانة الاء نجم، الفنان جاسم محمد، الفنان امير احسان، الفنان احمد شوقي، ونخبة من الممثلين الشباب)
كانت النظرة جديدة لشخصيات مسرحية هاملت، من خلال شباك احدى الشخصيات المهمة وهي اوفيليا التي نعرفها كشخصية هادئة ومستكينة ومنعزلة في الدير، نجدها هنا تفتح شبابيك جريئة تخاطب السلطة العليا هذه الشبابيك فتحت نوافذها كلا حسب وجهة نظر كاتبها الدكتور( جواد الاسدي) الذي صرح اليوم عبر لسان شخصياته بسردية تناصيه برؤيها للواقع ضمن مفهوم (الان وهنا) كما أشار لها هايدغر بظاهريته، هذه الاطلالة الواقعية من موشور شباك التاريخ لعبت دورا رياديا كما عهدناها عالميا بتحايل حواري وظفه الكاتب وبذكاء مفرط بتشريع نوافذ متعددة من خلال شباك واحد، الاسدي اليوم قد فتح شباك خطير بشبابيك متعددة يحاكي بها قضية وطن بتصوير دواخله من خلال هذا الشباك الذي استدعانا معه لنطل على احداثه كلا حسب رؤيته لساحة اللعب فكانت هناك رؤى مختلفة في تأويل العرض ومنها رؤيتنا البسيطة المتواضعة.. كشفت لنا الميتا للغة التي تقصدها الكاتب بسرد ما يحدث فوجدت من خلال هذه اللغة المخفية ساحات التظاهر اليوم التشرينية.. تحدثت عن واقع مرير بأسلوب تاريخي مفبرك استعارة التفاتيه لا يدركها الجميع هذه الاستعارة الجمالية التي وقعت ضمن الحاضر بتوظيف ممتع رائع بمعية مخرج فاهم وعارف خبايا النص برؤيا مختلفة وبلعبة ذكية غير مألوفة الفنان مناضل داوود الذي رسم ساحة لعبه بلوحات ثلاث الأولى افتتح بها العرض برقصة جمالية معبرة ثم اللوحة الوسطية التي دارت بها احداث المسرحية ليصل بنا الى اللوحة الأخيرة النهائية التي شكلت بشكل رائع وبنهاية مفاجئة وفنتازيا دعمت الرؤيا المشهدية للمتلقي سنتطرق لها ومجريات الاحداث التي سنوردها لاحقا.
وظف المخرج مناطق عدة ضمن عرضه المسرحي ومنها، منطقة التاريخ ومنطقة الحاضر ومنطقة المستقبل، التاريخ الذي استعار منه شخصياته بكل تفاصيلها من زي وأسلوب وحركة مسرحية مثلا مشهد اللوحات الراقصة التي كانت بمثابة تاريخية حاكمة لطراز ذلك الزمن، ثم منطقة الحاضر الذي زاوجه بشكل منسجم مع التاريخ بتوظيف التكنلوجيا بشكل مميز ومنها استخدام جهاز الموبايل من قبل جميع الشخصيات ومن قبل بولونيوس الذي يسجل محادثة توثيقية بين الملكة والعم الملك إشارة لتدوين التاريخ ولكن بشكله الحداثوي وأيضا توثيق هاملت لاوفيليا وهو يصورها بجهاز موبايله الخاص وغيرها من المشاهد المشابهة، علامات مهمة بتبعية التقدم والثبات جزئيتين وان اختلفا لكنهما يبقيا على مر التاريخ واحدة بإشكال مختلفة.
استخدم المخرج شخصياته باتباعه لحوار النص حرفيا بلعب الشخصيات التاريخية دورها في زمن معين وهي مازالت لليوم تلعب الدور نفسه ولكن بشكل يوائم وطرح العصر ومجرياته الانية، بكشفه عن مزايا استحواذ السلطة لصوت الاخر من خلال تكميمها للأفواه لكل من يعارض توجهاتها ومصالحها بلبسه الكيس الأسود برأسه واخذه لجهة غير معروفة. والتي توضحت بشكل ملفت بشخصية لايرتيس الاعمى والمبصر الوحيد بنفس الوقت في زمن العرض والزمن الحالي يرى ما لايراه الاخرون له، البصيرة بان يرى مايدور في أروقة السلطة لذا يحكم عليه بالسجن بمستشفى والموت اخيرا. لو قفنا قليل عند الشخصيات النسائية اوفيليا – حبيبة هاملت وابنة بولونيوس. وجرترود – ملكة الدانمارك ووالدة هاملت. لوجدنا ان العرض قد اعلى من شخصية المرأة وانقص شخصية الرجل التي ظهرت وبشكل واضح بضعفها واستسلامها لما يدور حولها، هاملت هذه الشخصية الفذة الوجودية (أكون أولا أكون ذلك هو السؤال) القوي الذي يستغني عن كل شي حتى حبيبته التي عشقها اوفيليا ليثأر لوالده الذي يظهر طيفه بين فينة واخرى ظهر مستسلم خانع لما يحدث حوله بعكس حبيبته اوفيليا تماما القوية والشجاعة مغايرة لحقيقة النص الذي ظهرت به وهي تسكن الدير وتنتحر اوفيليا بزيها الأحمر هنا تنتقم وتقود معركة في سبيل التحرر من القيود وتبحث عن الحرية حرية اخيها وحريتها من حبيبها ومن السلطة المكبلة بسلطة فرضت عليها وهي تقاوم كلوديس – ملك الدانمارك و عم هاملت. وهو يحاول ان يلتهم كل شيء امامه سلطة ونفوذ واوفيليا لكنه في أوقات عدة نراه لا يقاوم امام قوة وجبروت الملكة جرترود وهي تعاني صراعها النفسي بتأنيب ذاتها بما فعلته من مساعدة لقتل زوجها الملك ونزع السلطة وتسليمها لعشيقها. إشارات ودلالات ايحائية لمن يخون وطنه ويرجع بضميره ليصحو على شنيع فعلته. ولو لحظنا ان الكشف عن الايحاءات المستمرة بالعرض من خلال رموز مضمرة عدة منها الطرف الثالث بولونيوس المتملق للسلطة من اجل ديمومتها على حساب ابنته وابنه وهم اليوم عدة في واقعنا الحالي متملقون يضحون بكل شيء من اجل إرضاء اسيادهم.
للسينوكرافيا دور واضح بتجسيدها بشكل جمالي ورائع بالعرض ابتداء من المرايا المعلقة فقط وجود اطارها من اعلى المسرح متمثلة بجثث لشخصيات اغلبها رجال مرورا لرمز كرسي العرش الذي بدى لنا صغيرا جدا نسبة الى دلالته المتعارف عليها كرسي العرش استبدل برسم تاج صغير على كرسي ضئيل دلالة أخرى بثها العرض لسلطة واهية مدمرة زمنها منتهي، مرورا بالإضاءة التي كشفت خبايا الأداء واللعب التمثيلي وما لعبته الوانها من دلالات واشارات مرورا بأزياء الشخصيات التي رمزت بشكل وباخر لدلالات مضمرة، حتى الصمت الذي تكرر بمشاهد مختلفة كان له مقصده لم يكن اعتباطا.. ثم نصل الى حوض السباحة(البانيو) توظيف اخراجي برؤى متعددة التفسير والتأويل وضع فيه المخرج شخصية هاملت ليرمز به لغسله وطهارته مما يحدث وأيضا استعدادا للتجهيز لحفلة زفافه من اوفيليا وتوظيف بشكل اخر ومهم وحرفي جدا بان يكو بمثابة تابوت للدفن وهو كذلك دفن به هاملت ولم يتبقى منه سوى الرأس اشارة الى موت هاملت نصفيا وموته غرقا بغطسه تحت الماء وموته… ثم ينهي المخرج عرضه المسرحي بلوحة تشكيلية أخيرة لوحة اتجهت لزمن شكسبيري بتشكيل وتكوين حرفي جدا وهو يشكل بجساد ممثليه حركات ايمائية صامته وبأنفاسهم الأخيرة للعرض ببدلة زفاف بيضاء لاوفيليا بقاء واستمرار بديمومة حياة متجددة ثم تنتهي اللعبة بتسليط بقعة ضوء على بولونيوس وهو يسحب اوفيليا ليسلمها للملك وبقعة ضوء أخرى سلطت على الملك وهو يستعد ليتسلم مبتغاه نهاية مفتوحة يفسرها ويأولها المتلقي بحسب رؤياه وفهمه لمسار العرض المسرحي… هناك مأخذ على مكان العرض بان وظف المخرج الخشبة (الاستيج) هو ذاته لتلقي الجمهور وللعب التمثيلي مما ارهق عملية التواصل الجمالي لتعب المتلقي من جلسته المرهقة. المخرج اختار المكان وشكله قصديا نعم ليخلق الحميمية بين المتلقي وفضاء العرض لكن لو ونه اتجه لمنتدى المسرح لكان يفي بان يخلق هذه الحميمية لكن للمخرج رايه ورؤياه.. اختيار الممثلين كان موفقا جدا كل حسب دوره:
هاملت – ابن الملك السابق وابن أخ كلوديس. الذي جسده الفنان اياد الطائي ضمن إيقاع بطي مقصود اثرى دوره وشكل نقطة أخرى لمسيرته الفنية أداء متقن رصين عارف بخبايا اللعب المسرحي… كلوديس – ملك الدانمارك و عم هاملت. الفنان جاسم محمد الذي برع هذه المرة أيضا باثبات ان للعب شكله وحرفيته لشخصية وذات الممثل نفسه حقق بها بصمة تؤكد وجوده الفني الرصين…. جرترود -ملكة الدانمارك ووالدة هاملت… جسدتها الفنانة القديرة زهرة بدن ذات التاريخ الطويل بفضاء المسرح فهي كما عهدناها لاعبة لكل دور صعب ومجيدة بارعة بخلق الجمال المشهدي… اوفيليا – حبيبة هاملت وابنة بولونيوس… الفنانة الاء نجم المجدة والمجددة باداءها وفعلها الجمالي تخلق جوا بارعا في اثارة إيقاع اللعب المسرحي… بولونيوس – لورد شمبرلاين…. الفنان حسن هادي تكبر الفجوة حين نقول اسمه الجميع يعرفه ويدرك ابداعه واشتغاله المستمر في رفد ذاته الفنية ورفد أدوار مهمة للمسرح العراقي. لايرتيس – ابن بولونيوس….. الفنان امير احسان هذا الشاب المجتهد والذي ابدع بادواره السابقة يبدع اليوم بظل شخصية مختلفة مثابرة واجتهاد وتثقيف الذات والتعب على تنمية مدركاته الفنية… هوراشيو – صديق هاملت… الفنان احمد شوقي الذي نراه اول مرة ونظرتنا له كبيرة وهو يؤدي ببراعة فنان محترف له مسيرته المتميزة بطبقة صوت رخيمة جميلة.. وأخيرا وليس اخرا المجموعة التي أدت مشاهد عدة منها مشهد الاغتيالات بشكله الحداثوي. هؤلاء صاغو جمال شباك اوفيليا باللعب، يتراسهم المدون الكبير صانع النص الجمالي برقي تاريخه وبراعة وزخرفة حروف قلمه الدكتور جواد الاسدي وقائد الأوركسترا المخرج الدكتور مناضل داوود وهو يرسم لنا لوحات جمالية انيقة غاية بالدهشة والروعة والاختلاف.. كذلك الفنيون وراء كواليس الخشبة المبدعون والحريصون على ان يخرج العرض بشكله المتكامل.. شكرا لكم جميعا لرفدكم اوكسجين الجمال لروحنا بعد ان توقف لشهور عدة.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش